بعد مرور 20 يومًا على الاحتجاجات السوادنية التي اندلعت في الـ19 من ديسمبر الماضي، تنديدًا بارتفاع أسعار الوقود والخبز وعدم توافر السيولة النقدية في البنوك، تدخل الانتفاضة الشعبية نفقًا جديدًا في مواجهة نظام الرئيس عمر البشير الذي يواصل تمسكه بمنصبه رافضًا لكل المطالب التي تدعوه للتنحي حفاظًا على مستقبل بلاده.
البشير وبعد عجز الوعود التي قدمها للمحتجين عن امتصاص غضب الشارع، لجأ إلى إستراتيجية جديدة في التعامل مع الاحتجاجات بعدما رفعت سقف مطالبها دون رغبة في تقديم أي تنازلات، حيث حشد مؤيديه نحو الشارع في مواجهة الاحتجاجات المستمرة منذ ثلاثة أسابيع، مصحوبًا بآلة القمع والاعتقالات للنشطاء والسياسيين.
بعد 30 سنة من حكم #البشير، ما الذي اخرج #السودان إلى الشارع؟#مدن_السودان_تنتفض #موكب9يناير pic.twitter.com/faLZVTY0jl
— نون بوست (@NoonPost) January 8, 2019
السلطات السودانية بعد فشل القبضة الأمنية والاعتقالات في إخماد التظاهرات تميل إلى خيار مواجهة الحشود المعارضة بأخرى مؤيدة، والمظاهرات المنددة بمثلها داعمة، وهو الخيار الذي وصفه البعض بأنه “لعب بالنار” لما قد يترتب عليه من كوارث حال نشوب مواجهات بين الجانبين.
القضارف تجدد الاحتجاجات
لم تكد تهدأ الأوضاع في السودان حتى تأتي تظاهرة أخرى تؤجج الشارع وتشعل جذوة الاحتجاجات مرة أخرى، فبعد يومين من الهدوء النسبي الذي ساد معظم المناطق شهدت عدة مدن سودانية على رأسها مدينة القضارف (شرق) وعبري (شمال) موجة من التظاهرات العارمة التي جددت مطالبة الرئيس بالتنحي.
البداية كانت مع تجمع آلاف من مواطني القضارف في السوق الرئيسية للمدينة هاتفين بسقوط النظام ورحيل البشير، ورغم مطاردة الشرطة لهم عبر الغاز المسيل للدموع، سرعان ما كان يتجمع المحتجون بأعداد كبيرة في مناطق أخرى وهكذا.
الرئيس السوداني بعد اتهامه بعض من وصفهم بالخونة والعملاء باستغلال “ضعاف النفوس للتخريب والحرق والنهب” في البلاد، استقر على عدد من الإستراتيجيات الأخرى لمواجهة تلك الموجة الاحتجاجية
يذكر أن القضارف من بين المدن الولائية الكبرى التي شهدت أعمال تخريب وإحراق لمقر المؤتمر الوطني وبعض المواقع والسيارات الحكومية، خلال موجة الاحتجاج الأولى وقتل خلالها نحو ستة أشخاص أغلبهم من طلاب المدارس الثانوية، غير أن تظاهرات اليومين الماضيين لم تشهد سقوط قتلى في ظل شعارات السلمية التي رفعها المتظاهرون وتجنبهم الاحتكاك بقوات الأمن الملاحقة لهم.
تجمع المهنيين السودانيين الذي دعا لتنظيم الاحتجاج على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أكد أن الموكب السلمي الذي شارك فيه الآلاف وصل إلى مبنى المجلس التشريعي، وقرأ ممثل للتجمع مذكرة تطالب بتنحي البشير عن الحكم وسط هتافات وزغاريد الثائرات والثوار.
تظاهرات في القضارف
حشود في مواجهة حشود
ردًا على الاحتجاجات المستمرة طيلة الـ20 يومًا الماضية التي كرست حالة الرفض الشعبي لسياسات البشير، يبدو أن الرئيس السوداني بعد اتهامه بعض من وصفهم بالخونة والعملاء باستغلال “ضعاف النفوس للتخريب والحرق والنهب” في البلاد، استقر على عدد من الإستراتيجيات الأخرى لمواجهة تلك الموجة الاحتجاجية.
البداية كانت عبر قيامه ببعض التحركات لحشد أنصاره في محاولة لتقديم صورة مغايرة لما كانت عليه طيلة الأسابيع الثلاث الأخيرة، فبعد زيارته لولاية الجزيرة في الـ25 من ديسمبر الماضي تزامنًا مع مسيرة القصر الأولى، توجه أمس إلى مدينة عطبرة بولاية نهر النيل التي انطلقت منها الشرارة الأولى للاحتجاجات.
البشير وفي خطاب له خلال حضوره مهرجان الرماية القومي في نسخته الـ55 الذي تستضيفه لهذا العام قيادة سلاح المدفعية في الولاية، أكد أن القوات المسلحة قادرة على حماية مكتسبات البلاد، مجددًا دعم الجيش له ولنظامه وهو الموقف الذي أعلنه سابقًا بداية الاحتجاجات بعدما أثيرت أنباء عن تأييد بعض قادة الجيش للمتظاهرين، موجهًا دعوته لما وصفهم بـ”المتمردين” بالعودة إلى البلاد من أجل “بنائها معًا”.
من ناحية أخرى أعلنت لجنة القوى السياسية لمعالجة الأزمة التي كونتها قوى الحوار الوطني، عن تنظيم مسيرة اليوم الأربعاء تحت مسمى “سلام السودان“، بساحة الشهداء جنوب القصر الجمهوري، ومن المقرر أن يخاطبها البشير وعدد من قيادات الأحزاب والقوى السياسية الداعمة للنظام.
رئيس حزب التحرير والعدالة ووزير العمل بحر إدريس أبوقردة، كان قد قال في مؤتمر صحفي، الأحد الماضي إن قوى الحوار رأت إسناد الأمور بهذه النفرة لتعزيز ممسكات الوحدة، مضيفًا “المسيرة تجديد للعهد ووفاء بالوعد”، وأنها تأتي في إطار دعم تماسك الدولة وخيارات الشعب، والعمل على حل الأزمة خاصة القضايا المتعلقة بالفساد وكسر حلقات السمسرة والوقود والنقود والخبز.
جدير بالذكر أن البشير وفي لقاء تليفزيوني له قبل عدة أيام أكد أن الخيار الوحيد لتغيير النظام هو صناديق الاقتراع، موجهًا حديثه لمن يطالبونه بالتنحي عن السلطة إلى الاستعداد لخوض الانتخابات المقبلة للوصول إلى الحكم عام 2020، معتبرًا أن “خطوة أحزاب جبهة التغيير الوطنية، بتقديم مذكرة تطالبه بتشكيل مجلس سيادة انتقالي لتسيير شؤون البلاد، جاءت من قيادات حزبية أعفيت من الوزارات”.
أصوات أخرى قللت من حجم هذا التخوف، لا سيما بعدما قرر الحزب الحاكم تنظيم مسيرته في الساحة الخضراء، جنوب الخرطوم، فيما أعلنت القوى المعارضة تجمعها في محطة الشهداء
تكرار التجربة المصرية
يبدو أن التقارب بين السودان ومصر في الأيام الأخيرة لم يقتصر فقط على إزالة حدة التوتر بين البلدين بعد سنوات من التراشق السياسي والإعلامي في ظل تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات، إذ يبدو أن النظام السوادني بات يحذو حذو نظيره المصري حتى في قمع الاحتجاجات وسيناريوهات مواجهتها.
في فبراير 2011 انقسم المشهد المصري إلى صورتين، الأولى: تجمع ثوار 25 يناير والقوى الداعمة لهم في قلب ميدان التحرير، والثانية: أنصار نظام مبارك في ميدان مصطفى محمود بالجيزة، ومع تطور الأحداث التقى الفريقان في أكثر من مواجهة أسفرت عن سقوط مصابين وقتلى.
المشهد ذاته تكرر في 2013 حين تجمع أنصار الثورة المضادة في قلب ميدان التحرير تحت حراسة ورعاية القوات المسلحة والشرطة، فيما اكتفى الثوار والقوى الإسلامية الداعمة لهم في ميدان رابعة العدوية والنهضة، حينها كانت الأعلام والهدايا تلقى على المتظاهرين في ميدان التحرير فيما كانت الرسائل التحذيرية وطلقات الغاز ومن بعدها الرصاص الحي من نصيب المعتصمين المدافعين عن ثورتهم في قلب رابعة والنهضة.
ومن قبلهما وفي نهاية 2012 حشدت القوى التي انضوت تحت مسمى “جبهة الإنقاذ” لمسيرة حاشدة صوب القصر الجمهوري اعتراضًا على التعديل الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي، ما تسبب في وقوع مشادات مع أنصار مرسي والمدافعين عن مكتسبات الثورة حينها، أدت إلى وقوع عدد من القتلى والجرحى من الجانبين، فضلاً عن اعتماد سياسة الحشود في مواجهة الحشود التي اتبعها أنصار الثورة المضادة وقتها.
تظاهرات داعمة للبشير
اللعب بالنار
حالة من الترقب والقلق سادت الشارع السوداني مع الإعلان عن حشود داعمة للبشير ردًا على المناوئة له، إذ عبر البعض عن خشيته من حدوث اختراق لكلا الحشدين من الطرف الآخر وهو ما يعني سقوط أعداد من الضحايا قد يصعب حصرها حال تخلى كلا الجانبين عن الحكمة والتروي.
الكاتب الصحفي السوداني الطاهر أبو بكر أكد أن الحكومة والحزب الحاكم عبر السماح بحشود داعمة لهما وللبشير قد ورطا نفسيهما، سياسيًا وأخلاقيًا، إذ ليس من المعقول أن تكون مسيرات تحت رعاية الجيش والشرطة، بينما تُقابل الاحتجاجات المناوئة بقنابل الغاز المسيل للدموع الرصاص الحي والاعتقالات.
أبو بكر لـ “نون بوست” وصف مثل هذه الدعوات بـ”اللعب بالنار” كاشفًا أن التجربة المصرية في هذا الشأن ليست بالبعيدة، مع الفارق الكبير بين التجربتين، الذي ربما يجعل من الوضع في السودان مجزرة حقيقية حال نشوب مثل هذه المواجهات، مؤكدًا أن البشير ما أقدم على هذا السيناريو إلا بعدما شعر بالقلق الحقيقي حيال مستقبله وصورته المشوهة عالميًا بعد الجموع الغفيرة التي خرجت تطالبه بالتنحي.
أصوات أخرى قللت من حجم هذا التخوف، لا سيما بعدما قرر الحزب الحاكم تنظيم مسيرته في الساحة الخضراء، جنوب الخرطوم، فيما أعلنت القوى المعارضة تجمعها في محطة الشهداء قبل الانطلاق إلى مقر البرلمان الواقع في مدينة أم درمان نفسها، لكن تكمن الخطورة هنا فيما يثار بشأن الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعزف على وتر اختراق التجمع المؤيد والهتاف بسقوط البشير في أثناء كلمته، وهو ما يعني صدامًا دمويًا بين الطرفين حال حدوث ذلك.
ومن ثم يحبس السودانيون أنفاسهم خلال الساعات القليلة المقبلة خشية نشوب أي مواجهات بين مسيرتي الدعم والتنديد، أو اختراق أي من الطرفين لحشد الآخر، خاصة في ظل غلبة الكفة المدعومة من الجيش والشرطة، وعلى كل حال فإن لجوء البشير لهذا الخيار الصعب يعكس وضعه الحرج الذي دفعه للزود عنه بآخر ما تبقى لديه من أوراق ضغط.