لطالما كان الخوف من فقدان الوظيفة سحابةً كبيرة تخيّم على سماء العمل وما يتعلّق به. فعلى ما يعتقد البعض، لا يعدّ هذا الخوف، أو كما يُسمّيه علماء النفس “انعدام الأمان الوظيفي” ظاهرة حديثة البتة، فلو عدنا إلى خمسينات وستينات القرن الماضي لوجدنا أنّ الكثير من الأشخاص والأجيال كانت في خوفٍ دائم من فقدان الوظيفة أو التسريح أو الإحالة للتقاعد المبكّر وغيرها من الأخطار.
حديثًَا، تسعى العديد من الدراسات للبحث في تأثيرات هذه الظاهرة التي يتعامل معها البعض على أنها أكثر خطورة مما كان يعتقد في السابق. لا سيّما وأنّ الكثير من الأبحاث والخبراء يعتقدون أنّ عدم اليقين والخوف يمكن أنْ يكون في الواقع أسوأ من التسريح أو الفصل المفاجئ، نظرًا لأنّ الشعور بعدم الأمان يرتبط بالشعور بالعجز ويؤدّي إليه.
انعدام الأمان الوظيفي يؤثّر سلبًا على الصحة
يعدّ مرض القلب السبب الرئيسي للوفاة في العالم، لما يرتبط به الكثير من العوامل الأخرى مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم والتدخين والسمنة، وما إلى ذلك. وفي السنوات الأخيرة، توصّلت العديد من الأبحاث أنّ العوامل الاقتصادية تلعب دورًا كبيرًا ورئيسيًّا في زيادة خطر إصابة الأفراد بأمراض القلب.
التذبذب والتقلّب القاسي في دخل الفرد يؤدي إلى مضاعفة خطر الوفاة المبكّرة والإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية
ففي واحدة من الدراسات الحديثة التي نشرتها جمعية القلب الأمريكية قبل أيام، سعى الباحثون لفهم آثار التذبذب المستمرّ في دخل الفرد على صحته العامّة. إذ تابعوا 3937 من البالغين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 23 إلى 35 عامًا بدءًا من العام 1990 ولغاية عام عام 2005، ثمّ عكفوا حتى عام 2015 على دراسة السجلات الطبية وشهادات الوفاة لتقييم أمراض القلب والأوعية الدموية وأسباب الوفاة.
وكما هو متوقّع، توافقت نتائج الدراسة مع غيرها من الدراسات السابقة، إذ وجد الباحثون أنّ التذبذب والتقلّب القاسي في دخل الفرد خلال فترة شبابه يؤدي إلى مضاعفة خطر الوفاة المبكّرة والإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في السنوات اللاحقة. ولو أردنا تفسيرًا واضحًا لذلك، لوجدنا أنّ انخفاض الدخل وانعدام الأمان الوظيفي يرتبط فعليًا مع بعض السلوكيّات غير الصحية، بما في ذلك الإجهاد واللجوء لشرب الكحول أو التدخين أو الطعام غير الصحي أو عدم كفاية النشاط البدنيّ، وغيرها الكثير.
انعدام الأمان الوظيفي يرتبط مع بعض السلوكيّات غير الصحية مثل اللجوء لشرب الكحول أو التدخين أو الطعام غير الصحي
فيما وجدت دراسة أنّ التهديدات أو المخاوف المتصورة من التسريح وفقدان العمل تدفع العمّال إلى إيلاء اهتمام أقل بالسلامة، وبالتالي التعرّض لمزيد من الإصابات والحوادث في نطاق العمل نفسه. كما أنّ الموظفين يكونون أكثر ترددًا أيضًا في الإبلاغ عن الإصابات عندما يخشون فقدان وظائفهم. وبالتالي، فإنّ انعدام الأمن الوظيفي يرتبط أيضًا بالحوادث التي لا يتم الإبلاغ عنها.
في عصر السرعة والتكنولوجيا.. هل الأمان الوظيفي مجرّد وهم؟
غالبًا ما يرغب الأشخاص بالشعور بأنّ وظائفهم آمنة قبل أنْ يشعروا بأيّ شيءٍ آخر فيما يتعلّق بالعمل. تفترض بعض النظريات أنّ الشعور بالأمان الوظيفي يؤدي إلى الرضا الوظيفي والقيام بالعمل بأفضل طريقة ممكنة، فيما يؤدي انعدامه إلى انعدام الرضا ما يؤثّر سلبًا على الأداء والإنجاز. فإذا كان الواحد منّا يشعر بالقلق والتوتّر المستمرّين بشأن مستقبل وظيفته، فسيكون عليه من الصعب المحافظة على مستوىً جيّد من الأداء والقدرات.
تخبرنا نظرية فريدريك هيرزبيرج، والتي وضعها قبل 60 عامًا ولا تزال نتائجها صالحة حتى الآن، أنّ هناك العديد من العوامل الوظيفية التي تؤدي إلى شعور العاملين بالرضا وتحفيزهم للإنجاز والأداء الأفضل، بما في ذلك شعورهم بالأمان الوظيفيّ، وغياب تلك العوامل لا يؤدي بكلّ تأكيد إلى شعورهم بالرضا الذي يترتّب عليه الكثير. ووفقًا لعددٍ من الإحصاءات، فإنّ الراتب والشعور بالأمان الوظيفي يشكّلان أهمّ العوامل التي يبحث عنها الشخص في وظيفته.
تفترض بعض النظريات أنّ الشعور بالأمان الوظيفي يؤدي إلى الرضا الوظيفي والقيام بالعمل بأفضل طريقة ممكنة، فيما يرى البعض أنّه يتمركز حول الحفاظ على المهارات المتطورة وتوسيع مجال الخبرات والقدرات شيئًا فشيئًا.
لكن في المقابل، يعتقد البعض أنّ الشعور بالأمان الوظيفيّ قد يتعارض مع الشعور بالرضا الذي يقود للإنجاز والإبداع، لا سيّما في وظائف القطاع الخاصّ وغير الحكوميّ. فالكثيرون مستعدون للتخلّي عن مزايا القطاع الخاص مثل الراتب الجيد والمرتفع في سبيل الحصول على وظيفة حكومية تحقق لهم الأمان الوظيفيّ بما فيه من استقرار نفسي أو معنوي أو مادي، تمامًا كما تحقّق لهم الانتماء وضمان الاستمرار في العمل دون قلق حول المستقبل وما هو قادم حتى لو كان الراتب منخفضًا.
يتطلّب التغير السريع الذي يشهده العالم القدرة على التكيف وتعلّم مهاراتٍ جديدة وتوسيع نطاق الخبرات
تعلّق كاثي كنودسون، وهي مستشارة مهنية ومعالِجة في سان فرانسيسكو، في إحدى المقالات المنشورة في صحيفة نيويورك تايمز أنه “لا يوجد شيء اسمه الأمن الوظيفي، إنه مجرّد تناقض أو وهم”. إذ ترى أنّنا في الحقيقة لم نعد نعيش في العالم الذي كان يعيش فيه آباؤنا وأجدادنا، حيث كان يمكن للشخص أن يبقى في وظيفته لمدة ثلاثين سنة أو أقلّ.
فالتغير السريع الذي يشهده عصر المعلومات وعالم التطوّر التكنولوجيّ سريع الخطى يخلقان وظائف جديدة ما بين الفترة والأخرى، تمامًا كما يتسبّبان في القضاء على الكثير من الوظائف الأخرى. الأمر الذي يتطلّب من الشخص القدرة على التكيف وتعلّم مهاراتٍ جديدة وتوسيع نطاق خبرته لمواكبة كلّ تلك التغييرات والتجديدات. وبتعبيرٍ آخر، ترى كنودسون أنّ الأمان الوظيفي يتطلّب الحفاظ على المهارات المتطورة وتوسيع مجال الخبرات والقدرات شيئًا فشيئًا.
الدول الإسكندنافية نموذجًا.. الأمان المرن بديلًا عن الأمان الوظيفي
قامت بعض الدول الإسكندنافية وغيرها من الدول الأوروبية بإدخال مفهوم “الأمان المرن Flexicurity” بديلًا عن مصطلح “الأمان الوظيفي” الذي على ما يبدو أنه لم يعد يعبّر عن معناه كما كان في السابق. فقد اقترح رئيس وزراء الدنمارك بول نيروب راسموسن المصطلح في تسعينات القرن الماضي، وهو اشتقاق من المصطلح “Flexible -Security System”.
تعمل الدول الإسكندنافية بنظام “الأمان المرن” لضمان حقوق كلٍّ من الموظف وصاحب العمل
بدأ العمل بهذا النظام عام 1994، وترتكز فكرته على أنه لا يحدد حدًّا أدنى للأجور ولا ساعات عمل، كما لا يوجد به عقد عمل نموذجي حيث يتم التفاوض بين الموظف وصاحب العمل والوصول لشروط مرضية لكلا الطرفين. وفي حالة التسريح والإيقاف عن العمل، لا يتعين على صاحب العمل دفع تعويض للموظف. في المقابل، يوفّر النظام تأمينًا ضد البطالة (unemployment insurance) عن طريق شركات التأمين.
يقدّم لنا هذا النموذج حلًّا مرنًا وبديلًا لبحثنا عن الأمان الوظيفي في مسيرتنا المهنية في عالمٍ يشهد الكثير من التغييرات المهنية والتكنولوجية والاقتصادية العديدة. وعلى الرغم من أنّ دولنا العربية قد تكون عاجزة الآن عن تحقيق النظام لحلّ مشاكل انعدام الأمان والبطالة، إلّا أنه بكلّ تأكيد يقدّم لنا فهمًا أفضل لمفهوم الأمان الوظيفيّ وكيفية تحقيقه للتأقلم مع الوظيفة وتطويرها وتحقيق الذات من خلالها.
عوضًا عن أنّ مثل هكذا نظام يتطلّب استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا يسعى من خلال العديد من القوانين المدروسة إلى البحث عن بدائل معاصرة تواكب التطوّر السريع الذي يمرّ فيه العالم من أجل حلّ مشكلات العمل والبطالة وما يرافقها من ظواهر وحالات كمشكلة القلق والخوف من فقدان الوظيفة، الأمر الذي يصعب تحقيقه في كثيرٍ من دول المنطقة العربيّة التي تعجز أساسًا عن تحقيق استقرارها السياسيّ والاقتصاديّ.