لا يخفى على أحد الدور المفصلي الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في عسكرة الكيان الإسرائيلي، فـ”إسرائيل” تعتلي منذ تأسيسها عام 1948 قائمة المتلقين للمساعدات الأمريكية، حيث بلغت قيمة هذه المساعدات حتى مارس/آذار 2023 ما مقداره 158 مليار دولار أمريكي، وفرها البيت الأبيض بالشراكة مع الكونغرس في صورة مساعدات عسكرية بقيمة 114.406 مليار أمريكي، توزعت بين 9.911 مليار أمريكي على شاكلة دفاعات صاروخية و34.347 مليار دولار أمريكي كمساعدات اقتصادية.
وفيما ساهمت حرب الإبادة الواقعة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في قفزة جنونية لبرامج تسليح الكيان ودعمه عسكريًا، بات يُنظر للولايات المتحدة كشريك رئيس ومباشر في الحرب على الوجود الفلسطيني، وليست مجرد وسيط أو داعم ثانوي.
وبينما يرى البعض أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري واقعان تحت تأثير اللوبي الصهيوني وأذرعه المتنفذة في أروقة السياسة والاقتصاد الأمريكيين، ما يدفعهما إلى دعم “إسرائيل” عسكريًا دون حد أو قيد، يرى آخرون أن التوافق الحزبي في الولايات المتحدة على تسليح “إسرائيل” واستمرار دعمها عسكريًا يعود في الأصل إلى المصالح القومية الأمريكية أولًا وقبل كل شيء.
فكيف بدت عملية تسليح “إسرائيل” عبر الإدارات الأمريكية المختلفة؟ وهل كان هناك فرق حقيقي بين تسليح الإدارات الديمقراطية وتلك الجمهورية للكيان؟ وما أدوات عسكرة “إسرائيل”؟ وكيف أسهمت الولايات المتحدة في تفوق “إسرائيل” عسكريًا على المستوى الدولي؟
نفتح الباب على هذه الأسئلة في هذا المقال الذي يأتي ضمن ملف “دبلوماسية الحبليَن” وفيه نقارن بين سياسات الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية في معالجة القضية الفلسطينية وجزئياتها وأهم محاورها التي لطالما وضعها سيد البيت الأبيض على أجندة أعماله.
كلينتون.. تسليح في السلم، تسليح في الحرب
سعى بيل كلينتون للحفاظ على ما يُعرف في العلم العسكري بـ”التفوق العسكري النوعي QME” لـ”إسرائيل”، وهو ما يعني التسليح بصورة تضمن لـ”إسرائيل” أن تكون لها اليد العليا في مواجهة أعدائها من الشخصيات الدولية وغير الدولية الفاعلة في المنطقة.
وهذا التفوق لا يتأتى من توفير الأسلحة وحسب، لكنه يتطلب أيضًا تفوقًا استخباراتيًا واتصالاتيًا وتكنولوجيًا عاليًا يجعل ممن يملكه نافذًا في قدرات واستعدادات أعدائه، ورغم أن هذا البرنامج ليس وليد إدارة كلينتون، إنما بدأ العمل على توفيره لـ”إسرائيل” غداة حرب 1973، فقد بلغ أوجه في ظل الثورة التكنولوجية الرائدة إبان تسعينيات القرن الماضي.
حافظ بيل كلينتون على تقليد راسخ بدعم مطلق لـ”إسرائيل” خاصة على الجبهة العسكرية، إلا أن أجل خدمة قدمتها إدارة كلينتون للكيان عسكريًا كانت في نهاية التسعينيات بعد مسار طويل من السلام المخادع الذي ابتدعته الإدارة الأمريكية آنذاك لتسوية الصراع مرة وللأبد، فقد سن كلينتون في نهاية فترته الرئاسية ما يُعرف بـ”مذكرات التفاهم العسكرية MOU” التي تجمع حكومة الولايات المتحدة وحكومة “إسرائيل” باتفاق مساعدات عسكرية مدته عشر سنوات يتم تجديده كل مرة بشروط جديدة.
منذ عام 1999 وقعت “إسرائيل” مع الإدارات الأمريكية (كلينتون، بوش الابن، وأوباما) ثلاث مذكرات تفاهم للمساعدات العسكرية تنمو في قيمتها ونوعها، وقد احتال كلينتون على الكونغرس الأمريكي حينها باعتبار هذه المذكرات نوعًا من القرارات التنفيذية التي لا ترقى إلى مستوى المعاهدات الدولية، وبالتالي لا تتطلب إقرارًا من مجلس الشيوخ، وفي الوقت عينه لا تعد ملزمة للكونغرس وبإمكانه تعديلها عامًا بعام وفقًا لمتطلبات المرحلة، الأمر الذي لم يحدث ولا مرة حتى الآن، وظل الكونغرس ملتزمًا بقيمة هذه التفاهمات ما لم تتطلب المرحلة زيادة لا نقاصًا.
في مذكرة التفاهم الأولى التي وقعها كلينتون (1999-2008) وكانت قيمتها 26.7 مليار دولار منها 21.3 مليار مساعدات عسكرية، وعُرِفت باسم “اتفاقية مسار الانزلاق”، مهدت الإدارة لعسكرة المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل” بالكامل بالتوازي مع التخلص التدريجي من المساعدات الاقتصادية، الأمر الذي تم عام 2007 لتتحول من حينها المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل” إلى مساعدات عسكرية بالكامل.
ورغم أن السنوات الثمانية التي شهدت تربع كلينتون على عرش البيت الأبيض حملت معها أدنى قيمة للمساعدات العسكرية لـ”إسرائيل” مقارنة بالإدارات الأمريكية اللاحقة، وهو ما كان مقداره 1.8 مليار دولار سنويًا وعددًا من الصفقات والقروض الجانبية، فإن الظروف الجيوسياسية التي أحاطت بـ”إسرائيل” حينها واختزال الخطر العسكري الذي يحيط بها، في ظل عملية سلام أفضت إلى توقيع اتفاقيات أوسلو، جعلت من هذه المساعدات نوعًا وكمًا أساسًا للتفوق الإسرائيلي اللاحق في مقابل أعدائها الذين سيطورون من قدراتهم تدريجيًا.
قدم كلينتون مسمى سيكون له مستقبل مبهر في التمويل الأمريكي لترسانة “إسرائيل” العسكرية، ألا وهو “محاربة الإرهاب”، حيث بلغت حزم المساعدات التي تحمل هذا المسمى في الفترات الرئاسية للجمهوريين والديمقراطيين على السواء عدة مليارات من الدولارات، ففي عام 1996 أقرت إدارة كلينتون مبلغ 200 مليون دولار أمريكي إضافية تحت بند الضرورة العسكرية وذلك لمحاربة الإرهاب الذي كان كلينتون يراه محيقًا بـ”إسرائيل” من المحيط الفلسطيني والعربي والإسلامي حينها.
ازدهر هذا النوع من الحزم في ظل إدارة بوش الابن التي واتتها الظروف التاريخية من اندلاع الانتفاضة الثانية من ناحية وإعلان الحرب الأمريكية المفتوحة على الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول من ناحية أخرى، ففي عام 2003 أقرت إدارة بوش قرضًا عسكريًا مسهّلًا لـ”إسرائيل” بقيمة 9 مليارات دولار ومنحة عسكرية بقيمة مليار دولار كجزء من معسكر مواجهة الإرهاب في أفغانستان والعراق وبقية مناطق الشرق الأوسط.
بدأ هذا التحايل في وقت كان يسعى كلينتون خلاله لإرساء عملية سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد أتقن كلينتون أكثر من غيره من الرؤساء الأمريكيين فن اللعب على الحبلين، فبينما كان يمول ترسانة “إسرائيل” العسكرية بمليارات الدولارات كان يسعى لتثبيت أركان اتفاقية أوسلو ببناء مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية.
ففي عام 1998 قدمت إدارة كلينتون ما مقداره 400 مليون دولار أمريكي لمؤسسات السلطة الفلسطينية فيما عُرِف وقتها بحزمة “اتفاقية واي ريفر” والتي تجمع بين “إسرائيل” والسلطة وتنص على تدعيم مكافحة الإرهاب وإرساء قواعد السلام والتعايش بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وفي المقابل حصلت “إسرائيل” على مبلغ 1.2 مليار دولار أمريكي لتعزيز مكافحتها للإرهاب تحت ذات الاتفاقية.
كما تتمتع “إسرائيل” بعدد من الامتيازات المرتبطة بصفقات الأسلحة الأمريكية منها ما يتمتع به حلف الناتو، رغم أنها ليست طرفًا فيه، حيث ترتبط هذه الصفقات بمدد مراجعة وموافقة قصيرة للكونغرس (15 يومًا بدلًا من 30) وسقوف مالية أعلى من غيرها.
بدأت هذه المعاملة التفضيلية لـ”إسرائيل” في صفقات السلاح رسميًا عام 1986 بعد أن وقع الرئيس رونالد ريغان قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 1987، الذي يتيح للإدارة الأمريكية تمويل التدريب والسلاح والبحوث العسكرية المشتركة مع “إسرائيل”، وتم تعديل القانون لتفضيل “إسرائيل” بشكلٍ مساوٍ لدول الناتو ودون الرجوع إلى الكونغرس عام 1996 في ظل إدارة كلينتون.
بوش الابن.. “إسرائيل” المتفوقة عسكريًا على محيطها
شهدت فترة جورج بوش الابن توقيع مذكرة التفاهم الثانية بين الحكومة الأمريكية والإسرائيلية لمدة عشرة أعوام جديدة (2007-2018) بلغت قيمتها 30 مليار دولار أمريكي.
اتبع جورج بوش الابن تقليدًا راسخًا منذ أيام والده بوش الأب بضمان تفوق “إسرائيل” عسكريًا على جيرانها ومحيطها من الدول العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي كانت تعقد فيه الولايات المتحدة صفقات تسليح مع الدول العربية بما فيها دول الخليج، كانت تتبع عددًا من المحددات التي تضمن تفوق “إسرائيل” من جهة وعدم تصويب الأسلحة الأمريكية المصدرة إلى الدول العربية إليها من جهة أخرى.
ففي عام 1992 عندما عقدت الولايات المتحدة صفقة بيع طائرات “إف 15” المقاتلة للمملكة العربية السعودية، أعلن جورج بوش الأب تزويد “إسرائيل” بطائرات أباتشي وهليكوبتر متطورة، بالإضافة إلى وضع أنظمة دفاع أمريكية معدة مسبقًا في خدمة دولة الكيان.
وعلى خطى والده، ما إن أقرت إدارة بوش الابن صفقة “ذخائر الهجوم المباشر المشترك JDAMs” عام 2007 مع المملكة العربية السعودية حتى أعلنت الإدارة عن تزويد “إسرائيل” بذخائر أكثر تطورًا من تلك التي ستصدرها للمملكة، حتى إن الكونغرس مرر في ظل إدارة بوش الابن قانون “الشراكة الاستراتيجية بين إسرائيل وأمريكا لعام 2008” وهو قانون يلزم في شق منه الإدارة الأمريكية بالإفصاح والتأكد من قدرة “إسرائيل” على التصدي لأي معدات عسكرية أمريكية يتم بيعها أو تصديرها لدول الشرق الأوسط.
بالمثل، قابلت إدارة أوباما صفقة تصدير مقاتلات إف 15 للمملكة عام 2010 بصفقة بيع 20 مقاتلة من طراز “إف 35” لـ”إسرائيل”، بينما قابلت صفقة بيع مقاتلات “إف 16” للإمارات المتحدة عام 2013 بتزويد “إسرائيل” بطائرة التزود بالوقود “KC-135″، والصواريخ المضادة للإشعاع والرادار المتطور.
كما شهدت فترة بوش الابن في البيت الأبيض فورة في بيع مقاتلات “إف 35″ لـ”إسرائيل” وهي الدولة الأولى في العالم التي تشغل مقاتلات مشتركة من نوع “إف 35” وهي طائرات متطورة مكّنت “إسرائيل” عبر السنوات من ضرب أهداف من مسافات بعيدة ودون أن تضطر للتوقف للتزود بالوقود، ومنها أهداف في سوريا وأخرى خارج مجالها الجوي قادمة من إيران.
ورغم أن “إسرائيل” عقدت حتى اللحظة ثلاث صفقات لشراء 50 طائرة من هذا النوع من المقاتلات مع الولايات المتحدة، تسلمت منها حتى اللحظة 39 طائرة، ومن المفترض أن تتسلم ما تبقى قبل انتهاء العقد الجاري، إلا أن وزارة بوش للدفاع كانت قد أبلغت الكونغرس بنيتها بيع ما تعداده 70 مقاتلة من هذا الطراز لـ”إسرائيل” في صفقة قد تبلغ 15.2 مليار دولار أمريكي.
هذا إضافة لإطلاق برامج تدريب ومناورات عسكرية مشتركة جاء على رأسها برنامج جونيبر كوبرا الذي سنته إدارة بوش ويتضمن إجراء تدريبات عسكرية دفاعية مشتركة ضد الصواريخ الباليستية كل عامين تتحد فيها أسلحة ورادارات وأنظمة دفاع “إسرائيل” والولايات المتحدة منذ عام 2001، لتتوج هذه الفترة بتوقيع مشروع مشترك عام 2008 لتطوير البرنامج الدفاعي المعروف باسم “مقلاع داوود” للتصدي للصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى المنطلقة من سوريا والعراق ولبنان.
أوباما.. رأس الهرم في التحصين والتعزيز
جاءت إدارة أوباما بأكبر حزمة مساعدات أمريكية خارجية تضمنتها مذكرة التفاهم الثالثة التي جمعت حكومة الولايات المتحدة و”إسرائيل” للأعوام العشرة بين (2019-2028) بقيمة 38 مليار دولار أمريكية موزعة بين مساعدات عسكرية أجنبية بقيمة 33 مليار دولار أمريكي ودفاعات صاروخية بقيمة 5 مليارات دولار أمريكي.
لا تقتصر المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل” على تزويدها بالأسلحة وأنظمة الدفاع والتجسس وحدها، بل تملك الولايات المتحدة منظومة قوانين وتشريعات تجارية وعسكرية تساهم في زيادة التعاون والشراكة العسكرية بينها وبين “إسرائيل”.
يأتي من ضمنها برنامج التصنيع المحلي العسكري المعروف أيضًا بـ”برنامج المشتريات العسكرية الخارجية” والذي يتيح للشركات العسكرية الإسرائيلية الحصول على رخص عمل على أراضي الولايات المتحدة، فتتحول إلى فروع عاملة لشركتها الأم وعميل للصفقات على الأرض الأمريكية حيث يتم العمل والتصنيع والتسويق.
وبفضل المذكرة، أضيفت بعض المتطلبات مثل إنهاء الفروع الإسرائيلية للشركات العسكرية العاملة في الولايات المتحدة وتحويلها إلى شركات أمريكية محلية وتقديم تقارير مفصلة بكيفية استخدام المنح الممنوحة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
ورغم أن بداية الاهتمام ببرامج الدفاع الصاروخية وفي مقدمتها القبة الحديدية ومقلاع داوود بدأ في ظل إدارة بوش خاصة بعد 2006 والحرب التي جمعت “إسرائيل” بحزب الله آنذاك، فإن الإداراة الأمريكية بدأت بتمويل القبة الحديدية بشكل رسمي مع بداية فترة أوباما وبالتحديد عام 2011.
وقعت إدارة أوباما مع حلول عام 2014 اتفاقية تتيح لـ”إسرائيل” تصنيع أجزاء من القبة الحديدية في الولايات المتحدة ومشاركة أنظمة تشغيلها معها، كما زودت إدارة أوباما “إسرائيل” بمبلغ 225 مليون دولار أمريكي عام 2014 لتعزيز دفاعات القبة الحديدية إبان حربها على قطاع غزة ولحمايتها من صواريخ المقاومة الفلسطينية حينها.
إن أهم تطور أصاب مذكرة أوباما هو التركيز على الدفاعات الصاروخية في استجابة لتطور قدرات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالذات، حيث تم تخصيص ما مقداره 500 مليون دولار من المساعدات العسكرية السنوية التي تقدمها الولايات المتحدة للكيان فقط للمضادات والدفاعات الصاروخية على رأسها مقلاع داوود والقبة الحديدية بينما خلت المذكرات السابقة من هكذا تخصيص.
لم تتوقف المذكرة عند هذا الحد، بل إنها نصت صراحة على الاستجابة الفورية للكونغرس في حال وقوع أي نزاع مسلح بين “إسرائيل” وأحد جيرانها، حيث رفع الكونغرس قيمة المنحة المخصصة للدفاعات الصاروخية من 500 مليون إلى مليار دولار عام 2022 بعد معركة سيف القدس التي أثبتت حدوث قفزة نوعية في قدرات حركة حماس الصاروخية.
ترامب.. العصر الذهبي لتجارة السلاح
ساعد الدعم الأمريكي العسكري لـ”إسرائيل” على تفوقها في سوق التكنولوجيا العسكرية وأنظمة الدفاع والتجسس، فشركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية مثل شركة إسرائيل للصناعات الفضائية وشركة رافييل وشركة أنظمة إلبايت تحتل مكانة متقدمة في عالم التصنيع العسكري على المستوى الدولي وتعد من أهم وأكبر شركات التصدير لأنظمة الدفاع والتواصل والتجسس والاختراق لحكومات العالم، حيث يعد السوق الهندي والأذري والفيتنامي أكبر أسواق “إسرائيل” في التكنولوجيا العسكري المتقدمة.
بل إن “إسرائيل” تحولت بفضل هذه المساعدات إلى مصدر للسوق الأمريكي العسكري ذاته، فوفقًا لتقرير خدمة أبحاث الكونغرس بلغت صادرات المعدات العسكرية الإسرائيلية للجيش الأمريكي حوالي 1.5 مليار دولار أمريكي عام 2019 وحده.
ازدهرت تجارة السلاح بين “إسرائيل” والشركات الأمريكية الخاصة، وذلك بتمويل مشترك وتسهيل البيت الأبيض إبان فترة حكم ترامب، ففي عام 2017 تعاقدت “إسرائيل” مع شركة ليوناردو دي أر إس للأنظمة الدفاعية بقيمة 440 مليون دولار أمريكي، وفي 2018 جمع عقد بقيمة 238 مليون دولار أمريكي بين “إسرائيل” وشركة الطاقة الأمريكية MTU America، بينما جمعتها عقود مليارية بشركات أمريكية للصناعات العسكرية، ومنها شركة بوينج بقيمة 2.4 مليار عام 2020 وشركة مارتن لوكهيد لتصنيع طائرات ومقاتلات بقيمة 3.4 مليار دولار عام 2021.
كما وقعت الولايات المتحدة إبان فترة حكم ترامب اتفاقية مع “إسرائيل” لتطوير أجزاء من النظام الدفاعي مقلاع داوود على أراضي الولايات المتحدة وأنفقت الولايات المتحدة على هذا النظام منذ عام 2006 وحتى اللحظة ما مقداره 2.4 مليار دولار أمريكي، مقارنة بـ3 مليارات دولار أنفقتها على نظام القبة الحديدية، وأكثر من 4.5 مليارات على أنظمة السهم طويلة المدى والمشغلة بنسختها الأولى منذ عام 2000.
شهدت فترة ترامب تضاعفًا جنونيًا في الإنفاق الأمريكي على نظام السهم الدفاعي، فمن مبلغ يقل عن 100 مليون دولار أمريكي أنفقتها إدارة كلينتون سنويًا على النظام، ومبلغ يتراوح بين 115 و155 مليون أنفقتها كل من إدارة بوش الابن وأوباما سنويًا على ذات النظام، قفز المبلغ إلى 272 مليونًا عام 2017 وواصل ارتفاعه ليبلغ 392 مليونًا بحلول عام 2018، ومن ثم هبط مرة أخرى ليتراوح بين 215 و255 مليونًا سنويًا في ظل إدارة بايدن.
كما تبنت إدارة ترامب برنامجًا دفاعيًا مضادًا للأنفاق كانت قد بدأته إدارة أوباما يعمل على التنقيب والكشف عن عمليات الحفر والأنفاق والحركة تحت الأرض، إذ ساهمت الإدارة الأمريكية بتمويل البرنامج بما مقداره 320 مليون دولار أمريكي بين عامي 2016 و2023، بمبلغ تراوح بين 42.5 و47.5 مليون سنويًا موزعة بين سنوات حكم ترامب وسنوات حكم بايدن.
أنفقت كلتا الإدارتين كذلك ما مقداره 88 مليون دولار أمريكي بين الأعوام 2020 و2023 على نظام مشترك مضاد للدروون (الطائرات دون طيار) تفوقت فيها إدارة بايدن على إدارة ترامب، حيث أنفقت الثانية 13 مليونًا في مقابل 75 مليونًا أنفقتها إدارة بايدن على البرنامج.
بايدن.. حرب الوجود الإسرائيلية
حزم المساعدات العسكرية ليست الشكل الوحيد لتسليح البيت الأبيض لـ”إسرائيل”، فهناك أيضًا القروض العسكرية FMF وصفقات بيع السلاح مدفوعة الثمن، حيث تعد “إسرائيل” من أكبر المتلقين للقروض العسكرية الأمريكية على المستوى الدولي، كما أنها متقدمة عالميًا في الإنفاق العسكري فيما بلغ قيمته 5.17% من مجمل إنتاجها المحلي، ما يجعلها واحدة من أعلى الدول إنفاقًا على التسليح.
بدأت الولايات المتحدة بتقديم قروض مسهلة لـ”إسرائيل” لبناء قدراتها العسكرية عشاة حرب 1973، فبلغ مقدار ما منحه الكونغرس للكيان آنذاك 2.2 مليار دولار على شاكلة قروض طويلة الأمد، حتى إن إدارة جيرالد فورد عقدت اتفاقية مع “إسرائيل” بدفع المستحقات من حزم المساعدات التي ستتلقاها فيما بعد، بمعنى أن القرض تحول إلى منحة غير مستردة بتحايل من إدارة فورد على المتطلبات القانونية للقرض حينها.
أقر الكونغرس في ظل إدارة بايدن عام 2023 مخصصات للقروض العسكرية لـ”إسرائيل” ضمن “قانون المخصصات الموحدة للسنة المالية 2023”، فوضعت إدارة بايدن تحت تصرف “إسرائيل” ما لا يقل عن 3 مليارات و300 مليون دولار على شاكلة قروض مسهّلة، إضافة إلى حزم المساعدات العسكرية دون مقابل وحدّها الأدنى 3.8 مليار دولار سنويًا.
سجلت إدارة بايدن ارتفاعًا غير مسبوق في الإنفاق العسكري على “إسرائيل” وتسليحها بعد السابع من أكتوبر 2023، فمنذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة وخلال عام واحد فقط أنفقت إدرة بايدن ما مقداره 17.9 مليار دولار أمريكي على المساعدات العسكرية بكل أشكالها لـ”إسرائيل”.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة براون الأمريكية، يعد هذا الإنفاق أعلى رقم تسجله إدارة أمريكية في المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل” خلال عام، وذلك عدا عن النفقات التي استهدفت أمن “إسرائيل”، لكن خارج حدودها مثل العمليات الأمريكية ضد الحوثيين و”حزب الله” وبقية الفرق العاملة في سوريا والعراق وحتى إيران، وهو ما سجَل في حده الأدنى مبلغ 4.86 مليار دولار أمريكي خلال عام الحرب.
وترى الدراسة أن هذه القيم هي حد أدنى وقد يكون الرقم الحقيقي يفوقها بأضعاف نظرًا لعدم الشفافية التي رافقت ملف الإنفاق الأمريكي العسكري على “إسرائيل”، حيث كانت آخر الصفقات العسكرية التي مررتها إدارة بايدن تبلغ قيمتها 20 مليار دولار أمريكي في أغسطس/آب الماضي بمعدات عسكرية وأسلحة على رأسها طائرات إف 15 الحربية.
إضافة إلى الإنفاق والتمويل العسكري الذي وفرته إدارة بايدن لـ”إسرائيل”، فقد ضاعفت الإدارة من التواجد العسكري في منطقة الشرق الأوسط مع تقديرات متواضعة بوجود 50.000 عسكري أمريكي في المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 موزعة بين القوات البحرية والجوية والبرية.
كما ساهمت إدارة بايدن في إقرار نوع جديد من المساعدات تحت بند الأمن السيبراني يتضمن تزويد “إسرائيل” بما لا يقل عن 6 ملايين دولار سنويًا بين الأعوام 2022 و2026 لتعزيز أمنها السيبراني والتزود بتكنولوجيا التجسس والاختراق.
ومن المرجح أن تترك إدارة بايدن خلفها التزامات مالية ضخمة لغايات تسليح “إسرائيل”، فقد أقرت الإدارة أبريل/نيسان المنصرم حزمة مساعدات جديدة بقيمة 94 مليار دولار موزعة بين “إسرائيل” وتايوان وأوكرانيا، كما أن إدارة بايدن تجاوزت في سبيل تسليح “إسرائيل” حتى الكونغرس نفسه واستخدمت استثناء الضرورة لتمرير صفقتي أسلحة لـ”إسرائيل” خلال شهر واحد في ديسمبر/كانون الأول الماضي قيمة الأولى 106 مليون دولار، بينما بلغت قيمة الصفقة الثانية 147.5 مليون دولار أمريكي.
رغم التلويح الأمريكي بتقييد صفقات السلاح التي تطلبها “إسرائيل” بشروط احترام قواعد الحرب وتقليل الخسائر بين المدنيين، خاصة بعد الفضائح التي أثيرت مؤخرًا حول استخدام “إسرائيل” للفسفور الأبيض المصنّع أمريكيًا والمحرم دوليًا على تجمعات مدنية جنوب لبنان وإيقاع خسائر بشرية هائلة بين المدنيين في قطاع غزة باستخدام متفجرات “غبية” (أي غير موجّهة)، ما يشكّل في حده الأدنى جرائم حرب، فإن الإدارة الأمريكية لم تصدق في تعهداتها وظلت صفقات السلاح وحزم المساعدات العسكرية تتدفق طوال العام بسلاسة إلى المخازن الإسرائيلية.
بل إن مخازن السلاح الأمريكي التي تحتفظ بها الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي في الشرق الأوسط قد وُضِعَت تحت تصرف الجيش الإسرائيلي، كما تم توظيف سلاح أمريكي الصنع والتشغيل للدفاع عن “إسرائيل” ومصالحها، كان آخرها نشر منظومة الدفاع الأمريكي المتطورة “ثاد” لصد أي هجوم صاروخي إيراني محتمل في قابل الأيام.
وفي معرض استشراف ما سيكون حال فوز المرشحة الديمقراطية لمنصب الرئاسة كامالا هاريس، فقد طالب عدد من ممثلي الناخبين غير الملتزمين، الذين يرفضون التصويت لأي من المرشحين، كامالا هاريس في المؤتمر الوطني للديمقراطيين منتصف أغسطس/آب الماضي، بالتعهد بفرض حظر على المساعدات العسكرية المقدمة إلى “إسرائيل” في سبيل دفعها لوقف حربها الإبادية على قطاع غزة.
بعض الممثلين الديمقراطيين أدرك عدم واقعية المطالبة بحظر على المساعدات العسكرية بشكل كلي وحصر مطالبه بربط الصفقات والمنح العسكرية بشروط تراعي حقوق الفلسطينيين وتحول دون إمكانية استخدام هذه الأسلحة بانتهاكات حقوقية وجرائم حرب في القطاع والضفة، وفي كلا الحالين رفضت هاريس وقف تسليح “إسرائيل” وتعهدت بمواصلة تقديم ما يحتاجه الكيان للدفاع عن نفسه.
ختامًا، ينقسم العامة من الديمقراطيين والجمهوريين في تأييدهم لتسليح “إسرائيل”، ففي استطلاع رأي جديد أجرته وكالة رويترز للأنباء حول توجهات الأمريكيين فيما يتعلق بهذا الشأن، أظهر الاستطلاع انقسامًا حادًا بين الناخبين حول توجهاتهم الانتخابية عندما يتعلق الأمر بتزويد “إسرائيل” بالمساعدات العسكرية، فبينما يرى 47% من المستطلعة آراؤهم أن استعداد المرشح لتسليح “إسرائيل” يزيد من احتمالية انتخابهم له، يرى 48% منهم أن ذلك يجعلهم أقل رغبة بانتخابه.
كما أظهر استطلاع الرأي أن النسب أعلاه تتبع بشكل كبير الانتماء الحزبي لصاحبها، فبينما يشكل النسبة الأولى ما مقداره 62% من الجمهوريين، يحتل الديمقراطيون (56%) والمستقلون (51%) من النسبة الثانية.
أما السياسيون من الحزبين فلهم منظور آخر، حيث تصاعد الدعم العسكري الأمريكي لـ”إسرائيل” وتناسب طرديًا مع تطور مقدرات أعدائها ونوع التحديات التي تواجهها، فكل إدارة أمريكية تأتي تتفوق على سابقتها في مقدار المساعدات ونوعيتها التي تقدمها لـ”إسرائيل” دون أن يكون للحزب الذي تنتمي إليه الإدارة أثر حقيقي على كم ونوعية السلاح وحزم المساعدات العسكرية المتدفقة للحليف الاستراتيجي في الشرق الأوسط.