أعلن “حزب الله” اللبناني، الثلاثاء 29 أكتوبر/تشرين الأول 2024، انتخاب نائب رئيس الحزب، نعيم قاسم، أمينًا عامًا له، خلفًا للأمين السابق، حسن نصر الله، الذي اغتيل في غارة إسرائيلية استهدفت ضاحية بيروت الجنوبية في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، كما جاء في بيانه الرسمي الذي أشار إلى موافقة مجلس شورى الحزب على هذا الاختيار، مشددًا على “مواصلة العمل لتحقيق مبادئ حزب الله وأهداف مسيرته وإبقاء شعلة المقاومة وضَّاءة ورايتها مرفوعة حتى تحقيق الانتصار”.
يأتي اختيار قاسم (71 عامًا) والذي تولى منصب نائب الأمين العام ومسؤولية متابعة العمل النيابي والحكومي منذ عام 1991، بعد اغتيال رئيس المجلس التنفيذي، هاشم صفي الدين، المرشح الأبرز وربما الأول لخلافة نصر الله، والذي نعاه الحزب في 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بعد استهدافه في غارة إسرائيلية مطلع الشهر ذاته.
لم يكن اسم قاسم مطروحًا – كقائد محتمل للحزب – على طاولة التناول الإعلامي كثيرًا، كونه ليس من القيادات التي تحب الظهور، فضلًا عن ميله التكويني للعمل الدعوي والسياسي بعيدًا عن الأضواء، لكن بعد اغتيال نصر الله ظهر في 3 خطابات متلفزة، آخرها في 15 من الشهر الحالي، حين أكد على أن “حزب الله” ما زال قويًا رغم الضربات القاسية التي أصابته جراء الهجمات الإسرائيلية، واستعاد عافيته الميدانية وقدراته.. فماذا نعرف عن الأمين العام الجديد؟
نعيم قاسم.. القادم من خلفية سياسية بحتة
لنعيم قاسم باع طول في الانخراط بالعمل السياسي الحزبي، مقارنة بالغياب التام عن التدرج بالجسم العسكري بالحزب كغيره من الأمناء الثلاث السابقين، فهو يُعد أحد أكبر منظري الحزب والمرجعية السياسية لكثير من الأجيال، ساعده ذلك في الانصهار مع كل أطياف المجتمع اللبناني، وفتح قنوات اتصال مع الجميع، واستطاع أن يبني لنفسه حضورًا مقبولًا رغم افتقاده للكاريزما التي كان يتمتع بها العديد من قادة الحزب.
كانت الجامعة اللبنانية المسرح الأول لدخوله عالم السياسة، حيث ساهم في تأسيس “الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين” مع عدد من طلاب الجامعة، كما ترأس جمعية التعليم الديني الإسلامي من عام 1974 إلى عام 1988، والتحق في ذلك الوقت بحركة المحرومين الشيعية، المعروفة باسم حركة “أمل” التي أسسها موسى الصدر، وكانت تعد في ذلك الوقت الحركة الأبرز على الساحة اللبنانية.
تتلمذ قاسم على يد الصدر لسنوات طويلة، وكان أحد أبرز الحضور في الاجتماعات التي عقدها القيادي الشيعي مع الشخصيات واللجان الإسلامية في لبنان تمهيدًا لإطلاق حركة أمل التي تقلد مناصب عدة بداخلها، من نائب المسؤول الثقافي المركزي ثم أمين في مجلس قيادة الحركة، وصولًا إلى مسؤول العقيدة والثقافة.
بعد عام واحد فقط من الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 استقال قاسم من الحركة بسبب خلفيته الإسلامية وتباين وجهات النظر إزاء الموقف العام من النظام الإيراني الجديد، متنقلًا على عتبات العمل الدعوي بين المدارس والحسينيات، وترك العمل السياسي، لكن لفترة ليست بالطويلة، فسرعان ما عاد مجددًا متأثرًا بقائد الثورة الإيرانية روح الله الخميني، وشارك عقب عودته مباشرة في اللجان الإسلامية التي عملت بالأنشطة الإعلامية للثورة ومهدت الطريق نحو تدشين “حزب الله” عام 1982، حيث كان ضمن النواة التي ساهمت في تأسيس هذا الكيان، ليصبح فيما بعد أحد أبرز رموزه.
وبعد الإعلان عن تأسيس الحزب بشكل رسمي انضم مدرس الكيمياء (وظيفته قبل الالتحاق بحزب الله) إلى مجلس شورى الحزب ليصبح عضوًا لثلاث دورات كاملة، قبل أن توكل إليه مهام ومسؤوليات أخرى، منها مسؤولية الأنشطة التربوية والكشفية في بيروت، ثم نائب رئيس المجلس التنفيذي، قبل أن يترأسه، وصولًا إلى نائب الأمين العام لـ”حزب الله” عام 1991.
وانصهر قاسم داخل أروقة الحزب بشكل لم يُمنح لكثير من قياداته، حيث تنقل بين الإدارات المختلفة، فكان حلقة الوصل الأهم بينها، وجسر التواصل بين الحزب وبقية مكونات المجتمع اللبناني، فتولى متابعة عمل النواب البرلمانيين للحزب وحركتهم السياسية، كذلك رئاسة هيئة العمل الحكومية المسؤولة عن متابعة الوزارات المختلفة ودارسة هيكلياتها وقراراتها، ومتابعة وزراء الحزب وعمل الحكومة، بجانب منصبه كمنسق عام للانتخابات النيابية في “حزب الله” عام 1992، مع أول انتخابات نيابية فيه.
وشهدت الفترة التي تولى فيها قاسم مسؤولية الرجل الثاني في الحزب 6 مواجهات عسكرية مع الكيان المحتل، حرب يوليو/ تموز 1993 وحرب أبريل/نيسان 1996 وحرب التحرير 2000، ثم حرب يوليو/تموز 2006، ومن بعدها مواجهات عام 2017، وصولًا إلى الحرب الحالية التي مهدت الطريق نحو توليه منصب الأمين العام خلفًا لسيده حسن نصر الله.
نعيم قاسم الداعية التربوي
شكل العمل التربوي والدعوي ركيزة أساسية في حياة قاسم، وساهم بشكل كبير في رسم شخصيته وتكوينه الفكري والأيديولوجي، حيث درس الكيمياء باللغة الفرنسية في كلية التربية بالجامعة اللبنانية عام 1970، ثم درّس المادة في المدارس الثانوية لمدة 6 سنوات تقريبًا، قبل أن يحصل على درجة الماجستير في ذات المجال من الجامعة نفسها عام 1977.
وتوازيًا مع العمل التربوي شكل العمل الدعوي حضورًا محوريًا في حياة قاسم الأولى، حيث بدأ في إلقاء الدروس الدينية الأسبوعية للأطفال في المسجد وعمره لم يتجاوز 18 عامًا، كما عزز من دراسته للعلوم الدينية فدرس مناهج الدراسة الحوزية على يد كبار علماء الشيعة في لبنان، على رأسهم عباس الموسوي وحسن طراد وعلي الأمين، وتلقى دروس “بحث الخارج” في علم الفقه والأصول على يد محمد حسين فضل الله.
وبعد استقالته من حركة أمل عام 1980 عاد لمزاولة نشاطه الدعوي مرة أخرى وذلك عبر إلقاء الدروس في المساجد والحسينيات ببيروت والضاحية الجنوبية، كما عكف لقرابة عقدين كاملين وأكثر على التدريس أسبوعيًا في مساجد لبنان أبرزها مسجد البر والإرشاد (مكث به 10 سنوات)، ومسجد الإمام المهدي الغبيري (4 سنوات تقريبًا) ثم التنقل بعد ذلك بين المساجد والحسينيات لسنوات أخرى عدة، فيما ساهم في تأسيس جمعية التعليم الديني الإسلامي عام 1977، وأدارها حتى عام 1990.
ولدى الأمين العام الجديد مكتبة جيدة من المؤلفات، معظمها تربوية، منها: معالم للحياة من نهج الأمير، عاشوراء مددٌ وحياة، سلسلة شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين، وسلسلة الحقوق (حقوق الجوارح، حقوق الوالدين والولد، حقوق الأفعال، حقوق الزوج والزوجة، حقوق المعلم والمتعلم، حقوق الناس)، في رحاب رسالة الحقوق، أميرُ النَّهج، المرأةُ بين رؤيتين، خليفة الله تعال، والتَّربية بالحُبّ.
ومن أبرز المؤلفات السياسية التي اشتهر بها كتابه “حزب الله: المنهج.. التجربة.. المستقبل” والذي قام فيه بتشريح تفصيلي للحزب من كل الجوانب، مستعرضًا أهدافه وتاريخه ورؤيته السياسية، إضافة إلى كتبه: “المهدي المخلِّص” و”الولي المجدد” عن المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، ومجتمع المقاومة (إرادة الشهادة وصناعة الإنتصار)، ثم مؤلفه “الإمام الخميني الأصالة والتجديد” والذي طُبع خمس مرات وتُرجم إلى الفارسية.
لن يكون نصر الله آخر.. ولكن
الحديث عن استنساخ نصر الله آخر لقيادة “حزب الله” حديث يفتقد للموضوعية، ففكرة الزعيم المطلق الأوحد انتهت تمامًا منذ 27 سبتمبر/أيلول 2024، وكل ما يُطرح من أسماء لخلافته هي أقرب للدور التنظيمي منها للقيادي، في ظل افتقاد معظمها للكاريزما والحضور والشعبية، فضلًا عن الخبرات التي تجمع بين العمل السياسي والعسكري والتنظيمي، وهي الغائبة بشكل كبير عن رموز الحزب في الوقت الحالي.
وعليه فمن المستبعد أن يخلف قاسم، نصر الله كزعيم مطلق للحزب، خاصة أنه يفتقد لأبجديات القيادة الرمزية التي كان يتمتع بها سلفه، لا من حيث الحماسة ولا إتقان الخطابة ولا الشعبية الجارفة ولا التأثير الكبير بين أنصاره، فضلًا عن المكانة التي كان يتمتع بها لدى طهران التي كانت تعتبره رجلها الأهم خارج حدودها، ومن ثم فمن المرجح أن يقوم الأمين العام الجديد بأدوار تنظيمية بين الإدارات الداخلية بعضها البعض من جانب، وبين الحزب والدولة اللبنانية من جانب آخر.
ثمة مؤهلات تقود أمين عام “حزب الله” الجديد لأداء هذا الدور، أبرزها خلفيته الأيديولوجية، فالرجل لديه تاريخ طويل من العمل التربوي والدعوي من جانب، والانخراط السياسي داخل مفاصل الحزب والمجتمع اللبناني من جانب آخر، وهو ما جعله أكثر مرونة من غيره في التعاطي مع بقية ألوان الطيف السياسي في الداخل اللبناني، كما تعلم وأجاد فنون المراوغة والحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب (المحاصصة) بجانب قدرته على احتواء الآخر وامتصاص الخلاف أحيانًا، رغم أن البعض اعتبره شخصية استفزازية أصولية في بعض المواقف.
كيف يدير نعيم قاسم المشهد؟
في خطابه الأول بعد اختياره أمينًا عامًا للحزب، والذي ألقاه ظهر الأربعاء 30/10/2024 حاول قاسم رسم الخطوط العريضة لطبيعة المرحلة المقبلة، في ظل تباين الآراء بشأن دلالات تعيينه على مواقف حزب الله من مختلف الملفات الحساسية، مشددًا على أن البرنامج العملي الرئيسي له هو استمرار لنهج نصر الله.
وعن العلاقة مع طهران، قال قاسم “لا نقاتل نيابة عن أحد بل من أجل حماية لبنان وتحرير أرضنا ومساندة لغزة”، مؤكدًا أن إيران” تدعم مشروعنا ولا تريد شيئا منا وقناعاتنا مشتركة”، كما أشار إلى أن الحزب تماسك سريعا بعد الضربات التي تعرض لها مؤخرًا، مرجعا ذلك إلى تماسك الحزب كمؤسسة لديها إمكانيات كبيرة.
على مدار أكثر من 23 عامًا تولى قاسم (المولود في منطقة البسطة التحتا في بيروت عام 1953) مسؤولية متابعة عمل “حزب الله” على مساراته الأربع: الانتخابي والنيابي والمحلي والحكومي، كما قاد فريق التفاوض على حصة الحزب بالإدارات الحكومية العامة، وهو ما جعله أكثر قياديي الحزب انغماسًا في التعقيدات والتوازنات اللبنانية الداخلية مقارنة بأي قيادي آخر تدرج في الجسم العسكري.
هذه الخبرة الطويلة جعلته أكثر ميلًا للتفاوض منه للصدام، وأحرص على احترام الخصوصيات المحلية منها للتجاهل، وهي المؤهلات التي قد تجعله ممثلًا جيدًا للحزب مع بقية الأطراف اللبنانية التي يتوقع أن تشهد العلاقة بينها وبين الحزب تحت ولاية قاسم نوعًا من التفاهم والتنسيق الذي غاب إلى حد ما خلال العقود الماضية.
أما فيما يتعلق بملف الحرب مع الكيان المحتل، فلا يتوقع تغييرًا جذريًا في موقف الحزب عما كان عليه في عهد نصر الله، وإن كانت المؤشرات تذهب إلى احتمالية اللجوء إلى التوازنات والمقاربات لتخفيف التوتر على الجبهة الجنوبية نسبيًا، حيث أكد قاسم في كلمته على البقاء في طريق الحرب ضمن التطورات المرسومة، منوها أنه وخلال 11 شهرًا أعلن الحزب عدم رغبته في خوض حرب مع إسرائيل، لكنه في الوقت ذاته مستعد للانتصار إذا ما فُرضت عليه المواجهة، مشيرًا أن صمود المقاومة الأسطوري في غزة ولبنان سيصنع مستقبل الأجيال القادمة، وأعاد التأكيد مجددًا على الاستعداد لحرب طويلة الأمد، وأن بيئة المقاومة صامدة وأنها السبب الوحيد وراء خروج إسرائيل من لبنان عام 2006 وليست القرارات الدولية، وعن المطالبة بتطبيق القرار الأممي 1701 قال الأمين العام الجديد للحزب إن الكيان المحتل لم يلتزم بهذا القرار وأنه ارتكب 39 ألف خرق جوي وبحري له.
وقد أطلق قاسم على الحرب الدائرة الآن مع إسرائيل معركة “ذوي البأس”، مطالبًا الاحتلال بالخروج من الأراضي اللبنانية لتخفيف خسائره وإلا ستكون الخسائر فادحة والثمن غير مسبوق، موضحا أنه كما انتصر الحزب في حرب يوليو/تموز 2006 فسينتصر الآن كذلك، موجها خطابه للسفيرة الأمريكية في لبنان قائلا :” لن تري هزيمة المقاومة ولو في الأحلام”
يذكر أنه في عام 2011 وخلال حفل إصدار الطبعة الثامنة من كتابه “حزب الله: القصة من الداخل” الذي نشره لأول مرة عام 2006، قال قاسم خلال تصريح له: “عُرضت علينا مليارات الدولارات لإعادة إعمار جنوب لبنان المحروم مقابل تسليم أسلحتنا ووقف عمل المقاومة. لكننا قلنا لهم إننا لسنا بحاجة إلى [أموالهم]، وستستمر المقاومة بغض النظر عن العواقب”.
ومع الإعلان رسميًا عن الأمين العام للحزب، وجه وزير الدفاع الإسرائيلي، يواف غالانت، تهديدًا ضمنيًا لقاسم بالاستهداف، أسوة بما حدث مع نصر الله وصفي الدين، حيث نشر صورته على حسابه على منصة “اكس” وكتب باللغتين العبرية والإنجليزية قائلًا: “تعيين مؤقت.. لقد بدأ العد التنازلي لموعده”.
ليس مستبعدًا أن يلحق قاسم بالأمين العام السابق للحزب وخليفته الأول، في ظل الاختراق الأمني الواضح لمنظومة الحزب الأمنية، وعدم وجود ضمانات كافية لحمايته، وهو ما قد يجعله حاليًا خارج الأراضي اللبنانية، وعلى الأرجح في طهران، كما ذكرت بعض التقارير الإعلامية، بما يساعده على التنسيق أكثر مع النظام الإيراني، ويُبعده إلى حد ما عن أيادي الإسرائيليين.
قد لا يكون قاسم هو الشخصية المؤهلة لخلافة نصر الله، لكن في هذا التوقيت الحساس الذي يمر به “حزب الله”، حيث الضربات الموجعة التي تلقاها مؤخرًا على أيدي الإسرائيليين، والتي أفقدته توازنه بشكل كبير، ربما يكون هو القيادة الأنسب لترتيب البيت من الداخل بالنسبة للحزب، مستفيدًا من علاقاته الواسعة مع كل أطياف المجتمع اللبناني، وقد تكون تلك المهمة، التي قد توصف بالأكثر إلحاحًا في الوقت الحالي، هي السبب الرئيسي لاختياره على وجه التحديد، ولو لمرحلة انتقالية.