ما الذي يرضي أكثر من آذان صاغية وعيون مهتمة؟ وما الذي يسعد أكثر من التصفيق الحار والتفاعل المتواصل، خاصةً لو علمنا أن هذا الاهتمام سيتحول إلى شهرة واسعة وأموال طائلة؟ يجيبنا على ذلك مايكل غولد هاير عبر مقالةً نشرها في عام 1997 وعرف فيها “اقتصاد الانتباه” كحقلٍ فرعي من اقتصادات الشبكة العنكبوتية التي ستزدهر بعدما يغرق العالم بالمعلومات ويصبح الاهتمام الافتراضي أثمن موارد الألفية الجديدة.
يعقب على ذلك الباحث الأمريكي، ماثيو كروفورد في كتابه “العالم من وراء رأسك”، حين قال أنّ جذب انتباه الأفراد والقدرة على اختراق وعيه هو أساس الرأسمالية المعاصرة. ما يعني أن المحتوى الرقمي ليس عشوائيًا ولا يقودنا بالضرورة إلى حيثما نريد، فالكثير من الأحيان نجد أنفسنا نتصفح مواقع وتطبيقات لساعات طويلة دون أن نعي كيف وصلنا إليها، فكيف تستفيد الشركات من انتباهنا الرقمي؟ وما المشكلة في سيطرتها عليه؟
الاهتمام عملة نادرة في العصر الرقمي
يقول كروفورد أنّ المبرمجين يشبهون مهندسي الأغذية بأساليب احتيالهم على مذاق الطعام ومحاولاتهم في جعله أكثر استساغةً ولذة، فقد أصبحت المنصات الإعلامية مصنعًا للمحفزات الذهنية التي لا يمكن مقاومتها، مشبهًا هذا التشتت والإدمان بـ”السمنة العقلية” التي تحمل عواقب خطيرة على الصحة، فلقد أظهرت الدراسات أن انتباهنا يتشتت بنسبة 50% من الوقت، وفي بحث استقصائي آخر بينت النتائج أننا نتحقق من هواتفنا حوالي 150 مرة في اليوم أو مرة واحدة كل 6 دقائق.
تنشأ هذه المشكلة من خلال التقنيات الاستهلاكية المصممة بطريقة تؤدي للإدمان، مثل خاصية التسلسل الزمني “newsfeeds” التي تجعلك ترغب في التصفح المتواصل والمستمر لجميع المنشورات والتغريدات التي تظهر أمامك بشكلٍ محدّث، عدا عن الإشعارات والرسائل التي تتنافس على احتلال انتباهك واستغلال وقتك، ما يدفعك لاحقًا إلى السعي لمتابعة الأمور باستمرار لكن بطريقة مشتتة، الأمر الذي قد يؤثر بشكل ما على إنتاجيتك وأدائك.
تقوم الفكرة الرئيسية لهذا النوع من المنظومات على تلقي المستهلكين لنوع معين من الخدمات مقابل الحصول على اهتمامهم الذي يقاس بعدد الزيارات والمشاهدات، وبالطبع تنتهي هذه الصلة في بعض الأحيان ببيع شيء ما للمستهلك
يرى كروفورد أن هذا النوع من التقنيات الرقمية تجرد الناس من إنسانيتهم، نظرًا لقدرتها على تشتيت عواطفهم وانتماءاتهم دون أن تخلق لديهم موقفًا جذريًا وواضح الملامح تجاه قضية من القضايا، وهو ما علق عليه عالم النفس والاجتماع الأمريكي، هيربرت سيمون، ذات مرة قائلاً: “إن النمو السريع للمعلومات يسبب ندرة الاهتمام”.
بتعبير آخر، تتبع جميع المواقع الإخبارية والمدونات ومحركات البحث والمواقع التجارية هذه الاستراتيجية، إذ تقوم الفكرة الرئيسية لهذا النوع من المنظومات على تلقي المستهلكين لنوع معين من الخدمات مقابل الحصول على اهتمامهم الذي يقاس بعدد الزيارات والمشاهدات، وبالطبع تنتهي هذه الصلة في بعض الأحيان ببيع شيء ما للمستهلك.
يقول عالم النفس والاجتماع الأمريكي هيربرت سيمون: “إن النمو السريع للمعلومات يسبب ندرة الاهتمام”.
لكن لا ريب أن هذه الخطوة تحتاج إلى بعض الوقت، فمثلًا تستلزم نشرة الأخبار اهتمام المستهلكين لفترة زمنية محددة إلى أن تبدأ بعرض إعلاناتها، ويشبه ذلك أيضًا محركات البحث التي تعرض الإعلانات مقابل مساعدة المستخدمين في العثور على إجابات عبر الإنترنت، وبطبيعة الحال فإن الحفاظ على انتباه المستخدم يعني المزيد من الشهرة الرقمية والأرباح المادية.
كيف تستولي المنصات الرقمية على تركيزنا؟
في مقال “اقتصاد الانتباه يأكل أدمغتنا”، ترى المصممة الفنية، دويان بيترز، أنّ تطور استراتيجيات الشركات في هذا المجال سيقلل وقت الاهتمام بالأشياء الأكثر أهمية مثل وقت العائلة والأصدقاء والتنمية الذاتية والمساهمة في المجتمع، فجميع هؤلاء يتوقعون منك حد معين من الاهتمام والرعاية، لكنك على الأغلب ستقضي وقتك في المقابل في أنشطة ومحتويات زرتها ربما طواعية.
ما يحدث هو أن تلك الشركات تكون على علم مسبق من خلال تحليل بيانات الملايين من المستخدمين، بتوجهاتهم والاهتمامات التي قد تجذب انتباهم بسهولة من أجل لفت أنظارهم إلى قضايا معينة أو تحشيد آراء محددة تجاه مسألة ما
في أحيان أخرى، تحدث نتيجة للتأثيرات التقنية بطريقة تشعر المستخدم بأنه صاحب القرار، إلا أن ما يحدث هو أن تلك الشركات تكون على علم مسبق من خلال تحليل بيانات الملايين من المستخدمين وتتبع تحركاتهم وتفاعلاتهم، بتوجهاتهم والاهتمامات التي قد تجذب انتباهم بسهولة من أجل لفت أنظارهم إلى قضايا معينة أو تحشيد آراء محددة تجاه مسألة ما.
يلخص المستشار الإداري، جون هاغل تأثير هذه التقنيات على قوة تركيزنا وتزايد الطلب على الحصول على الانتباه، بانخفاض متوسط فترة الانتباه من 12 ثانية إلى 8 ثوان في السنوات ال 15 الماضية، مضيفًا “كل منا لديه 24 ساعة فقط في اليوم، حيث نختار تخصيص هذا الاهتمام بشكل متزايد في خلق أو تدمير قيمة اقتصادية لأي نظام”. في الجهة المقابلة، نمت برامج حظر الإعلانات بنسبة 30% في عام 2018، وعملت شركة “جوجل” العملاقة على مساعدة مستخدميها في إدارة وقتهم بشكل أفضل حتى يتمكنوا من التركيز على الأنشطة التي تهمهم، وذلك استجابةً مع ردود الفعل المنزعجة من هذه الأساليب.