شكلت “غواية العلم” سببًا رئيسيًا يدفع بالشباب إلى أحضان السلفية “العلميّة”، لما يظهره هذا التيار من تقدير كبير واهتمام جوهري بموضوع “العلم الشرعيّ”، العلم في الحالة السلفيّة يترجم إلى “سلطة المعرفة”، ويكون محلًا للتنافس بين الأقران والتلاميذ، من يحصّل قدرًا أكبر من المعرفة العلميّة الدينيّة، هو من يرتقي في سلم التيار، والعلم الشرعي كذلك سلطة موازية للسلطة السياسيّة والاجتماعيّة والماليّة، فكما أن المسؤول لديه سلطة سياسيّة، والغني لديه سلطة ماليّة، وشيخ العشيرة له سلطة اجتماعيّة؛ فإن السلفيّ يمتلك سلطة علميّة بديلة، فبعض أبناء هذا التيار سيجد في “سلطة العلم” تعويضًا عن شعوره بالحرمان من السلطات الأخرى غير المتاحة.
لكن السياسيات السعودية الجديدة، شكلت “قفزة في الهواء”، بالنسبة لأبناء هذا التيار المرتبط تمويلًا وإدارة من الوهابيّة السعودية، تخيّل، بعد سنوات من الحرب على الموسيقى والأغاني وشنّ حملات طعن وإسقاط بحق العلماء والمشايخ الذين أجازوا استخدام الموسيقى في الأناشيد الإسلاميّة، أصبح السلفيّ مطالبًا بتجويز الاحتفالات الراقصة والحفلات الغنائية والمهرجانات الرخيصة التي تقيمها الدولة السعودية رسميًا عبر “هيئة الترفيه”.
وبمناسبة ذكر “هيئة الترفيه” كم بدى ترفيهيًا خروج شيخ سلفي معروف، وهو يشارك في مسابقة “البالوت”؟ هذا تحقير وتسفيه لمسار سلفيّ طويل، كثيرًا ما كان يُعنى بالمظهر الخارجيّ كجزء من الهويّة، وهو مسارٌ بذلت فيه جهود ضخمة لترسيخه، تخيّل مثلًا الشيخ ابن باز (رحمه الله) يلتقط السلفي وهو يلعب “البلياردو” أو يشارك مقطعًا راقصًا من احتفالات الدرعيّة “منبع التوحيد”؟ كم سيبدو ذلك تحقيرًا للشيخ ومدرسته!
برزت في الساحة، سلفيات جديدة، منها سلفيّة ليبيا -مرتبطة تنظيميًا بالوهابيّة السعوديّة وتمويلًا بجهاز مخابرات دولة الإمارات- أصبحت تملك مليشيا مسلحة يقدوها سلفي معروف
السياسات السعوديّة الأخيرة، تشكل طعنة في عنفوان السلفية، التي لطالما تباهت برصانتها العلميّة واتساقها مع منهجها وتمسكها بالمظهر الهوياتيّ (اللباس، السواك، اللحيّة، الثوب القصير..).
العقلية السلفية، التي شكلت لصاحبها ضمانًا بعدم الملاحقة الأمنيّة والتبعات التي يحملها أبناء الحركات والتيار الإسلاميّة الأخرى نتيجة معارضهم لبعض ممارسات السلطة، فتمثل قدسية الحاكم وعقيدة الطاعة العمياء لولي الأمر –والعمل كمخبر وجاسوس على أبناء التيارات الإسلامية الأخرى – “صك براءة” لحماله الوهابيّ، لكن لم يكن السلفيّ مطالبًا بأكثر من الصمت وتبرير بعض التصرفات التي لا تصطدم مع أبجديات العقلية السلفيّة (الموسيقى، الغناء، الرقص، العروض المسرحيّة، حمل السلاح)، كان التركيز على الشأن الدينيّ المحض، أي التعاطي مع الشأن الدينيّ بوصفه جوهرًا غير ملتبس بالاعتبارات السياسيّة.
لكن برزت في الساحة، سلفيات جديدة، منها سلفيّة ليبيا -مرتبطة تنظيميًا بالوهابيّة السعوديّة وتمويلًا بجهاز مخابرات دولة الإمارات- أصبحت تملك مليشيا مسلحة يقدوها سلفي معروف، مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بسبب ارتكاب مجازر وتنفيذ عمليات إعدام ميدانيّة خارج إطار القانون. ومليشيا أخرى في اليمن تحمل اسم حاكم لبلد آخر، وتمارس الحرب ضد الدولة “الشرعية”، وتطالب بالتقسيم، وتعلن نفسها كجزء من قوى “ثورة”، ويقودها شيخ سلفيّ! أي عقل سلفيّ متسق مع علمه وأبجديات معرفته، يرفض ذلك رفضًا قاطعًا، ولا يستطيع التعامل معه.
في الأردن مثلًا أغلب شيوخ التيار السلفيّ، من ذوي أصول فلسطينيّة، بحسب أكثر من دراسة متخصصة في الحقل الديني بالأردن، وسيكون من الصعب عليهم تبرير الجهود السعوديّة في التطبيع العلنيّ مع الصهاينة وحصار القضية الفلسطينيّة والعمل على تصفيتها، وتمويل حملات ترامب المعادية والكارهة للإسلام والمسلمين، وحتى الحرب على تيارات الإسلام السياسيّ المتجذرة شعبيًا في الأردن غير ممكنة، من الناحية السياسيّة، ذلك أن التيار متجذر شعبيًا وله وجود رسميّ شرعيّ، بضمانة الدستور الأردني ويملك نواب وأكاديميين وعلماء وشخصيات وطنيّة رفيعة المستوى أردنيًا، فستكون الحرب على هذا التيار حربًا على الدولة الأردنيّة ودستورها وشرعيتها، بالإضافة للحديث المتزايد في الشارع الأردني والعربي عن مصادر تمويل التيار السلفيّ هذا، وطبيعة علاقته مع السعودية – بشكل أدق علاقته مع المخابرات السعودية-.
قد نختلف حول تفاصيل الإنشقاقات وأزمنتها، لا يمكن القول أبدًا ببقاء “السلفيّة” بشكلها الحاليّ، الوهابيّة سقطت وتهاوت
لم يعد الحديث ممكنًا عن “سلفية علمية” بل هناك “سلفيّات” متعددة، ولم تعد السعوديّة الممول والراعي لهذه الحركات، بل دخلت الإمارات على هذا الخط فأصبحت الراعي الرسميّ للمليشيات السلفيّة المسلحة في اليمن وليبيا، وهنا المفارقة! وهي من تحوي “أقطاب” التصوف وتموله، وهم خصوم السلفيّة الأشداء، وما مؤتمر الشيشان إلا واحد من مفرزات هذا التنظيم الصوفيّ، إضافة لما تبثه دولة الإمارات من برامج تلفزيونيّة دعوية لأمثال وسيم يوسف وعدنان إبراهيم ومحمد شحرور أعداء السلفية الألداء، ومن يدري فكما أصبحت الوهابيّة السعوديّة مطالبة بترير كل تصرفات ولي العهد، قد تصبح مطالبة أيضًا بالتوقف عن الرد على عدنان إبراهيم و”ضلالات” شحرور، بل ودعمهم والترويج لهم أيضًا، من يعلم؟
بناءًا على ما سبق، يمكن القول أن هناك إنشقاقات ضخمة قادمة داخل التيار نفسه، وستبدأ من الخارج إلى الداخل، أي ستحصل الانشقاقات في الدول العربية ومن ثم تصل إلى القلب في السعودية، وذلك لجملة أسباب يمكن تلخصيها: تعارض التوجهات السعودية الحالية مع أدبيات التيار الأساسيّة، تشكل مجموعات وهابيّة مسلحة، ونشأة جيل جديد من المثقفين السلفيين، تشكل وعيه السياسيّ على غزو العراق وأفغانستان، وحروب الكيان الصهيونيّ ضد غزة، وثورات الربيع العربيّ، هذا الشباب السلفيّ المثقف، يعدّ علامة فارقة داخل هذا التيار المعروف بسذاجة تجربته الفكرية والروحيّة، إضافة إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتضخم أعداد متابعي بعض الشباب السلفيّ على تويتر وفيسبوك، وهو ما شكل “سلطة موازية” لسلطة حراس التيار وشيوخه.
ختامًا، قد نختلف حول تفاصيل الإنشقاقات وأزمنتها، لا يمكن القول أبدًا ببقاء “السلفيّة” بشكلها الحاليّ، الوهابيّة سقطت وتهاوت، وعلاقة “السلفية العربية” بالمخابرات السعوديّة تنظيمًا وتمويلًا وتوجيهًا أفتضحت، والإنفاق السعوديّ الرسمي على المدارس والبعثات التبشيريّة الوهابيّة أغلق، – بالطبع ما انتشر وروّج له خلال سنوات عبر براميل النفط وثروات آل سعود حتمًا سيندثر بانقاطعها- أما أولئك الذين لا يزالون يعيشون في الماضي، كل ما عليهم فعله مشاهدة حفلة ماجدة الرومي الأخيرة في السعودية، وملاحظة كيف كان صوتها أعلى وأقوى من كل شيوخ الوهابيّة ورسائلهم “العلميّة”