ترجمة وتحرير: نون بوست
في عشية عيد الميلاد الأرثوذكسي الموافق للسادس من كانون الثاني/ يناير الجاري، احتج العشرات من الفلسطينيين المصطفين على طرقات بيت لحم المرصوفة بالحصى أثناء مرور موكب بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس، ثيوفيلوس الثالث. وخلال توجهه نحو ميدان المهد ومحاطا بحماية أمنية مكثفة من قبل السلطات الفلسطينية، صاحبت البطريرك هتافات المحتجين التي تصفه بالخائن، كما رفض ممثلو بلدية بيت لحم مقابلته في الساحة الشهيرة كما جرت العادة.
يعتبر غضب المحتجين مبررا تماما، حيث يرون أن كنيسة الروم الأرثوذكسية، ثاني أكبر صاحب ممتلكات في الأراضي المقدسة، كانت متورطة في جدل متعلق بالتفويت في الأراضي لسنوات عديدة. وبرز جليا أن الكنيسة، التي تمتلك حوالي ثلث الأراضي في القدس القديمة والعديد من الأراضي في القدس القديمة، بما في ذلك الأرض التي بُني عليها مبنى الكنيست الإسرائيلي، عمدت إلى بيع العديد من الأوقاف والأراضي إلى الوسطاء الذين باعوها إلى المستوطنين الإسرائيليين.
ويمكن القول إن الممارسات القائمة على بيع ممتلكات الكنيسة أو تأجيرها لمدة عقود جعلت أغلب رجال الدين، الروم، يقفون في وجه تابعيهم الفلسطينيين. وبالتزامن مع بداية ظهور تفاصيل هذه الصفقات، احتدمت وتيرة الاحتجاجات من قبل أعضاء الكنيسة من الفلسطينيين، فضلا عن تنامي شعور الخوف لدى الإسرائيليين الذين تقع منازلهم على أراضي الكنائس المستأجرة.
يؤمن المسيحيون الفلسطينيون بأن الكنيسة يجب ألا تبيع هذه الأرض والممتلكات في المقام الأول، وذلك انطلاقا من مخاوفهم بتقلص وجودهم في الأراضي المقدسة.
في الوقت الراهن، قامت عضوة الكنيست الإسرائيلي عن حزب كولانو، راشيل أزاريا، برعاية مشروع قانون من شأنه أن يسمح فعليًا للحكومة بالاستيلاء على أراضي الكنائس التي تم بيعها لمستثمري القطاع الخاص. وأفادت أزاريا أن الاقتراح يهدف إلى حماية السكان الذين يعيشون على أراضي الكنائس المستأجرة، والذين يخشون من قدرة الوسطاء والمستثمرين على رفع تكلفة الإيجار أو طردهم من أجل القيام بتحسينات ومشاريع جديدة.
في 22 من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وقع تجميد النقاش بموجب ضغوطات مكثفة من قادة الكنيسة الذين يرون أن مشروع القانون سيسمح لحكومة “إسرائيل” بمصادرة ممتلكاتهم. ومنذ ذلك الوقت، حصل هؤلاء القادة على دعم المشرعين الأمريكيين المنتمين إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والذين بعثوا برسالة إلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للاحتجاج على الوضع الراهن.
يؤمن المسيحيون الفلسطينيون بأن الكنيسة يجب ألا تبيع هذه الأرض والممتلكات في المقام الأول، وذلك انطلاقا من مخاوفهم بتقلص وجودهم في الأراضي المقدسة. علاوة على ذلك، يشير المسيحيون الفلسطينيون إلى أن بيع أراضيهم للمستوطنين الإسرائيليين سيزيد من حجم التواجد اليهودي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، أي المكان الذي تأمل داخله فلسطين في تأسيس دولة مستقلة.
من جهته، صرح الباحث البارز في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، معين رباني، قائلا إن: “هذا الصراع يعد طويل الأمد بين العرب الفلسطينيين ورجال الدين الروم، الذين قطع معظمهم أغلب الصفقات العلنية مع الإسرائيليين للحفاظ على مناصبهم وقوتهم ونفوذهم داخل الكنيسة”.
وتابع رباني القول إن بعض قادة الكنائس يوظفون ضد أتباعهم من قبل الإسرائيليين، ويتعاونون معهم بسهولة ويقترفون الخطايا، بما في ذلك الخطيئة النهائية. وغالبا ما تباع الأراضي التابعة للكنيسة بأسعار تفاضلية. وفي هذا هذا الصدد، تدعي الكنيسة أن الحكومة الإسرائيلية قد هددتها في بعض الأحيان، وقد أثبتت استعدادها لبيع ممتلكاتها في أحيان أخرى بأثمان زهيدة.
في الواقع، برزت الأزمة المتعلقة بالكنيسة بعد ظهور تقارير تفيد بأن البطريركية أي قيادة الكنيسة الأرثوذكسية، قد باعت ممتلكاتها إلى وسطاء غامضين، فقط لكي ينتهي بها الأمر بين أيدي مستوطنين إسرائيليين أو شركات تابعة لهم. وفي هذا السياق، قال رباني إن “صفقات بيع هذه الأراضي هي جزء من مشروع استعماري نشط ومستمر، حيث تعتمد كل من “إسرائيل” وعملاؤها على معاملات عقارية لتحويل الطابع الديمغرافي للقدس بشكل جذري”. وأضاف رباني قائلا إنه “بمجرد أن يتم بيع الأراضي لـ”إسرائيل” أو الوكلاء الذين يتصرفون بالنيابة عنها، فإنه لن يكون باستطاعتهم إعادة شرائها مجددا بقيمتها غير الحقيقة، وسينتهي الأمر بطرد الفلسطينيين”.
تعمل الكنيسة في الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية والأردن، وتقول إن صفقات بيع وتأجير الأراضي تندرج ضمن إطار مساعيها لتمويل عملياتها في هذه المناطق
في هذا الصدد، نفت بطريركية الروم الأرثوذكسية في القدس قيامها ببيع ممتلكاتها إلى الجماعات الإسرائيلية اليمينية عن طيب خاطر، وقالت إنها عمدت إلى تأجيرها لهم بدلا من بيعها، وذلك حتى يتسنى لها الحفاظ عليها والاستفادة منها ماديا. وعللت البطريركية تصرفها بأن هذه المبيعات تسدد ديون الاستثمارات الفاشلة والسيئة التي قام بها القادة السابقون.
في الواقع، تعمل الكنيسة في الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية والأردن، وتقول إن صفقات بيع وتأجير الأراضي تندرج ضمن إطار مساعيها لتمويل عملياتها في هذه المناطق. وفي هذا الإطار، أفاد مسؤولو الكنيسة أن الحكومة الإسرائيلية عمدت في بعض الحالات إلى مصادرة الأراضي والضغط على الكنيسة لبيعها أو تأجيرها. ونتيجة لذلك، تجد الكنيسة نفسها بين المطرقة والسندان، لاسيما مع امتلاك “إسرائيل” لوسائل ضغط كثيرة، على غرار رفض منح التأشيرات لرجال الدين وفرض ضرائب على ممتلكات الكنيسة أو التهديد بمصادرتها. وعموما، تندرج هذه الممارسات ضمن إطار مساعي الإسرائيليين إجبار مسؤولي الكنيسة على التعاون معهم.
لقد أدت قضية التفويت في الأراضي إلى الإطاحة بإيرينوسوس، البطريرك السابق لكنيسة الروم الأرثودوكس في القدس. وقد اتسمت قيادة خلفه، ثيوفيلوس الثالث، أيضا بالاضطراب. وتجدر الإشارة إلى أن إيرينوسوس قد عُزل من منصبه سنة 2005، وعاش لسنوات تحت الإقامة الجبرية في مقر الكنيسة في المدينة القديمة بالقدس، حيث كان يُقدم له المتعاطفون الطعام في سلة مشدودة بحبل عبر نافذته.
من جهته، لم يعترف البطريرك السابق بخلفه الذي تولى السلطة بعد أن كشف عن صفقة سرية أُبرمت سنة 2004 من قبل بطريركية الروم الأرثودوكس تتمثل في بيع ثلاثة مواقع استراتيجية في القدس الشرقية لصالح جمعية “عطيرت كوهانيم” الاستيطانية المتطرفة التي تسعى جاهدة لطرد الفلسطينيين من البلدة القديمة لزيادة سيطرة اليهود على المنطقة.
يكافح ثيوفيلوس من أجل إثبات تورط سلفه في عملية البيع هذه في المحكمة، إلا أنه يواجه كذلك تهما مشابهة تتعلق بصفقات بيع أوقاف أُجريت تحت قيادته.
علاوة على ذلك، وُجّهت اتهامات لإيرينوسوس بالتآمر لبيع عقار يضم فندقين بالقرب من بوابة يافا، وهو مدخل شعبي للبلدة القديمة، مما أثار ضجة واسعة في صفوف الفلسطينيين. لكن التحقيق الذي أجرته السلطة الفلسطينية في هذا الإطار، والذي أثبت عدم تورط البطريرك السابق في عملية البيع المثيرة للجدل، لم يُخفّف من حنق حنق المواطنين.
في الوقت الراهن، يكافح ثيوفيلوس من أجل إثبات تورط سلفه في عملية البيع هذه في المحكمة، إلا أنه يواجه كذلك تهما مشابهة تتعلق بصفقات بيع أوقاف أُجريت تحت قيادته. ومن جهتهم، احتج أعضاء الكنيسة الفلسطينية ضده في ثلاث مناسبات على الأقل خلال سنة 2018، وقدموا دعوى قضائية تتعلق ببعض صفقات بيع الأوقاف المعنية.
وفي سياق متصل، جاء الاحتجاج في مطلع هذه السنة، وقد سبقه احتجاج مماثل سنة 2018، في أعقاب احتجاجات جدت خلال شهر أيلول/سبتمبر من سنة 2017 حيث عُقد مؤتمر في تشرين الأول/أكتوبر من نفس السنة. والجدير بالذكر أن المتظاهرين الغاضبين ألقوا بالقمامة والبيض على موكب البطريرك مطالبين بتنحّيه عن منصبه.
في الأثناء، دعا عيسى رشماوي، الناطق باسم الشباب الأرثوذكسي الفلسطيني في بلدة بيت ساحور التي تقع بالقرب من مدينة بيت لحم، خلال أحد المؤتمرات التي عقدها أعضاء في المجتمع الأرثوذكسي، السلطة الفلسطينية والأردن إلى عزل ثيوفيلوس الثالث وطالب بتفسيرات تبرر عمليات البيع التي أشرف عليها. وأورد رشماوي أن “كل ما ندعو إليه هو أن تتحلى البطريركية في القدس بالوضوح والشفافية”، مضيفا أن “الطريقة التي يتعامل بها المجمع المقدس معهم تحت قيادة ثيوفيلوس لا يمكن وصفها سوى بالديكتاتورية”.
من هذا المنطلق، يمكن أن تصبح قضية التفويت في الأراضي والممتلكات في القدس مسألة حياة أو موت، لا سيما في ظل الضغوط التي تتعرض إليها عائلة مسلمة مقدسية من قبل المجتمع الفلسطيني في القدس الشرقية لتسليم مفاتيح كنيسة القيامة، التي يُعتقد أنها موقع صلب المسيح ومكان دفنه، بعد أن تبين أن أحد أفراد هذه العائلة قد باع منزله إلى جماعة “عطيرت كوهانيم” المتطرفة.
من جهته، يواجه أمين مفاتيح الكنيسة، أديب جودة الحسيني، تهديدات بالقتل بسبب بيعه لمنزله على الرغم من إصراره على أنه قد باعه إلى محام فلسطيني في البلدة القديمة في القدس. واتضح في نهاية الأمر أن المحامي قد لعب دور الوسيط في عملية البيع وفوّت في المنزل لصالح المنظمة الإسرائيلية، التي تشتري منازل الفلسطينيين، غالباً عن طريق شبكة من المشترين والوسطاء من أجل دفع استيطان العائلات اليهودية في الأحياء الفلسطينية التاريخية في القدس لتغيير التركيبة الديموغرافية في المدينة.
باعت الكنيسة العديد من الأراضي في بلدة يافا التاريخية المتاخمة لتل أبيب، فضلا عن مجموعة من العقارات في مدينة قيسارية المطلة على البحر المتوسط، وأخرى في كل من القدس الغربية والشرقية بأسعار مخفضة
في حديثها عن استراتيجية جماعة عطيرت كوهانيم الاستيطانية، صرحت المستشارة القانونية السابقة في مفاوضات السلام بين المنظمات الإسرائيلية والفلسطينية، ديانا بوتو، أن “الإسرائيليين يسعون إلى الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في القدس انطلاقا من حجتهم المستخدمة في المفاوضات بأن “جلّ الممتلكات اليهودية ستصبح تابعة لـ”إسرائيل” في حين أن كل ما هو عربي سيكون ملكا لفلسطين”. وأردفت بوتو قائلة إن هذه الصفقات هي جزء من “خطة طويلة الأمد لتهويد القدس. لذلك، نرى أن السلطات الإسرائيلية تولي اهتماما كبيرا بقضية هدم المنازل أو استيلاء المستوطنين على أراض في القدس”.
خلال الأشهر الأخيرة، ظهرت العديد من التفاصيل المتعلقة بهذه الصفقات، والتي تضم الأراضي التي أجّرتها الكنيسة الأرثوذكسية لفائدة العديد من المنظمات الإسرائيلية منذ خمسينات القرن الماضي، على غرار الصندوق القومي اليهودي، وهو منظمة خيرية تم إنشائها منذ أكثر من قرن من الزمن كوسيلة لشراء الأراضي في فلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني لإقامة دولة يهودية.
علاوة على ذلك، باعت الكنيسة العديد من الأراضي في بلدة يافا التاريخية المتاخمة لتل أبيب، فضلا عن مجموعة من العقارات في مدينة قيسارية المطلة على البحر المتوسط، وأخرى في كل من القدس الغربية والشرقية بأسعار مخفضة. وفي هذا الإطار، قال الناشطون الفلسطينيون الأرثوذكس أن الكنيسة لا يحق لها أن تمتلك هذا العقار نظرا لأن أسلاف المجتمع قد وهبوا معظمه للكنيسة لحفظها أثناء الاحتلال العثماني والبريطاني.
من جهة أخرى، ساهمت سياسة التفويت في الأراضي المثيرة للجدل في تصاعد الأصوات المطالبة بتعريب الكنيسة الأرثوذكسية التي يهيمن عليها الروم. وفي هذا الصدد، قال رشماوي: “نحن نشعر بأننا غرباء في كنيستنا، كل شيء متعلق بالكنيسة هو يوناني، فالصلاة تُعقد يوم الأحد باللغة اليونانية، وعلينا أن نتعلم هذه اللغة لفهم الكلمات التي تُقال داخل كنيستنا”.
المصدر: فورين بوليسي