ترجمة وتحرير نون بوست
اليوم الخميس، سأنضم إلى صانع الأفلام الوثائقية أليكس جيبني، والعميل الخاص السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي، علي صوفان، جنبا إلى جنب مع المشرعين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والأصدقاء في مبنى الكابيتول الذي يقع في العاصمة واشنطن، وذلك لتكريم الصحفي جمال خاشقجي الذي أصبح رمزا لحرية التعبير في جميع أنحاء العالم. وسيتزامن هذا الحدث مع مرور 100 يوم على مقتله، حيث سنتذكر إنسانيته وشجاعته.
التقيت جمال خاشقجي منذ 16 سنة في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، حين كان يشغل منصب نائب رئيس تحرير صحيفة “عرب نيوز”. كنت حينها أقوم بإرشاد المراسلين الشباب في جريدة “سعودي جازيت” المنافسة والناطقة باللغة الإنجليزية. وكانت قوانين الصحافة في المملكة العربية السعودية تمنعك من الكتابة عن الحكومة أو العائلة المالكة أو الدين، وهو ما لم يترك مجالا كبيرا من الحرية. عموما، كانت المنابر الصحفية في المملكة إما مملوكة من قبل أفراد العائلة المالكة أو تحت سيطرتها. وقد اكتُشف لاحقا أن جريدة “سعودي جازيت” كانت تابعة للأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية آنذاك، لذلك شعرت بأنني كنت أدرّس مهاراتي لأشخاص لن يتمكنوا من تطبيقها على أرض الواقع.
كان خاشقجي رجلا طويل القامة، مستدير الوجه. وكان ذا شخصية لطيفة وفكاهية وصوته يتسم بالعمق. لقد كان شخصية فريدة في عالم تُكتم فيه أصوات الصحافة. وكمراسل شاب، قام بتغطية الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، حيث أجرى هناك مقابلة مع أسامة بن لادن. وحين كان كل من خاشقجي وبن لادن أصغر سنا، كانا ينتميان إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت في ذلك الوقت مصدحا للدعوة إلى الانشقاق والمعارضة.
عند لقائي به، قال لي جمال: “كنا نأمل في إقامة دولة إسلامية في أي مكان”. لكن كليهما، جمال وبن لادن، ابتعدا عن جماعة الإخوان المسلمين، حيث أصبح بن لادن أكثر راديكالية، فيما تراجع جمال عن تشدده. لقد كان خاشقجي مسلما مؤمنا، لكنه رفض الإسلاموية عندما تحولت إلى العنف. وخلال سنة 1995، أرسلت عائلة بن لادن خاشقجي إلى السودان، حيث كان يلجأ بن لادن هناك ويعمل على دعم منظمته الإرهابية. وقد كانت مهمة خاشقجي تتمثل في إقناعه بنبذ العنف علناً. لكن بن لادن رفض الإدلاء بأي تصريح من هذا القبيل.
عندما قابلت جمال سنة 2003، أدان ما يقوم به بن لادن. وكان قد كتب عمودا في صحيفة “عرب نيوز”، محملا مسؤولية أحداث 11 أيلول/ سبتمبر للإخفاقات الثقافية للمملكة العربية السعودية، وخاصة الوهابية، دين الدولة الراسخ في المملكة. وفي هذا الصدد، كتب خاشقجي: “على الرغم من فظاعة ما حدث، إلا أننا لا زلنا نعيش في حالة إنكار ونتشبث بنظريات المؤامرة غير المحتملة وننظر إلى الحقيقة بشكوك. تتمثل القضية الأكثر إلحاحا الآن في ضمان عدم تأثر أبناؤنا بأفكار متطرفة، مثلما حدث مع الخمسة عشر سعوديا الذين وقع تضليلهم لاختطاف أربع طائرات في ذلك اليوم من شهر أيلول / سبتمبر وقيادتها والجز بنا مباشرة في ممرات الجحيم”.
عندما كتبتُ عن تجربتي في المملكة العربية السعودية في الخامس من كانون الثاني/ يناير سنة 2004 في مجلة “نيويوركر”، أطلقت على المقال عنوان “مملكة الصمت” بسبب الحذر الذي واجهته في كل مكان زرته هناك. لكن جمال كان شخصا حاسما وشجاعا في مواقفه، بيد أنه لم يكن لينفتح إلى هذه الدرجة إذا لم يكن مدعوما من بعض كبار الأمراء في ذلك الوقت.
لقد تحدث خاشقجي عن “الفصام” الذي يعاني منه العديد من السعوديين، وقد كان يعني من خلاله التناقض بين ما أسماه الوجه “الحقيقي” للمملكة وآخر “وهمي”. وأعطى مثالا على أطباق الأقمار الصناعية، التي كانت تعتبر شكليا ضد القانون. وفي هذا السياق، قال خاشقجي: “في الواقع، نحن من أكبر المتابعين للقنوات الفضائية في الشرق الأوسط”.
بعد مرور شهر عن لقائنا، تم تعيين جمال رئيس تحرير لصحيفة “الوطن”، وهي واحدة من أكثر الصحف نفوذا في المملكة العربية السعودية. وقد قمت بزيارته في مكتبه في أبها، جنوب السعودية التي لا تقع بعيدا عن الحدود مع اليمن. وقد كان ذلك في السابع من نيسان/ أبريل سنة 2003، وهو اليوم ذاته الذي احتلت فيه القوات الأمريكية وقوات التحالف بغداد. وقد قال خاشقجي حينها: “كل شيء سيغير، العالم العربي كله سيذهب في اتجاه جديد”. وفي هذا السياق، سألته عما إذا كان للأحسن أو الأسوأ، فأجابني:” للأحسن. فلا يمكننا أن نذهب في اتجاه أسوأ مما نحن عليه اليوم. إن الأسوأ بالنسبة لنا هو أن نصبح مثل الصومال، وبعبارة أخرى، فوضى عارمة”.
كان جمال السعودي الوحيد الذي التقيت به، والذي كان مؤيدا للحرب على العراق. في الحقيقة، أعتقد أن هذا كان بسبب إيمانه القوي بمثال الديمقراطية الأمريكية وبالقدرة على نشر هذه الديمقراطية حول العالم. لكنه أخطأ في الحكم على نوايانا وقدراتنا. لقد كان حلمه أن يكون العالم العربي خاليا من الطغيان والظلم، كما كان يعتقد بأن الولايات المتحدة قد تفعل للعرب ما لا يمكنهم فعله لأنفسهم. لقد كان يقف في صف المحافظين الجدد في إدارة جورج دبليو بوش. وبعد أيام قليلة، وأثناء الاحتفالات في بغداد، التي كانت مختلطة بالنهب، كانت السعادة تغمر جمال، حيث قال: “إن الأمر يحدث، لقد بدأ يحدث أخيراً”.
لكن ذلك لم يحدث. فعندما عدت إلى جدة، توقع أحد المحررين في صحيفة “سعودي جازيت” أن جمال سيتعرض للقتل بسبب الغضب الكبير من تعليقاته المؤيدة للحرب. وبعد أقل من شهرين، تم فصل جمال من منصبه في صحيفة “الوطن”. في الواقع، كان خاشقجي صريحا جدا حول المتطرفين الدينيين، حتى أنه نشر رسما كاريكاتيريا لرجل دين يرتدي سترة ناسفة، لكن عوضا عن المتفجرات كان يحمل فتاوى في جيوبه.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يقرر فيها جمال الذهاب إلى المنفى باختياره بينما كان لا يزال في المملكة، حيث تحدثنا كثيرا حول محاولته إيجاد وظيفة كأستاذ في جامعة أمريكية. لقد كان هناك العديد من الجامعات المرموقة المهتمة، بما في ذلك جامعة كولومبيا. لكن، بعد فترة تم تعيينه كمساعد للأمير تركي الفيصل، الذي كان في ذلك الوقت سفيرا للسعودية في المملكة المتحدة، وهذا ما مكنني من إجراء عدة مقابلات مع خاشقجي في لندن من أجل إطلاق كتابي حول تنظيم القاعدة تحت عنوان “البرج الذي يلوح في الأفق”. بعد ذلك، أصبح الأمير تركي سفيرًا للسعودية في الولايات المتحدة، حيث انتقل خاشقجي معه إلى العاصمة واشنطن. لقد أحس بالدفء في هذه المدينة، لدرجة أنه فكر في الانتقال إليها نهائيا في أحد الأيام.
بعد مدة، أُجري تحوير في هيكل السلطة العائلة المالكة في المملكة العربية السعودية، حيث أُعيد تعيين خاشقجي مجددا في صحيفة “الوطن” سنة 2007، لكنه عمل هناك لمدة ثلاث سنوات فقط. لقد كان خاشقجي تقدميًا للغاية وغير مستعد للالتزام بالقواعد. كما كان الأمير الوليد بن طلال، وهو من أغنى الأمراء السعوديين، تقدميا أيضا، ولهذا السبب قام بتوظيف خاشقجي من أجل إطلاق قناة فضائية إخبارية في البحرين تدعى “العرب”، التي استمر عملها لمدة 11 ساعة فقط قبل سقوط الحكومة البحرينية، وهي حليف وثيق للسعودية.
في صيف سنة 2017، اتصل بي جمال من المملكة. ولأول مرة لاحظت من نبرة صوته أنه كان مرتبكا، فقد منعته الحكومة السعودية من الكتابة (كان يكتب عمودا لقناة العربية) أو الظهور على شاشات التلفزيون (حيث كان معلقًا سياسيًا في قناة الجزيرة والبي بي سي وغيرها من القنوات الدولية). وفي هذا السياق، قال خاشقجي: “لقد منعوني أيضا من نشر تغريدات على تويتر. إنهم يرغبون في إسكاتي بشكل نهائي”.
في كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2016، كانت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية قد نشرت أن هذا الحظر جاء نتيجة للانتقادات التي وجهها خاشقجي لسياسة ترامب في الشرق الأوسط، التي وصفها بأنها متناقضة ومن الصعب تحقيقها. وفي ذلك الوقت، كان محمد بن سلمان، الذي كان آنذاك ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع، يقود الحرب في اليمن. وحينها، أدرك خاشقجي أن مساحة الحرية في المملكة آخذة في الانكماش.
في حزيران/يونيو من سنة 2017، وعلى إثر انقلاب عائلي، أصبح محمد بن سلمان وليا للعهد. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر، تم إلقاء القبض على مئات من رجال الأعمال، الذين كان معظمهم من العائلة المالكة، حيث احتُجزوا في فندق ريتز كارلتون بالرياض بناءً على أوامر ولي العهد، بسبب تهم فساد تتعلق بمليارات الدولارات. كما شاع أنهم تعرضوا إلى سوء المعاملة.
ذكرت صحيفة “التايمز” أن ضابطا عسكريا واحدا توفي خلال العملية، الذي كسرت رقبته على ما يبدو. ومن ثم تتالت الاعتقالات، بما في ذلك اعتقال نشطاء في مجال حقوق المرأة ومثقفين ومدونين، وهو ما تسبب في صرخات غضب، سببُها تناقض الوضع مع الإصلاحات التحريرية التي روج لها ولي العهد من قبيل؛ السماح للنساء بقيادة السيارات، وفتح قاعات السينما، وتقييد سلطات الشرطة الدينية. ولقد كنت أحد مؤيدي هذه الإصلاحات دون الاحتجاج على الجانب المظلم من الحكم السلطوي لولي العهد.
في خضم هذا الوضع، كان خاشقجي على يقين من أن مصيره سيكون السجن أيضًا وهو ما دفعه إلى الهروب إلى المنفى للمرة الثانية. ولحسن الحظ، استقبلته صحيفة “واشنطن بوست”. وقد كتب لأول مرة في أيلول/ سبتمبر الماضي في أول عمود له أن “ولي العهد محمد بن سلمان وعد خلال صعوده سلم السلطة، بتبني الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، لكن جل ما أراه الآن هو موجة الاعتقالات الأخيرة. إن بعض هؤلاء المعتقلين هم أصدقاء مقربون لي، وبالتالي، هذا الواقع بمثابة العار الذي يتعرض له المثقفون والزعماء الدينيون الذين يجرؤون على التعبير عن آراء تتعارض مع آراء قادة بلدي”.
التقيت خاشقجي لآخر مرة في شهر آذار/ مارس في مدينة أوستن حيث أعيش، إذ دعوته للانضمام لي في جامعة تكساس من أجل إلقاء محاضرة حول العمل الصحفي في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، اختلفنا حول بعض النقاط، حيث كان خاشقجي لا زال يحدوه الأمل في أن تمدّ الولايات المتحدة يد المساعدة للشرق الأوسط، في حين لم أعد أصدق أن الولايات المتحدة ستثبت على موقفها هناك. وهكذا، كان خاشقجي يؤمن فعلا ببلادي أكثر مني.
على الرغم من صعوبة الحياة في المنفى، إلا أن خاشقجي واصل التعبير عن حبه لوطنه، إذ كان يتمتع بحريته هناك على الأقل. في هذا الشأن، كتب خاشقجي في أحد أعمدة الصحيفة: “لقد تركت بيتي وعائلتي وعملي، وها أنا أعبر بصوت عال، لأن عدم القيام بذلك هو خيانة لأولئك الذين يقبعون في السجن. أنا أحظى بحرية التعبير بينما لا يقدر الكثيرون على ذلك”.
لقد أُسكت صوت خاشقجي للأبد، وصدم موته العالم أجمع، لكنه لم يكن الوحيد. في الواقع، لقي العديد من المراسلين في جميع أنحاء العالم المصير نفسه، حيث قتل العشرات منهم خلال السنة الماضية فقط، في حين زُج المئات في السجن. لقد تحدثت لجنة حماية الصحفيين عن أزمة حرية الصحافة، نظرا لأن قمع حرية التعبير سمح للاستبداد بتشديد قبضته على السلطة. في الواقع، ليس هناك سبب آخر لمثل هذه الممارسات.
سنجتمع في واشنطن يوم الخميس لنؤكد مرة أخرى أن الدور الرئيسي للولايات المتحدة في العالم يتمثل أساسا في الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان. وسوف ندافع عن الصحفيين الذين يمتلكون الشجاعة لفضح المخالفات التي ترتكبها الحكومات، سواء كانت المصالح التي يهاجمونها خاصة بأعدائنا أو حلفائنا أو حتى حكومتنا. لقد كان جمال خاشقجي صحفيا من هذا القبيل، حيث جسّد صفات الحقيقة والعدالة التي تمثلها الولايات المتحدة في أفضل حالاتها. وسوف نشكره دائما على تذكيرنا بهذا الأمر.
المصدر: نيويوركر