أطلقت السلطات المغربية، منذ أكثر من 14 سنة برنامجًا تنمويًا للقضاء على أحياء الصفيح المتاخمة للمدن الكبرى، إلا أنها لم تتمكن بعد رغم الاعتمادات المرصودة من الوصول إلى الهدف المنشود، فهذه الأحياء بقيت على حالها وإن تقلص حجمها قليلاً، ما جعلها إحدى القنابل الاجتماعية الموقوتة التي ينتظر انفجارها في أي وقت.
مخلفات الاستعمار والتهميش
تتصدّر أحياء الصفيح المنتشرة في معظم المدن المغربية، المشاكل العديدة التي يعاني منها قطاع الإسكان بالمملكة المغربية، فرغم أن وزارة الإسكان تقدم أرقامًا اقتصادية جيدة لقطاعها، فإنها اعترفت بعجزها عن حل هذه الأزمة.
بداية نشأة هذه الأحياء كانت خلال فترة الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب أي في بدايات القرن العشرين، حيث ظهرت في تلك الفترة بيوت من الصفيح تنبت شيئًا فشيئًا على هوامش بعض المدن، يسكنها خصوصًا الإسبان من الطبقة الفقيرة الذين نزحوا إلى البلاد.
مباشرة بعد الاستقلال، تحولت ملكية تلك البيوت إلى مواطنين مغاربة، فتكاثرت المساكن القصديرية لتصبح عبارة عن أحياء كبرى قائمة بذاتها في ضواحي المدن الكبيرة دون تهيئة، وبمرور الوقت تحوّلت هذه المساكن الصفيحية إلى منازل عشوائية مبنية من حجارة وطين.
ومع ارتفاع أعداد النازحين إلى المدن الكبرى على غرار الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش وفاس، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها العديد من القرى المغربية النائية، ازداد أعداد القاطنين في هذه الأحياء، حتى أصبحت بمثابة المدن الصغرى.
ظلت الأحياء الصفيحية منسية تمامًا طيلة عقود طويلة حتى اليوم الذي حصلت فيه التفجيرات الإرهابية في الدار البيضاء
تتعدد التسميات التي تطلق على هذه الأماكن، فالبعض يحب مناداة هذه الفضاءات بـ”السكن العشوائي” أو “البراريك” أو “الكريان” أو دور القصدير أو مدن الصفيح، لكنه في النهاية فضاء جغرافي واحد، يحتوي على “مساكن” لا تتوافر فيها أبسط ظروف العيش.
ويعتبر الحي الصفيحي المعروف باسم كريان “سنطرا” بعد ابتلاع الحرف الأخير من كلمة “سنطرال” التي تعني المركزي، قبل أن يحمل، مع بزوغ فجر الاستقلال، اسم كريان الحي المحمدي ويختفي “المركزي”، الأكثر استقطابًا للبسطاء في مدينة الدار البيضاء.
ويشتهر أيضًا، حي “دوار طوما”، الذي أصبح رمزًا لأحزمة الفقر الهامشية التي يسكنها الآلاف من الفقراء، ويقطن هذا الحي 2887 أسرة، ويمتد على مساحة 18.7 هكتار ويضم 2076 من أكواخ الصفيح القصديرية.
أما في ضواحي الرباط، فيشتهر اسم “دوار الحاجة” (تحول اسمه إلى حي الفرح) الذي يبعد عن المدينة بضعة كيلومترات، أحد أبرز الأحياء الشعبية الفقيرة التي تحيط بالعاصمة الإدارية، وتصنع غالبية بيوته اليوم من الطين، بعد أن كانت في فترة أولى من قوارير الزيت قبل أن تتحول إلى بيوت قصديرية مبنية بطريقة عشوائية ودون تصاميم قانونية.
في مدينة الرومانسية “فاس”، يبرز اسم حي “الشيشان” الذي اقترن اسمه بالإهمال والبؤس والتهميش، حيث انتشرت مساكن قصديرية مشوهة وغير مكتملة البنيان، دون قنوات صحية وإن وجدت فهي معطلة، وأزقة محفرة، ومصابيح إنارة معطلة.
وتعاني هذه الأحياء الهامشية من الفقر والحرمان الاجتماعي، فالسكان هناك وعلى كثرتهم لا يستفيدون من أي خدمات اجتماعية أو ثقافية أو ترفيهية، فلقمة عيش تسد رمقهم ومأوى يستر عورتهم صعب أن يتوافر فما بالك بالترفيه.
فشل برنامج “مدن دون صفيح”
ظلت هذه الأحياء وغيرها من الأحياء موغلة في الفقر والتهميش ومنسية تمامًا طيلة عقود طويلة حتى جاء اليوم الذي تلقت فيه الدار الييضاء صفعة قوية ليلة 16 من مايو/أيار 2003، لتتحول هذه الأحياء التي لم يكن أحد يسمع عنها إلى موضوع الساعة ووجهة الجميع، فمنفذو اعتداء الدار البيضاء الإرهابية من تلك الأحياء.
منذ تلك الهجمات الانتحارية، أصبحت هذه الأماكن، في نظر السلطات أراضي تستوجب “الاستئصال”، فهي بمثابة قنبلة موقوتة وعلى سكانها أن يغادروها حتى لا “تفرخ” أعدادًا أكبر من المجرمين والإرهابيين يصعب السيطرة عليهم مستقبلاً.
بعد تلك الحادثة، بدأت السلطات المغربية في حملة لاجتثاث هذه الأحياء، حيث اتخذت الحكومة عدة تدابير في إطار البرنامج الوطني “مدن دون صفيح” تتعلق بإعفاء المستفيدين من رسم رخص البناء، وكذا جعل قرض “فوكاريم” الذي خصصته الدولة لأصحاب المهن البسيطة الحرة، ليشمل سلفًا من أجل البناء واقتناء الأرض.
يعد القضاء على هذه الأحياء الهامشية، من أبرز التحديات التي تواجهها السلطات المغربية في السنوات الأخيرة
لم يتبق أمام الدولة المغربية سوى سنة واحدة على تحقيق البرنامج التنموي الكامل “مدن دون صفيح” والمساكن غير اللائقة، الذي أطلقته سنة 2004 الذي يرمي إلى تحسين ظروف عيش أكثر من مليون و800 ألف شخص في 85 مدينة تتوسطها أحياء صفيحية بدعم من الدولة، حيث تعتزم القضاء نهائيًا على مدن الصفيح في المغرب في أفق سنة 2020.
غير أن السلطات التي رفعت تحدي القضاء على مدن الصفيح لم تنجح في تحقيق وعودها، نتيجة أسباب عدة، حيث يعتري هذا البرنامج العديد من المشاكل، من بينها عدم مسايرة نسبة القضاء على دور الصفيح مع نسبة المدن الجديدة التي يتم تشييدها، كما أن بعض السكان يتشبثون بالبقاء في بيوتهم القصديرية، لعدم قدرتهم على دفع تكاليف المنزل الجديد أو رغبتهم في البقاء في المكان الذي تربوا فيه.
ويشكل القضاء على نحو 50 ألف منزل غير لائق كل سنة، أحد أبرز الأهداف التي تسعى إليها وزارة الإسكان المغربية منذ انطلاق هذا المشروع، وتضم العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، وحدها قرابة 98 ألف أسرة، أي نحو 500 ألف شخص، بمعنى 12% من سكان المدينة، و36% من مجموع سكان مدن الصفيح في المغرب.
قنابل اجتماعية
تشكل دور الصفيح كتلة مهمة من الساكنة، استقرت في وقت ما في ضواحي المدن وأحيانًا استوطنت أحياء هامشية داخل المدن وتوسعت مع مرور الوقت، إلا أن حركة التمدن المتسارعة وتطور نمط العيش والتهيئة العمرانية من جهة وتفشي الخطر الإرهابي جراء تفشي الفكر المتطرف، جعل المتتبعين من حقوقيين وأجهزة رسمية، يقفون عند مواطن الخلل التي استنفرت كل القوى الحية.
ويقول الباحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية المغربي عمر مروك، “القطاعات الحكومية اليوم وتحت رعاية الجهاز الأمني حريصة كل الحرص على محاولة التحكم في المد الصفيحي في محاولة للإدماج داخل المجال الحضري عبر توفير سكن اقتصادي يحد من الظاهرة وكذا انشغال الهيئات الحقوقية بأخذ المبادرة من الأحزاب السياسية التي أبانت عن عجزها في تأطير وتكوين الساكنة، بل تعتبر هذه الأحزاب دور الصفيح خزانًا انتخابيًا تستغله وقت الحاجة”.
وتشير العديد من التقارير الحقوقية، إلى توجه العشرات من سكان هذه الأحياء إلى الجماعات المتطرفة داخل البلاد وخارجها، وأيضًا إلى جماعات الجريمة المنظمة، للتخلص من وضعهم المعيشي الصعب، فالوصول إلى المال يبرر لهم الوسيلة.
تعتبر تفجيرات الدار البيضاء بداية الاهتمام بهذه الأحياء
يذكر المغاربة، ظهور تنظيم متطرف من أحد هذه الأحياء الصفيحية أطلق على نفسه “التكفير والهجرة” يتزعمه المدعو يوسف فكري الذي حكم عليه بالإعدام على خلفية أحداث الدار البيضاء، قبل أن يتوفى في السجن في 14 من نوفمبر/تشرين الثاني 2007.
ويرى الباحث المغربي في حديثه لـ”نون بوست”، أن المجهودات التي تقوم بها الدولة المغربية في هذا المجال مهمة، لكن تبقى غير كافية في ظل غياب مقاربة اقتصادية واجتماعية توفر العيش الكريم وشغل قار للشباب وتمدرس في المستوى يوجه لسوق الشغل وينمي مستوى الوعي والاحساس بالمواطنة.
“الدولة مطالبة بمقاربة إدماجية تنصهر فيها مجهودات مختلف القطاعات والمتدخلين لأن الرهان كبير في ظل استمرار وجود خلايا نائمة للإرهاب تتصيد الفرص، وفي ظل تقارير دولية وإعلامية تكشف المستور عما يحدث داخل هذه المنظومة الهشة من جريمة وعوز ولا استقرار يهدد صورة البلد خارجيًا، ويجعل من المواطنة مواطنتين، واحدة من الدرجة الأولى لها كل الحقوق والأخرى من الدرجة الثانية جعلت منها الظروف قنبلة موثوقة يتم استغلالها كخزان انتخابي سهل التوجيه وفكر متشدد حاقد بكل ما تحمله الكلمة من معنى”.
يعد القضاء على هذه الأحياء الهامشية، من أبرز التحديات التي تواجهها السلطات المغربية في السنوات الأخيرة، فبقاء هذه الأحياء على حالها سيزيد من تفاقم المشكلة، حتى يصعب التحكم بها تطويقها وهو ما يخشاه المغاربة.