قبل أشهر قليلة عن موعد الانتخابات الرئاسية في موريتانيا، عاد الحديث مجدّدا عن الدور الكبير الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية في البلاد، فضلا عن الدور البارز للقبيلة في تحديد توجهات الدولة الكبرى والصغرى على حدّ السواء، ما جعل بعض الموريتانيين يقولون إن بلادهم هي باختصار دولة العسكر والقبيلة، فكيف هذا؟
الانقلابات العسكرية هي الفيصل
تعهّد الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في أكثر من مرة بعدم الترشّح لولاية رئاسية ثالثة، وترك الموريتانيين يختارون بشكل حرّ دون ضغوطات، مرشحهم المفضل لحكم البلاد في السنوات الخمسة القادمة وقيادتها نحو التقدم والتطور، غير أن البعض من الموريتانيين يشكّكون في ذلك فتحركات الرئيس لا توحي بهذا الأمر.
ويعمل ولد عبد العزيز والمحيطين به من العسكر في الفترة الأخيرة على تحضير مرشح لهم، ويبرز اسم القائد العام لأركان الجيش الموريتاني السابق والمعين حديثًا في منصب وزير الدفاع محمد ولد الغزواني، كأبرز مرشح لخلافة ولد عبد العزيز بالقصر، فضلا عن رئيس البرلمان الحاليّ الشيخ ولد بايه، ويعد هذا الأخير، وهو عقيد متقاعد في الجيش الموريتاني، صديقًا شخصيًا للرئيس محمد ولد عبد العزيز.
ويعتقد الموريتانيون أنه من الصعب على العسكر التنازل عن حكم البلاد لفائدة مدنيين، ولهم في ذلك عديد الذكريات، فالبعض منهم يتذكر ما حصل في أغسطس/أب 2008، عندما أقدم قادة المؤسسة العسكرية على انهاء حكم الرئيس الموريتانى حينها “سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله” بعد أشهر من الشد والجذب، وسيطرة قائد أركان الحرس الرئاسي حينذاك الجنرال محمد ولد عبد العزيز وقائد أركان الجيش محمد ولد الغزواني على مقاليد السلطة في البلاد.
المؤسسة العسكرية في موريتانيا لا يبدو أنها مستعدة لتقبل أن تكون السلطة لغيرها، وهي قناعة تقاسمها فيها معظم المؤسسات العسكرية في الوطن العربي
جاء هذا الانقلاب، بعد أقل من سنتين من تقلّد أول رئيس مدني منتخب منصبه في موريتانيا، حيث فاز “ولد الشيخ عبد الله” في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مارس/أذار 2007 وتولى رئاسة البلاد في 19 أبريل/نيسان 2007، ويعتبر أول رئيس مدني في موريتانيا يصل إلى الحكم بأصوات الشعب في أول انتخابات دعمه خلالها العسكر، بحسب ما اعترف هو لاحقا بعد انقلابهم عليه.
ومن نسي ذلك، له أن يتذكّر انقلاب 2005 ضدّ الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، الذي تولى أطول فترة رئاسية في تاريخ موريتانيا، على يد مجموعة من رفاقه المقربين، وسبق أن واجه ولد الطايع عدة محاولات انقلابية، أبرزها محاولة فاشلة قادها ضباط زنوج عام 1987، ثم قاد صالح ولد حننا -وهو ضابط في الجيش برتبة رائد- محاولتين انقلابيتين فاشلتين عامي 2003 و2004.
معاوية ولد الطايع، تزعم بدوره انقلابا عسكريا في يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 1984، أطاح بمحمد خونا ولد هيدالة متهما نظامه بالتسبب في تدهور اقتصاد البلاد وملء السجون بالمعتقلين، وتذكر بعض المصادر أن فرنسا أقنعت ولد هيدالة بحضور مؤتمر القمة الإفريقية الفرنسية في بوغمبورا عاصمة بوروندي، وهو غياب انتهزه الضباط الجدد لاستلام الحكم.
تاريخ موريتانيا مع الانقلابات، لم يتوقّف هنا، فمحمد خونا ولد هيدالة، الذي انقلب ضدّه ولد الطايع، وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري ضد العقيد محمد ولد لولي ورئيس وزرائه القوي أحمد ولد بوسيف سنة 1980، وقد لجأ هيدالة إلى إلغاء الرق عام 1980 وإلى تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1983 للحصول على بعض الشرعية بين شعبه.
قاد الجيش الموريتاني عديد الانقلابات العسكرية
“محمد محمود ولد أحمد لولي”، أيضا، وصل للحكم عبر انقلاب عسكري ضدّ العقيد مصطفى ولد السالك، وتولى “ولد أحمد الولي”، رئاسة موريتانيا في الفترة ما بين 3 يونيو/حزيران 1979 و4 يناير/كانون الثاني 1980.
والعقيد الذي انقلب ضدّه “ولد أحمد لولي”، هو أيضا، كان قد انقلب ضدّ حكومة المختار ولد داداه سنة 1978، ويعدّ “المُخْتار ولد محمد ولد دادَّاهْ” باني الدولة الموريتانية، حيث كافح من أجل استقلالها وتولّى منصب الرئاسة فيها منذ الاستقلال عن فرنسا مطلع ستّينيات القرن العشرين.
ويرى موريتانيون، أن المؤسسة العسكرية في بلادهم لا يبدو أنها مستعدة لتقبل أن تكون السلطة لغيرها، وهي قناعة تقاسمها فيها معظم المؤسسات العسكرية في الوطن العربي، وهو ما انعكس على تنمية البلاد، فمنذ حصول موريتانيا على استقلالها عن الاحتلال الفرنسي 1960 والبلاد لم تشهد استقرارا سياسيا يفضي إلى تنمية تشعر بها الطبقات الفقيرة.
ويؤكّد العديد من الموريتانيين، أن أي مرشح للانتخابات الرئاسية من الجيش سينجح حتما، فالمؤسسة العسكرية تدعمه، وكل موارد الدولة وإداراتها ومؤسساتها مسخرة له، وإن حصل العسكر فسيتم الانقلاب عليه كما حصل في السابق، وفي التاريخ ذكرى.
القبيلة كأداة للوصول إلى السلطة
ليس العسكر فقط، المتحكم في موريتانيا، فللقبيلة أيضا دورا مهما في تحديد سياسات هذا البلد الواقع في أقصى الطرف الغربي للوطن العربي، فهناك ما زالت القبيلة تتحكم بمختلف مناحي الحياة من أصغرها إلى أكبرها دون استثناء، لذلك فإن كسب ولاء القبيلة يمثل أولوية لكلّ طامح في السلطة.
ويعد الانتماء القبلي هو الانتماء الأقوى لدى الفرد الموريتاني، وينقسم المجتمع الموريتاني منذ القديم إلى مجموعات قبلية عديدة، ظلت طيلة تاريخها محتكمة إلى العرف القبلي، في ظل غياب شبه كامل من السلطة المركزية وعدم الخضوع أو التبعية الفعلية لها.
هذا الدور الكبير للقبيلة في موريتانيا، جعل منها جماعة ضغط قوية ونافذة في البلاد، فهي من تصنع الحدث دون أن تتبناه، وتؤثر في القرار دون أن تعلن نفسها، الجميع هنا يعلم قوتها ولكن لا يصرح بذلك، خشية منها، فالأمر من المسكوت عنه والمتعارف عليه في الوقت نفسه بين الجميع.
تعتبر القبيلة في موريتانيا، المحرك الأساسي للأحداث السياسية، والفاعل في الصراعات الدائرة بين الأقطاب السياسية في الوقت الحاضر
يدرك معظم الموريتانيين أن القبيلة في بلادهم من تتحكم في مفاصل الدولة والحكم وحتى المعارضة، وإن كان ذلك بصورة غير علنية، فلها أن تعين وأن تقيل من تريد، حتى إن اسم القبيلة الذي تنتمي إليه له أن يعوض الدراسة في كبرى الجامعات العالمية، فالقبيلة تغلب الكفاءة.
يحظى شيوخ القبائل في هذا البلد العربي الذي يقع غرب القارة السمراء، بمكانة مميزة لدى الحكام والمسؤولين في البلاد، وتجري استشارتهم بشكل مباشر وغير مباشر في تسيير الشؤون المحلية والوطنية، وتعيين كبار المسؤولين واختيار زعماء الأحزاب والمنظمات المدنية.
وتحتكر بعض القبائل الموريتانية ذات الشوكة السلطة، فيما تقوم أخرى على العلم وتقاليده فتحتكر الوظيفة الدينية، كما تحتكر قبائل أخرى الوظيفة الاقتصادية التنموية، وفي كنف هذه المجموعات الثلاثة تعيش فئات وفية تابعة تؤدي وظائف وأعمال محددة.
وتتحكم القبائل العربية في البلاد سياسيًا وثقافيًا بعد هجرة قبائل بني حسان العربية مع نهاية القرن السابع الهجري، بينما حمل السكان الأصليون من البربر الذين يعرفون باسم قبائل الزاويا، اللواء الديني والمعرفي كنوع من التعويض عن فقدانهم للنفوذ السياسي الذي اختص به العرب.
تتحكم القبلية في موريتانيا في جميع مناحي الحياة
تعتبر القبيلة في موريتانيا، المحرك الأساسي للأحداث السياسية، والفاعل في الصراعات الدائرة بين الأقطاب السياسية في الوقت الحاضر، أما الأحزاب فهي الغطاء للدور الخفي والأساسي للقبائل في صناعتها للأحداث. وتعتبر القبائل العربية الأكثر نفوذا على المستوى الوطني فهي تنتشر في معظم أنحاء البلاد، وتشكل أكثر من ثلثي عدد سكان موريتانيا.
مثلا تتحكم قبيلتا “اسماسيد” (قبيلة الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع)، وقبيلة “أولاد بالسباع” (ينتمي إليها الرئيس الحاليّ محمد ولد عبد العزيز)، في الجانب المالي، ويعدان أطرافًا فاعلة في السوق، فهما يشكلان، إضافةً إلى حلفائهما في القطاعات المالية والبيروقراطية والعسكرية، كتلة مهيمنة تتمتع بسلطة قائمة على احتكار السوق.
نتيجة النفوذ المتنامي لهما، أصبحت كل من القبيلة والعسكر بمثابة العائق أمام تقدم الدولة وتحولها إلى المؤسسية والمدنية ودولة القانون، وبروز ديمقراطية حقيقية، فقد أثرت سلطتهما على مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما جعلهما يتغوّلان على مؤسسات الدولة.