مما لا شك فيه أن السودان بعد 19 من ديسمبر/كانون الأول لن يكون كما كان من قبل، فالانتفاضة التي انطلقت شرارتها من مدينة عطبرة شمال البلاد تكبر كل يوم ككرة الثلج مهما حاولت الحكومة السودانية التقليل منها، إذ فشلت كل محاولات الرئيس عمر البشير واستخدامه سياستي العصا والجزرة في إيقاف سيل المتظاهرين فلم تزدهم خطاباته إلا تصميمًا على إسقاط النظام رغم سياسة القمع وإطلاق الرصاص والتنكيل بالشباب المتظاهرين، فضلًا عن الإساءة إليهم ووصفهم بـ”الخونة والمرتزقة والعملاء”.
كثيرة هي التقارير ومقالات الرأي والتحليلات التي تناولت ما يدور في السودان منذ 3 أسابيع من الشهر الماضي، لكننا سنركز هنا على جانبين اثنين: الأول عن إصرار الشباب على إزاحة البشير والنظام الحاكم من المشهد هذه المرة بالتحديد، والثاني عن أبرز الشخصيات التي يمكن أن تحل محل الرئيس البشير خاصة أنه قد لمّح إلى إمكانية تسليم السلطة إلى الجيش أو إلى الشباب.
عزيمة غير مسبوقة للشباب السوداني
شباب السودان المنضوي تحت لافتة “تجمع المهنيين السودانيين” يبدون عزيمة غير مسبوقة في وجه آلة القمع والقتل التي أجازها البشير ضمنًا تحت مسمى “القصاص” وهو التعبير الذي وجد استهجانًا كبيرًا، دفعه لاحقًا تحت الضغط الدولي إلى تشكيل لجنة تحقيق في قتل المتظاهرين الذين اعترفت الحكومة بأن عددهم 19 فقط، فيما أكدت إحصاءات منظمة العفو الدولية أنهم بلغوا 37 شخصًا، ولدى أحزاب المعارضة إحصائية ثالثة تؤكد أن من قُتلوا خلال التظاهرات يبلغ عددهم 40 مواطنًا سودانيًا.
وبينما كانت الحكومة السودانية خاصة وزارة الخارجية تدافع عما حدث من عنف وقتل للمتظاهرين السلميين في وجه عاصفة الانتقادات من مفوضية الاتحاد الإفريقي والأمين العام للأمم المتحدة ودول الترويكا، فإن النائب السابق للبشير علي عثمان طه تورط في تصريح آخر أكثر خطورة، إذ أكد وجود مليشيات و”كتائب ظل” تحرس النظام وجاهزة للتضحية حتى بالأرواح، واعتبر العديد من النشطاء والإعلاميين أن هذا التصريح بمثابة تهديد للمواطن السوداني، ويكشف تمامًا أن القوات التي تقتل المتظاهرين تأتمر بأمر القيادة العليا للنظام، حيث تَجدَّد قَنص المتظاهرين بالرصاص الحي في موكب أمس الأحد 9 من يناير/كانون الثاني الذي قُتل فيه 3 من الشباب متأثرين بجراحهما، فضلًا عن وجود عشرات الجرحى بينهم حالة واحدة خطرة على الأقل.
خطابات ووعود متكررة
لم يؤثر في هؤلاء الشباب خطابات البشير المتكررة التي لا جديد فيها منذ 30 عامًا، ففي كل مرة يبرر فشله بما يسميها “مؤامرة على السودان”، من دون أن يذكر من المتآمرين ولماذا يتآمرون على السودان بالتحديد دون بقية بلدان العالم، أما وعوده بتحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية فلم تجد آذانًا مصغية هي الأخرى نسبةً لأن وعوده فاقدة المصداقية بالنسبة لهذا الجيل من الشباب الذين تتوق نفوسهم إلى التغيير وإلى قيادة شابة تنتشل البلاد من حالة الضياع التي تعيشها.
فالسودان بعد 3 عقود من حكم البشير أضحى في المرتبة الثامنة من أفقر عشرة دول في العالم رغم موارده وثرواته الضخمة، وحاز المرتبة السابعة في قائمة أكثر دول العالم فسادًا بشهادة منظمة الشفافية الدولية، كما أن 65% من أطفال السودان مصابون بسوء التغذية ولا يجدون الغذاء المناسب، هذا بخلاف الكثير من المصائب التي حدثت في عهده ومنها دمار البنية التحتية للبلاد، فانهار مشروع الجزيرة أكبر مشروع زراعي مروي في إفريقيا، ولم يعد السودان يملك خطوط جوية بعد تدمير “سودانير” إحدى أقدم شركات الطيران في المنطقة، وكذلك لم يعد يملك خطوط بحرية ولا سكّة حديد ولا مصانع.
شباب السودان المستنير والمتدفق حيويةً وأملًا لم تخيفه قنابل الغاز المدمع ولا الاعتقال والضرب ولا حتى القنص بالرصاص الحي الذي أدى إلى مقتل 3 شباب جُدد حتى الآن في مظاهرات أمدرمان أمس
في خطاباته المتكررة وآخرها أمام الحشد المصنوع الذي جاء معظم من شهدوه أمس بالساحة الخضراء غصبًا عن إرادتهم لأنهم موظفون بالدولة، يكشف الرئيس عن جهله الشديد عندما يحذر من تحول السودانيين إلى لاجئين، فهو لا يعلم ربما أن الهجرة أضحت الحلم الأول لأي شاب سوداني بل حتى للفتيات في مقتبل العمر هربًا من الجحيم الذي يعيشه سودانيو الداخل بعد 30 من سنواته العجاف، ويبدو أنه مغيب كذلك، لدرجة يجهل ألا أسرة سودانية تخلو من مهاجر أو مهجّر، فقد وصل عدد المغتربين السودانيين إلى نحو 8 ملايين مواطن حول العالم.
وهذا ما قد يفسر حالة الغبن والتصميم الشديد لدى السودانيين وخاصة الشباب هذه المرة على الإطاحة بالبشير وحزبه، فالرئيس المغيب تمامًا عن عملية النزوح والتهجير الضخمة التي شهدها السودان في عهده يؤكد من جديد أنه لا يصلح للاستمرار في الحكم بوعوده وتمنياته التي لم يعد يصدقها أحد بل أصبحت مادة للتندر والسخرية.
شباب السودان المستنير والمتدفق حيويةً وأملًا لم تخيفه قنابل الغاز المدمع ولا الاعتقال والضرب ولا حتى القنص بالرصاص الحي الذي أدى إلى مقتل 3 شباب جُدد حتى الآن في مظاهرات أمدرمان أمس وما زالت الأعداد مرشحة للزيادة لكثرة الإصابات وسط المتظاهرين بينهم حالات خطرة، وبالمناسبة معظم الشباب الذين يخرجون في مواكب ومظاهرات السودان الحاليّة ليست لديهم علاقة بالمعارضة السياسية خلافًا لما يعتقد بعض المراقبين.
الشباب الذين خرجوا ويخرجون منذ 19 من ديسمبر/كانون الأول يتطلعون لأن يحكمهم رئيس شاب مستنير يستطيع الجلوس إلى نظرائه في أوروبا وأمريكا وليست عليه قيود سفر دولية وليس متهمًا بالتورط في جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية
هؤلاء الشباب وحتى العديد من كبار السن يريدون أن يروا سودانًا آخر غير الذي يسيطر عليه البشير وحزبه بالقبضة الحديدية، فهُم يأملون في أن ينعموا بالحرية والديمقراطية وحكم المؤسسة لا الفرد، ويريدون أن يعود السودان منتجًا ومُصدّرًا للغذاء لا متسولًا يستجدي مساعدات الدول الشقيقة كحفنةً من الدولارات أو شحنات القمح التي من العار أن يرسلها آخرون لبلدٍ به 200 مليون فدان صالحة للزراعة وبها أكثر من 9 أنهار وروافد مائية عذبة.
والشباب الذين خرجوا ويخرجون منذ 19 من ديسمبر/كانون الأول يتطلعون لأن يحكمهم رئيس شاب مستنير يستطيع الجلوس إلى نظرائه في أوروبا وأمريكا وليست عليه قيود سفر دولية وليس متهمًا بالتورط في جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
هذا غيض من فيض مما يعتمل في صدور معظم الشباب السوداني الذي عجز البشير والحزب الحاكم عن إقناعهم بالخطاب المتكرر الخالي من أي جديد بل حتى إنه قد خسر قطاعاتٍ واسعةً من المناصرين، وفيهم بعض القيادات الحزبية المهمة، بسبب استئثار الرئيس ودائرته المنتفعة بالسلطة، وتوجيه جُل سياساته إلى خدمة هذا الاستئثار.
أبرز المرشحين لخلافة البشير
أبدى الرئيس عمر خلال خطابه مع قادة عسكريين في منطقة قريبة من مدينة عطبرة قبل يومين استعداده لتسليم السلطة إلى الجيش لكنه لم يحدد آلية لذلك، وتذهب ترجيحات مراقبين ومحللين إلى أنه سيلجأ إلى هذه الخطوة في حالة تواصُل ضغط المظاهرات عليه لا سيّما أن عدد من قادة الحزب الحاكم بدأوا في التذمر من تشبث البشير بالسلطة، ولا أدل على ذلك من تصريح الشفيع محمد أحمد الذي شغل من قبل منصب سفير السودان لدى إيران وعدد من دول الجوار إلى جانب ترؤسه القطاع السياسي في الحزب الحاكم في وقت سابق، فالشفيع دعا ـ في تسجيل صوتي تم التأكد منه ـ الرئيس البشير إلى تفويض سلطاته إلى النائب الأول، لتهيئة الظروف إلى تشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية مدتها (3-5 سنوات)، ما يعني تنحي البشير.
النائب الأول بكري حسن صالح ربما يعد أحد الشخصيات التي يلجأ إليها البشير لتسلم السلطة مؤقتًا ريثما تقوم الانتخابات، وهناك ملاحظة لم ينتبه إليها كثير من المراقبين وهي اختفاء بكري من واجهة الأحداث منذ بداية الأزمة فلم يدلِ ولا بتصريحٍ واحد
ولذلك، فإن النائب الأول بكري حسن صالح ربما يعد أحد الشخصيات التي يلجأ إليها البشير لتسلم السلطة مؤقتًا ريثما تقوم الانتخابات، وهناك ملاحظة لم ينتبه إليها كثير من المراقبين وهي اختفاء بكري من واجهة الأحداث منذ بداية الأزمة فلم يدلِ ولا بتصريحٍ واحد، ولم يُعرف عنه توجيه إساءات لأفراد الشعب السوداني كما يفعل البشير مثل قول الأخير عن المتظاهرين “خونة، مرتزقة، عملاء”، صحيح أن بكري صالح محسوب على النظام وهو شريك فيما يحدث منذ 30 عامًا لكنه قد يكون خيارًا لتولي السلطة بصفة انتقالية.
الشخصية الأخرى المطروحة لخلافة البشير هي قريبه معتز موسى الذي يشغل منصب رئيس الوزراء، ومع أنه فشل حتى الآن في مهامه التي كُلف بها منذ سبتمبر/أيلول من العام الماضي، فإنه شخصية يمكن أن يثق بها البشير كضامن لعدم تسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
ومن الجيش هناك عسكريون يمكن أن يسلمهم البشير السلطة أيضًا مثل رئيس الأركان كمال عبد المعروف أو وزير الدفاع عوض ابن عوف،
من جانب الثُوّار وقُوى الشباب هناك شخصيات أخرى مرشحة من التكنوقراط، لأن المتظاهرين لا يريدون تكرار ذات الوجوه من قادة الأحزاب بما فيها الحزب الحاكم، ومن أبرز الشخصيات المفضلة لدى الثوار:
السياسي السوداني كامل إدريس
كامل إدريس: ناشط مدني وسياسي سوداني، حاصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من المعهد العالي للدراسات الدولية، جامعة جنيف، شغل منصب المدير العام للمنظمة الدولية لحقوق الملكية الفكرية (WIPO) من نوفمبر 1997 حتى سبتمبر 2008، وكان أيضًا رئيس اتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (أوبوف) بجانب عضويته في لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة.
برز اسم الدكتور كامل إدريس في الساحة السياسية السودانية عندما رتب لقاءً شهيرًا عام 1998 بين الإسلاميين والحكومة وقتها (الراحل حسن الترابي) والسيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي المعارض، وحاول إدريس آنذاك تقريب وجهات النظر بين الحكومة التي كان يقف خلفها الترابي والمعارضة التي كان حزب الصادق المهدي أحد قياداتها الرئيسية، لكن محاولات إدريس باءت بالفشل ولم يكشف حتى الآن أسرار ذلك اللقاء وتداعياته.
عمر فضل الله
عمر فضل الله: خبير إداري ومتخصص في تقنية المعلومات معروف على مواقع التواصل، حاصل على درجة الدكتوراه في علوم الحاسب الآلي تخصص نظم المعلومات من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، لديه رؤية كاملة تقوم على نظام سياسي بدستور دائم، يوفر الحريات ويحقق العدالة والمساواة ويتيح الفرص للجميع دونما عزل أو تفرقة، ويتطلع لإعادة بناء هيكل الدولة وتولية الكفاءات، كما يهدف فضل الله إلى صناعة اقتصاد مستقر ونامٍ وأنظمة لإدارة البلاد باستخدام التقنية الحديثة مع الاهتمام بالبنية التحتية والخدمات الأساسية للمواطن مثل التعليم والصحة والإصلاح الاجتماعي.
بالإضافة إلى علاقات خارجية متوازنة تراعي مصالح السودان وعلاقات الجوار، ويقول إنه سيسعى لأن تقوم كل مؤسسة بواجبها الحقيقي فلا يتدخل الجيش في السياسة ولا تتقاطع المسؤوليات والوظائف، ويضيف في رؤيته “نريد سودانًا ناهضًا يكون جديرًا بأن يقال له قلب إفريقيا ونريد أن نكون سلة غذاء حقيقية وتكون بلادنا بلاد إنتاج زراعي وحيواني ومعدني ويقيني أن شباب اليوم جدير بهذا وأن السودان يستحق منا الأفضل”.
أحمد مَقلد
أحمد مَقلد: ناشط سياسي وطبيب مقيم بالخارج يبلغ من العمر 35 عامًا، قدّم نفسه عبر موقع تويتر كمرشح لرئاسة الجمهورية في السودان أمام عمر البشير في انتخابات 2020، وقد تواصل معه “نون بوست” للتعرف على برنامجه ووعد بالرد لكنه لم يفعل حتى لحظة كتابة المادة، وبشكلٍ عام يواجه ترشح مقلد معضلة في الدستور الحاليّ الذي لا يسمح بالترشح لمنصب الرئيس لمن يقل عمره عن 40 عامًا.
وأخيرًا، رغم الدعم الدولي والإقليمي الذي يجده نظام البشير “حتى الآن” من دعمٍ كل الأنظمة المتصارعة في المنطقة، فإنه لا يملك أي أوراق تؤهله للاستمرار في حكم البلاد، نضرب مثلًا بسيطًا على ذلك، كل الجامعات مغلقة أمام الطلاب، والحكومة بين خيارين أحلاهما مُر إذا فتحتها فهذا يعني تقديم خدمة على طبق من ذهب للنشطاء الذين يقودون الاحتجاجات، وإذا أغلقتها فإن العام الدراسي متعطل والطلاب متفرغون للمظاهرات، نشير إلى أن جامعة النيلين التي تقع مبانيها وسط الخرطوم تضم آلاف الطلاب والطالبات يمكنهم أن يخرجوا في أي وقت في حال بداية الدراسة وبالقرب منها جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا التي يدرس بها الآلاف كذلك، فضلًا عن جامعة الخرطوم وبالضفتين المقابلتين للنيل هناك جامعات أخرى مثل أمدرمان الإسلامية والأهلية وبحري وغيرها، هذه كل كله كوم والاقتصاد شبه المتعطل كوم آخر في ظل الأزمة المستمرة لما يقارب الشهر.
وفي النهاية يتوقف الأمر على موقف الجيش وبقية الأجهزة الأمنية التي بإمكانها الضغط للتوصل إلى صيغة توافقية يتنازل فيها البشير عن السلطة مقابل ضمانات بعدم الملاحقة الدولية والداخلية، وتتشكل بموجب الصيغة حكومة وحدةٍ وطنية “تشارك فيها قوى الشباب وربما المعارضة”، لإدارة البلاد مؤقتًا، ريثما ينجز دستورٍ جديد وانتخاباتٍ تمهد الطريق لتحول ديمقراطي.