“شوفوا لتر البنزين في أوروبا بـ30 جنيهًا مصريًا”، لم تكن تلك الجملة لأحد مؤيدي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على مواقع التواصل الاجتماعي دفاعًا عنه، لكن قالها السيسي بنفسه، في فقرة إعلامية أشبه بإعلام الستينيات، خلال مداخلة هاتفية لبرنامج “يحدث في مصر” على فضائية “إم بي سي مصر”.
هي العبارة ذاتها التي قالها وزير البترول طارق الملا، قبل يوم واحد من قول السيسي، ففي مداخلة هاتفية ببرنامج “صالة التحرير” المذاع على قناة “صدى البلد”، قال الملا – علاوة على قول السيسي -: “لا يوجد دعم للمحروقات نهائيًا في الدول الأوروبية، وهي تعمل على الاستخدام الأمثل للوقود”.
بهذه الكلمات التي تتناقض مع الواقع الذي يعيشه المواطن المصري مهَّد السيسي ووزيره لرفع سعر البنزين، ليجد المصريون أنفسهم في بداية عام جديد على موعد مع قرار حكومي يقضي بتحرير أسعار الوقود وربطها بالأسعار العالمية للنفط من خلال تشكيل لجنة فنية لمتابعة آلية التسعير التلقائي للمواد البترولية، وذلك استجابة لضغوط شديدة من صندوق النقد الدولي.
ما لم تقله حكومة السيسي
القرار الذي يعني ضمنيًا بدء التخلي النهائي للدولة عن دعم أسعار الطاقة، وستشمل مرحلته الأولى البنزين العالي الجودة أو ما يعرف بـ”أوكتان 95″، يفتح الباب على مصراعيه أمام اتخاذ قرار أخطر، يقضي بتحرير أسعار كل المشتقات البترولية والكهرباء وربط سعرها بالأسواق العالمية.
ورغم النفي الحكومي المتكرر بشأن زيادة أسعار البنزين مطلع عام 2019، فمن المقرر أن يشهد شهر يونيو/حزيران المقبل استكمال تحرير باقي أصناف الوقود (بنزين 90 وبنزين 92)، وبيعها بالأسعار العالمية، بالإضافة إلى السولار، كما يُتوقع أن يتضمن القرار كذلك إلغاء الصنف المعروف بالبنزين الشعبي “أوكتان 80” الذي يُصنف على أنه “وقود الفقراء” في مصر، واستبداله بأنواع أخرى أغلى في السعر وأفضل في الجودة.
وزير البترول المصري طارق الملا سارع في تصريحات لوسائل إعلام محلية بالتشديد على أن قرار تحرير أسعار الوقود “قرار مصري خالص”، في محاولة منه على ما يبدو لنفي التحليلات التي وضعت الخطوة الحكومية في سياق الاستجابة لضغوط صندوق النقد الدولي.
وكانت الحكومة المصرية قد وقعت عام 2016 اتفاقًا مع صندوق النقد للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار يُدفع على مدار 3 سنوات، مقابل التزام الحكومة بتنفيذ برنامج إصلاحات اقتصادية، يتضمن تحرير أسعار الوقود والكهرباء ورفع الدعم نهائيًا عن السلع الأساسية.
يمثل التضخم المرتفع أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي خلال تنفيذ إجراءات برنامج الإصلاح الاقتصادي
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، كشفت وكالة “بلومبيرغ” عن مخطط الحكومة المصرية لرفع دعم أسعار البنزين تدريجًا بحسب فئاته، بحيث تبدأ آلية تسعير بنزين 95 بداية العام 2019، ليبدأ العمل بهذه الآلية التي تربط السعر المحلي بالأسعار العالمية اعتبارًا من مارس/آذار المقبل، على أن تليها بقية فئاته في سبتمبر/أيلول.
ولعل ما يعزز منطق خصوم الحكومة بوجود ضغوط خارجية قرار صندوق النقد الدولي تأجيل الدفعة الخامسة والأخيرة من القرض البالغة ملياري دولار، وكان من المفترض استلامهما في ديسمبر/كانون الأول الماضي انتظارًا لخطوة تحرير سعر الوقود.
ويمثل التضخم المرتفع أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي خلال تنفيذ إجراءات برنامج الإصلاح الاقتصادي، إذ وصل إلى أعلى مستوياته في ثلاثة عقود خلال يوليو/تموز من العام الماضي عند 34.2%، لكنه تراجع بشكل ملحوظ منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
“يا مهندس طارق زوّد البنزين ما تقلقش“
جاءت هذه العبارة خلال إجابة السيسي عن أسئلة الحاضرين في المؤتمر الوطني السادس للشباب بجامعة القاهرة، في يونيو/حزيران الماضي، محاولاً بصورة مستمرة التخفيف من حدة إجراءاته الاقتصادية باللجوء إلى تصريحات توضح استعداده للتضحية من أجل مصر، ثم ما لبث أن عقّب ضاحكًا: “قاعدين تركبوا العربيات وكيكي ومش كيكي.. يا مهندس طارق (يقصد وزير البترول) زوّد البنزين ما تقلقش”، ثم انفجر ضاحكًا.
فعلها المهندس طارق – أو سابقه – للمرة الخامسة في عهد السيسي، دون قلق كما أوصاه الرئيس الذي زادت سخريته من أوجاع المصريين، في موقف أقرب إلى موقف الرئيس المخلوع حسني مبارك بعد حادث غرق العبَّارة “السلام 98” عام 2006، ففي لقاء مع أحد المواطنين، كان الأخير يتحدث عن طريقة ذهابه لعمله عن طريق ركوب “عبّارة” رد مبارك قائلاً “عبّارة من اللي بيغرقوا”؟ الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة من مصريين اعتبروا التعليق استهتارًا بحياة المواطنين واستخفافًا بكارثة أودت بحياة أكثر من 1300 مواطن.
هذه السخرية من معاناة الناس ومآسيهم لم يكن أحد من المصريين يتوقع أن تعود إلى خطاب المسؤولين المصريين بعد ثورة أطاحت بمبارك بعد 30 عامًا في سدة الحكم، لكن النظام الحاليّ كرر هذه السخرية عدة مرات في خطاب لأكبر مسؤول فيه، فضلاً عن مسؤولين آخرين، وامتزج خطاب السخرية بمفردات التهديد والوعيد باستمرار تلك المعاناة.
السعر العالمي الذي يشير إليه الوزير يدور حول دولار واحد مقابل لتر بنزين 95، أي ما يوازي 18 جنيهًا مصريًا حسب سعر الصرف الحاليّ
سبق ذلك ما هو أكثر إيلامًا من السخرية، ففي يونيو/حزيران 2017 شهدت أسعار الوقود زيادة بنسب تصل إلى 55%، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 زادت بنسب تراوحت بين 30 و47%، وفي يوليو/تموز 2014 بنسب اقتربت من الضعف، لتتراوح الزيادة الإجمالية ما بين 400% و500%، منذ تولي السيسي للحكم عام 2014، عقب انقلاب قادة الجيش في 3 من يوليو/تموز 2013.
ورغم محاولات الوزير المصري تبديد المخاوف هذه المرة من موجات ارتفاع كبيرة في أسعار المشتقات النفطية نتيجة القرار الحكومي بالقول: “حدود التغيير لم تتجاوز نسبة 10% هبوطًا أو صعودًا قياسًا على ارتفاع الأسعار العالمية للنفط”، فإن تحليلات اقتصادية أخرى أبدت خشيتها من تسبب القرار في تدشين موجة جديدة من الغلاء، قياسًا بقرارات سابقة برفع أسعار الوقود.
يُضاف إلى ذلك أن السعر العالمي الذي يشير إليه الوزير يدور حول دولار واحد مقابل لتر بنزين 95، أي ما يوازي 18 جنيهًا مصريًا حسب سعر الصرف الحاليّ، علمًا بأن سعره قبل قرار “التعويم” لم يكن يتجاوز 8 جنيهات، فكيف ستكون الحال إذا وقعت زيادات عالمية في أسعار الوقود خلال الأشهر القليلة الماضية؟
استنادًا إلى الأرقام الرسمية الصادرة بموازنة مصر لعام 2018-2019، فإن هذا الخفض في سعر النفط عالميًا سيوفر للموازنة المصرية نحو 56 مليار جنيه سنويًا، غير أن الحكومة المصرية تقول إن الفجوة التمويلية للموازنة العامة للدولة خلال العام المالي 2019–2020 تصل لنحو 637.3 مليار جنيه، وهو ما يدفعها إلى تحرير الأسعار للمساهمة في سد هذا العجز.
ارتفعت أسعار البنزين 4 مرات منذ تولي السيسي الحكم
الصب في مصلحة الدولة وليس المواطن
هناك عاملان اثنان يعززان مخاوف كثير من المصريين من تبعات القرار الحكومي الجديد، أولهما يتعلق بإمكانية خفض سعر الجنيه المصري مقابل الدولار بسبب ضعف أداء الاقتصاد بشكل عام وانتكاس معدلات النمو، إضافة إلى تراجع احتياطي النقد الأجنبي بقيمة ملياري دولار دفعة واحدة، وفقًا لما أعلنه البنك المركزي المصري هذا الأسبوع.
أما الثاني، فهو تراجع القوة الشرائية للمواطن المصري بسبب تدني الأجور واقتصار زيادات الرواتب في القطاع الحكومي على فئات محددة داعمة للنظام مثل ضباط الجيش والشرطة والقضاة.
ومع تحرير الأنواع الأخرى من الوقود المرتبطة بالطبقات الفقيرة والمتوسطة قبل تحسين دخولهم وأوضاعم المعيشية وخفض الأسعار الرئيسية خاصة الأغذية والشراب، من المتوقع أن خطوة كتلك سترفع كل الأسعار داخل المجتمع وفي المقدمة المواصلات العامة ومترو الأنفاق والقطارات وتكلفة النقل والشحن وإنتاج المحاصيل الزراعية والصيد وغيرها.
وفي حال زيادة كلفة هذه السلع، فإنها ستجر خلفها كل أسعار الخدمات من دروس خصوصية وأجرة طبيب وغيرها، وبالتالي نكرر سيناريو ما حدث عقب تعويم قيمة الجنيه المصري في نوفمبر 2016 الذي أدى إلى انهيار قيمة العملة المحلية وتآكل المدخرات وقفزة في معدل التضخم.
“الصب في المصلحة” سيتواصل في العام الجديد، على الرغم من حديث البعض عن البدء بقطف ثمار التنمية والمشروعات القومية الكبرى
وعلى عكس الواقع، يرى المسؤولون في مصر أن هذه القرارات تصب في مصلحة المواطن، وهي عبارة ترددت كثيرًا على ألسنة كبار المسؤولين، عقب تطبيق القرارات المتعلقة بزيادة أسعار السلع والخدمات، فوزير الكهرباء والطاقة المتجددة محمد شاكر، عندما يعلن عن زيادة جديدة في فواتير الكهرباء، فإنه يسارع ويلحقها بعبارة أنها تصب في مصلحة المواطن والمصلحة العامة.
وكذلك الحال بالنسبة للزيادات التي تمت في أسعار الوقود من بنزين وسولار وغاز منزلي، فإن الحكومة تسارع بعدها وتؤكد أن هذه الزيادات تأتي في مصلحة المواطن، وتراعي الغالبية العظمى من المصريين، خاصة محدودي الدخل.
النتيجة أن “الصب في المصلحة” سيتواصل في العام الجديد، على الرغم من حديث البعض عن البدء بقطف ثمار التنمية والمشروعات القومية الكبرى، ولذا ستواصل أسعار السلع والخدمات زيادتها رغم الحديث الحكومي عن خطة لخفض معدل التضخم، وطالما أن هناك وفودًا من صندوق النقد الدولي تأتي وأخرى تغادر القاهرة فلن يرى المصريون انخفاضًا في الأسعار.