يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول كشفت الصحف الفرنسية عن تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقول فيها إنه يجب على نتنياهو ألا ينسى أن “إسرائيل” أنشئت بقرار من الأمم المتحدة، ولذلك لا ينبغي له أن يتجاهل القرارات الدولية.
وخلال سويعات من تسريب هذه التصريحات التي جاءت خلال جلسة مغلقة لمجلس الوزراء الفرنسي أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانًا، قال فيه: “نذكر رئيس فرنسا أن قرار الأمم المتحدة لم يكن هو الذي أسس “إسرائيل”، بل الانتصار في حرب الاستقلال الذي تحقق بدماء المقاتلين الأبطال”.
تصريحات الجانبين جاءت في معرض دوامة من التصريحات والتلميحات المرتبطة بمنظمات الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، وتواجدها وسط إبادة شعواء تشنها آلة الحرب الإسرائيلية على كلٍ من الشعب الفلسطيني ومن ثم اللبناني.
أولى هذه المنظمات كانت الأونروا التي أطلقت عليها المنظومة الإسرائيلية أحكامًا متتالية بالاستهداف والتجريم حتى الإرهاب، وثانيها هي اليونيفيل التي يتزايد الخطاب الإسرائيلي الرسمي الساخط على وجودها المحايد في الخط الأزرق الفاصل بين الكيان ولبنان.
لكن واقع الحال لم يقتصر عليهما فقط، وإن كانتا الواجهة للحرب الإسرائيلية على أي مكابح دولية أو قانونية أو حقوقية يمكن للمجتمع الدولي الاستعانة بها لوقف الحرب، فبعد سنة كاملة من الإبادة ثبت أن جميع أذرع القانون والعدالة هي مستهدفة ومرفوضة ومُجَرّمة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، إذ امتد إلى رأس المنظومة الأممية وأمينها العام أنطونيو غوتريتش وإلى منظمات ومؤسسات أخرى منها منظمة الصحة العالمية والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
@noonpost
“ليست صدفة على الإطلاق أن تسحب كل هذه الدول دعمها، بأختصار الأونروا تقف بوجه مخطط إسرائيل لتجويع أهل غزة”.. ناشط سياسي أمريكي يؤكد تعمّد الدول الغربية إيقاف دعمها للأونروا ويشير إلى أنها جزء من تعاونها مع الاحتلال في تضييق الحصار على القطاع. #غزة_تستغيث #غزة_تقاوم
ويمكن القول، بأن الموقف الإسرائيلي تجاه المنظمات الأممية، وعلى رأسها الأونروا، ظهر جليًا منذ 10 سنوات مضت، حين ارتفعت أصوات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة عبر منصات الكونغرس الأمريكي، واصفةً الأونروا عام 2013 بأنها “واحدة من أسوأ وكالات الأمم المتحدة”، وبأنها “فاسدة، وتأوي الإرهابيين، وتدعم استمرار الصراع من خلال مناهجها التعليمية التي تعادي السامية”.
هذه النبرة الأمريكية كانت ارتدادًا أعلى لأصوات مفكرين وسياسيين إسرائيليين، منهم شلومو غازيت الذين اعتبر أن الطريقة “المؤسساتية” التي تُعامل بها الأونروا اللاجئين، تجعل من الصعب تفكيك مطالبهم في العودة، إضافةً لإحصاءات الأونروا التي اعتبرها الإسرائيليون ضخمة ومبالغ فيها بنسبة لا تقل عن 14%.
ارتفعت حدة هذه التصريحات تزامنًا مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث رأى رون بروسر، السفير الإسرائيلي السابق في الأمم المتحدة في مقال بعنوان “الأونروا عقبة أمام السلام”: أن “الأونروا التي أقيمت على نحو خاص للاجئين الفلسطينيين حين كانوا نحو 700،000 فقط تعنى اليوم في الظاهر بـ 5،3 مليون نسمة تُعرِّفهم بأنهم لاجئون لكن ليس بينهم وبين اللجوء إلاّ صلة المصادفة فقط، وقسم من هؤلاء اللاجئين غير موجود على الإطلاق”.
كما رأى بروسر أن الأونروا لديها مصلحة اقتصادية في تضخيم الأعداد، لا سيما وأن ميزانيتها أكبر بأربعة أضعاف من ميزانية مفوضية اللاجئين على مستوى اللاجئ نفسه، حيث تبلغ حصة اللاجئ الفلسطيني من ميزانية الوكالة (عام 2018) 246 دولارًا في مقابل 58 دولارًا للاجئ المفوضية، رغم أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين تابعة للأمم المتحدة (UNHCR).
وبالتزامن مع صفقة القرن، والتوجه لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء مفهوم “اللجوء وحق العودة”، اتجهت الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب لقطع التمويل كاملًا الذي كان يبلغ 200 مليون دولار، صاحبه انخفاض التمويل العربي (الإمارات والبحرين)، على خلفية التطبيع مع “إسرائيل” و”الانتقام” من الموقف الفلسطيني الرافض له، ليتراجع من 53 مليون دولار عام 2018، و50 مليون دولار عام 2019 إلى مليون دولار فقط عام 2020.
هذه التحركات وغيرها لم تؤدي إلى تفكيك الوكالة الأممية أو انتهاء خدماتها، ونتيجة لذلك ارتأت الحكومة الإسرائيلية وفي خضم الحرب الحالية على قطاع غزة تصعيد الإجراءات إلى مستويات غير مسبوقة، من خلال إقرار الكنيست الإسرائيلي قرارين؛ الأول هو حظر أنشطة الوكالة في “إسرائيل” ومناطق سيطرتها، والثاني حظر التواصل والعمل معها ومع موظفيها، ومن المرجح أن يدخل القانونان حيز التنفيذ بعد 90 يومًا من إقرارهما.
وفيما يُحاول الخطاب الإسرائيلي اجتراح الدلائل والبينات على أحقية ممارساته القمعية تجاه المنظمات الأممية، مواصلًا دور الضحية، إلا أن العلاقة بين “إسرائيل” والأمم المتحدة لم تكن بهذا السوء من قبل، بل شهدت فترات ذهبية ساهمت في تكريس الاحتلال واستمراره.
تطرح السطور التالية هذه الإشكالية، والتباس الصورة والمشهد بين الهجوم الإسرائيلي الحالي على الأمم المتحدة والأونروا واليونيفيل، بعد عقودٍ من المحاباة المبطنة ساهمت فيها هذه المنظمات في خدمة الاحتلال وتعزيز سيطرته وتوسع أنشطته.
الأونروا
الغوث والتشغيل بمعايير إسرائيلية
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 1949، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 302 بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) دعمًا للمُهجرين الذين نزحوا من ديارهم إثر حرب 1948 ومنعتهم حكومة الاحتلال الإسرائيلي من العودة إلى مدنهم في الأراضي الخاضعة لسيطرتها.
نتيجة لهذا القرار الذي صدر بموافقة جميع الدول العربية وموافقة كذلك كيان الاحتلال الإسرائيلي وامتناع ستة أعضاء عن التصويت، اختلفت الأونروا عن وكالات الأمم المتحدة الأخرى بتخصص إنشائها على فئة واحدة (اللاجئون الفلسطينيون)، وربط حلها وإنهاء عملها بحل قضيتهم (العودة أو التعويض)، فضلًا عن ربط صلاحياتها وتفويضها بالجمعية العامة للأمم المتحدة مباشرة دون منظمات وسيطة.
وفيما كانت الأونروا، المنظمة المثالية لحل “تداعيات النكبة” دون كثيرٍ من الكلفة، في ظل غياب رغبة الدول العربية بتوطين الفلسطينيين أو تحمل مسؤولياتهم الاقتصادية، وتملص دولة الاحتلال من أي ارتباطٍ معهم يجبرها على الموافقة على عودتهم لاحقًا، وقبول المجتمع الدولي تقديم مساعدات سنوية مقابل دفع مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين بعيدًا عن تصدر المشهد.
كانت ظروف نشأة الأونروا ذاتها مغرقةً بالتعقيد، فقد استلمت المنظمة الأممية مهامها بعد فشل كلٍ من مشروع الأمم المتحدة لإغاثة المنكوبين، واتحاد جمعيات الصليب الأحمر، وجمعية خدمات الصداقة الأمريكية، واعتمدت ميزانيتها على التبرعات الطوعية، وغاب عنها وجود نظامٍ محدد ودقيق، ما ترك المجال واسعًا للتلاعب والتغيير في صلاحياتها.
لكن ذلك لم يمنع استمرار الوكالة، ونجاحها في تعداد اللاجئين، وتحقيق مهامها الأولية المطلوبة منها، والمتمثلة بإغاثة اللاجئين الفلسطينيين ومنع المجاعة والعوز وتنفيذ برامج الإغاثة والتشغيل وتدبير المساعدات بالتعاون مع الحكومات المحلية.
الأهم من ذلك، اعتبارها ممثلًا عن المسؤولية الدولية لنشأة دولة الاحتلال وإقامتها على أرض فلسطين من خلال قرار الجمعية العامة 181 الذي منح المهاجرين اليهود حق إنشاء دولةٍ يهودية على جزءٍ من أرض فلسطين العربية، بإعطائهم 57.5% من مساحة فلسطين، وهي بذلك تقدم خدمةً للوجود اليهودي في فلسطين أكثر من خدمة اللاجئين المشردين من أراضيهم المحتلة.
يُشير الباحث الإسرائيلي إيلان بابيه إلى الموقف الإسرائيلي من نشأة الأونروا في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” بالقول:
“إن الأونروا بحد ذاتها قرار إسرائيلي يمنع إمكانية تطبيق حق العودة للاجئين، ففي أواسط سنة 1949، تدخلت الأمم المتحدة في محاولة للتعامل مع النتائج المُرَّة التي نجمت عن قرار التقسيم سنة 1947، وكان أحد القرارات المضللة التي اتخذتها عدم إشراك مفوضية اللاجئين الدولية في تحمل مسؤولية اللاجئين الفلسطينيين، وإنما إنشاء وكالة خاصة باللاجئين الفلسطينيين، وكانت إسرائيل والمنظمات اليهودية في الخارج وراء قرار إبقاء منظمة اللاجئين الدولية IRO خارج الصورة؛ إذ كانت هذه المنظمة، هي التي ساعدت اللاجئين اليهود في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، وكانت المنظمات الصهيونية حريصة جدًا على منع أي شخص من أن يقيم ارتباطًا أو مقارنة بين الحالتَين، ناهيك بأن هذه المنظمة كانت دائمًا توصي بالعودة كأول حق للاجئين، وهكذا، نشأت الأونروا لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين سنة 1949، ولم تكن ملتزمة عودة اللاجئين والمساعدة في تنفيذ القرار رقم 194، والذي يعطي اللاجئين الحق في العودة”.
يؤكد هذا القول باحثون آخرون من بينهم الباحثة في مركز الأهرام شيماء منير، والباحث في مجلة الدراسات الفلسطينية جلال حسيني باعتبارهما أن إنشاء الأونروا لم يكن منطلقًا من دوافع إنسانية، بل كان هدفًا خفيًا لإنهاء قضية اللاجئين، وتوُجه لها اتهامات بأنها منظمة وجدت لتوطين اللاجئين في مجتمعاتهم الحالية وإبعادهم إلى مناطق نائية عن وطنهم الأم، وأن آلية تشكيلها (مؤقتة، بدون تمويل ثابت، مستثناة من نظام المفوضية) تهيئ لتشكيل اللاجئين في وضع خاص يجبرهم على الاندماج في مجتمعاتهم المضيفة.
يعزز هذه الفكرة تبني الأونروا للقرار 513/1952، الخاص بـ”إما الإعادة للوطن، أو إعادة التوطين في مناطق أخرى، والتعجيل بدمج العرب النازحين في الحياة الاقتصادية للمنطقة”، وكان هذا القرار قد جمع ما بين الأونروا ولجنة توفيق فلسطين مجددًا حينها، حيث تقوم الأولى بتسهيل حركة اللاجئين وتحقيق تنمية اقتصادية سريعة تساهم في جذبهم إلى غير وطنهم، بالتزامن مع دورٍ سياسي تلعبه لجنة توفيق فلسطين مع أطراف وحكومات المنطقة لتسهيل هذا الدمج وهو الدور الذي فشلت فيه مما أدى إلى انتهاء عملها.
وخلال الفترة ما بين الأعوام 1952-1957 أُدرج اسم الأونروا كثيرًا في مشاريع تتعلق بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في شمال سوريا والجبل الأخضر في ليبيا، وأطراف العراق، ناهيك عن ترويجها لإعادة التوطين باعتباره البديل الأكثر عملياتية وعقلانية لمبدأ الإعادة إلى الوطن.
وفي نهايات العام 1995، وإبان المرحلة النهائية للمفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، اُتهمت الأونروا بالسعي لتسليم خدماتها في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى السلطة، الأمر الذي سينجم عنه إسقاط حقوق أكثر من 40% من اللاجئين الفلسطينيين، إضافةً إلى دورٍ غير رسمي يتحدث عنه الباحث الأكاديمي المختص في حقوق الإقامة واللاجئين الفلسطينيين تيري رامبل في مقالته: “الأونروا والحلول لقضية فلسطين”، فيقول: “للأونروا دور غير رسمي في الترويج للحلول الدائمة للاجئين، مستخدمةً تقاريرها لنقل آراء وتصورات اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود الـ 1967، تجاه عملية التسوية وقياس وجهات نظرهم”.
الأونروا: نقطة نظام
إن الشكوك حول سياسات الأونروا وتوجهها للحفاظ على حق العودة الفلسطيني منطقية ومشروعة، فالوكالة الأممية التي توظف أكثر من 33 ألف لاجئ يرأسها موظفون دوليون يمثلون نسبة لا تزيد عن 1%، معظمهم أمريكيون وأوروبيون، ويتم اختيارهم بتوافقٍ أمريكي أوروبي إسرائيلي، كما يحتكرون السياسات وصنع القرارات، ويحصلون على رواتبهم من الأمم المتحدة دون أن يتأثروا برغبات المانحين وموجات قطع التمويل.
ولطالما أثبتوا ولائهم للاحتلال وأجهزته الأمنية من خلال تزويده بتحديثات عن موظفي الأونروا وأوضاعهم، كما تطوعت الأونروا سابقًا للإبلاغ عن أنشطة المقاومة الفلسطينية لكلٍ من أجهزة السلطة الفلسطينية، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وحتى للمستويات الأمنية الأمريكية والأوروبية _وهي لا تُخفي ذلك-.
على الصعيد المحلي لديهم استجابة سريعة للاشتراطات المتعلقة بالخدمات التعليمية والإغاثية، ثبتت سابقًا من خلال تماهيمهم مع اشتراطات الولايات المتحدة والسويد وكندا بإعادة “تكييف” المناهج التعليمية بما لا يرتبط بمظاهر معاداة السامية، مثل حذف الأشعار الوطنية الفلسطينية، ومنع إحياء ذكرى قادة المقاومة، والترويج لفكرة التوطين أو الوطن البديل، وخلال السنوات الأخيرة لاحقت الأونروا موظفين وأخضعتهم للمساءلة نتيجة تعليقهم خارطة فلسطين من النهر إلى البحر على واجهة إحدى المدارس.
لكن.. لكن.. لكن؛ الأدوار المركبة للأونروا لا تعني أن وجودها لم يخدم اللاجئين الفلسطينيين ولم يحفظ كينونتهم وحقهم بالعودة، فمن دورها في كف يد الفقر والجوع عن الفلسطينيين، إلى إعادة صياغة الحالة الفلسطينية في الشتات، وتحويل المخيمات إلى حواضن اجتماعية تساهم في صون الشخصية الوطنية والكيانية السياسية للفلسطينيين.
كما تنظر الأونروا إلى خططها المشتركة مع الحكومات المحلية -حتى المتعلقة بالتوطين- باعتبارها “نابعة من تلبية للحاجات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين”، بغض النظر عن تفسير الأطراف المختلفة لها، بدءًا من التدخل لصالح اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، ومناشدة الحكومة هناك لكف يدها عن المخيمات، وتدخلها لدى الحكومة الأردنية لتوفير الخدمات والمساعدات الضرورية للاجئين الفلسطينيين الهاربين من النزاع في سوريا، وانتهاءً بتدخلها في إدخال المساعدات والأدوية إلى قطاع غزة إبان الحصار، وتنظيم حملة شعبية لرفع الحصار عنه.
الهجمة الإسرائيلية على الأونروا: الأدوات والتداعيات
شن المستوى الرسمي الإسرائيلي حملة اتهامات موسعة تسببت خلال أيام بقطع تمويلها من قبل 18 دولة، هي الأكبر مساهمة في تمويل ميزانية الأونروا، حيث بلغ مجموع مساهماتها لميزانية العام 2022 ما يقارب 730 مليون دولار، من أصل 1.3 مليار دولار الميزانية السنوية للأونروا.
الاتهامات الإسرائيلية التي جاءت ردًا على الدور الكبير للأونروا في رفع تقارير عن الوضع الإنساني في قطاع غزة للمحكمة الجنائية الدولية، استخدمت على نطاقٍ واسع في تدعيم قرار المحكمة في 26 يناير/كانون الثاني 2024 ما تسبب بأزمة دولية للاحتلال، تنوعت بين اعتبار الأونروا مصدر رزق “للإرهابين” من خلال توظيفهم، وتعاونها مع المقاومة الفلسطينية من خلال توفير منشآتها ومركباتها لدعم أنشطتهم العسكرية، وأخيرًا مساهمتها في الدعم الاقتصادي والإغاثي خلال الحرب وقبلها من خلال توزيع المساعدات في قطاع غزة.
ولتدعيم موقفها قدمت الحكومة الإسرائيلية لائحة بـ12 موظفًا يعملون بالأونروا تتهمهم بالضلوع في أنشطة “إرهابية” لتعمم اتهاماتها التي طالت آثارها أكثر من 13 ألف موظف في قطاع غزة، وبسبب هشاشة التهمة الإسرائيلية، سعت لإسناد روايتها باعتبار أن 10% من موظفي الوكالة هم أعضاء في الجماعات الفلسطينية المسلحة، وأن 55% منهم لهم أقارب أو معارف على صلة مع هذه الجماعات!
وبينما استطاعت الأونروا خلال عدة أشهر، تحت وطأة الإبادة الجماعية وانهيار الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، استعادة تمويل 17 دولة باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية بفعل الحقائق والوثائق التي قدمتها لنفي الاتهامات الإسرائيلية، إلا أن حملات التشويه والتجريم لم تتوقف.
بل انتهجت لتفعيل نتائجها أدواتٍ أخرى، من بينها منعها من توزيع المساعدات الإنسانية في القطاع، وتوقف التعاون معها وتجاهل دعوتها إلى اللقاءات التي تجمع المنظومة الأمنية والعسكرية للاحتلال مع المنظمات الإنسانية، بل واستبدال أدوارها في الميدان بمؤسسات دولية وأممية أخرى.
كما عمد الاحتلال إلى إزاحة الأونروا، من موظفين وخدمات ومرافق بدءًا من شمال القطاع، حيث هاجم مراكز الإيواء وعياداتها الطبية ومدارسها، واستخدم بعضها ثكنات عسكرية قبل أن يُشعل فيها النيران قبل إخلائها.
أما على صعيد الخسائر البشرية، فقد أشار مفوض الأونروا فيليب لازاريني خلال مؤتمرٍ له بُعيد الذكرى الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى أن استهداف الاحتلال لمرافق الأونروا تسبب في استشهاد ما يزيد عن 700 لاجئ معظمهم من النساء والأطفال.
وأصيب قرابة 1479 آخرين، إضافة لاستشهاد 231 موظفًا في الأونروا، بينما هُجر أكثر من 70% من الموظفين المحليين البالغ عددهم 13 ألف من بيوتهم ومساكنهم، نتيجة للهجمات الإسرائيلية التي طالت أكثر من 350 مرفقًا للأونروا، من بينها 180 مدرسة ومنشأة دُمرت بالكامل، بينما تضررت بشكلٍ جسيم قرابة 155 منشأة أخرى.
بالتوازي مع ذلك ولمحاصرة الأونروا في ميدان الضفة الغربية أصدرت الحكومة الإسرائيلية جملةً من القرارات والتشريعات المتتابعة، أولها تشريع يقضي بإغلاق مكاتب الأونروا، واعتبارها منظمة إرهابية، ومصادرة أصولها ومنعها من مزاولة أعمالها وطرد موظفيها الدوليين.
شملت الإجراءات أيضًا مصادقة لجنة الشؤون الخارجية على قرار بإلغاء اتفاق العام 1967 بين الأونروا والحكومة الإسرائيلية حول نشاط الأونروا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقرارًا لسلطة الأراضي الإسرائيلية بمصادرة المقر الرئيس للأونروا في حي الشيخ جراح بمدينة القدس، وهدمه تمهيدًا لتحويله لبؤرة استيطانية تضم 1440 وحدة سكنية.
كما شملت الإجراءات منع المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني، من الدخول إلى قطاع غزة، وتفقد الأوضاع الإنسانية في منطقة الشمال، ورفضًا لمطالب الأمم المتحدة بتوفير إخلاء آمن لموظفي الأونروا من شمال القطاع، وتحديدًا مخيم جباليا للاجئين.
واكتملت هذه الإجراءات باعتماد الكنيست يوم الإثنين الـ28 من أكتوبر/تشرين الأولى الحالي، قانونين، بالقراءة الثالثة والأخيرة، أحدهما يحظر أنشطة الأونروا داخل “إسرائيل” و “المناطق الخاضعة لسيطرتها”، والآخر يمنع السلطات الإسرائيلية من إجراء اتصالات مع الوكالة أو أحد موظفيها.
من شأن هذان القراران التسبب بوقف – أو تراجع على أقل تقدير- لخدمات الأونروا في ميدان الضفة الغربية، ما يعني حرمان أكثر من مليون ونصف فلسطيني في الضفة من خدمات الأونروا، وإنهاء صفة “المخيمات” عن كلٍ من مخيمات الضفة والقدس، ينسحب ذلك على حرمانها من التخفيضات الضريبية على المساعدات والأدوية المخصصة للفلسطينيين.
تشمل آثار هذه القرارات، منع الأونروا وطواقمها الدوليين من دخول الأراضي الفلسطينية، ومن رصد الانتهاكات الإسرائيلي، إذ ستُعتبر منشآتها ومرافقها ومدارسها وموظفوها عرضة للاستهداف من جانب الاحتلال، نتيجة ارتباطهم بما يتم تعريفه “منظمة إرهابية”، وبالتالي ستواصل الطعن في موثوقية تقاريرها وأنشطتها باعتبار وجودها “غير قانوني” وفقًا للوائح الإسرائيلية.
تعد هذه التبعات -إن تحققت- ضربًا صارخًا لقرار محكمة العدل الدولية الذي يعتبر السيطرة الإسرائيلية في مناطق الـ 67 احتلالًا يجب إنهائه فورًا وتفكيك المستوطنات وتعويض المتضررين منه، ولقرار الجمعية العامة رقم (59/49)، إذ نصت المادة رقم (7) منها على أنه “لا يجوز جعل موظفي الأمم المتحدة والأفراد المرتبطين بها ومعداتهم وأماكن عملهم هدفًا للاعتداء، وأن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لضمان سلامة وأمن موظفي الأمم المتحدة والأفراد المرتبطين بها”.
على الصعيد نفسه تنتهك هذه الإجراءات القانون الدولي، خاصة ميثاق الأمم المتحدة في المادة الثانية منه والتي تلزم المجتمع الدولي وأعضاءه بتقديم كل ما في وسعهم من عون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق.
كذلك، تنتهك الإجراءات الإسرائيلية قرارات الأمم المتحدة في الجمعية العامة، بدءًا من القرار 302 وحتى القرار 194 والقاضي بحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، والذي وافقت عليه دولة الاحتلال من خلال مندوبيها وساهمت في إقراره وتجديده مرارًا حتى عام 2018.
اليونيفيل
أقوى أدوات الأمم المتحدة لحفظ السلام
بُعيد منتصف مارس/أذار 1978، ونتيجةً لاحتلال إسرائيل معظم الجزء الجنوبي من لبنان، إثر عملية فدائية لمنظمة التحرير، أصدر مجلس الأمن قرارين في استجابةٍ لاحتجاج الحكومة اللبنانية، هما القرارين 425 و426 ، اللذان نصا على انسحاب “إسرائيل” من جميع الأراضي اللبنانية ووقف أعمالها العسكرية.
ولضمان التنفيذ أنشأ الذراع التنفيذي للأمم المتحدة المسؤول عن حفظ السلام، قوة دولية مؤقتة في لبنان أٌطلق عليها “United Nations Interim Force in Lebanon”، وعُرفت اختصارًا بـ “اليونيفيل”.
وفيما يُمدد مجلس الأمن الدولي ولايتها بشكلٍ سنوي وبطلبٍ متواصل من الحكومة اللبناني، تنتشر قوات اليونيفيل في الجنوب اللبناني ما بين نهر الليطاني والخط الأزرق، ولديها مقر رئيسي في بلدة الناقورة.
كما وتتمتع بإمكانيات عسكرية برية وبحرية على امتداد الساحل، حيث تتكون القوة البحرية التابعة لليونيفيل من خمس سفن، وهي القوة البحرية الأولى من نوعها في تاريخ بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام، وأدى انتشارها بعد حرب 2006 لدفع “إسرائيل” لرفع حصارها البحري على لبنان، كما تقوم بتدريب البحرية اللبنانية إضافةً لمهامها الأصلية.
أما على صعيد القوة الجوية فتمتلك البعثة الدولية ست طائرات هليكوبتر تدعم عمل البعثة، وتبلغ الميزانية السنوية لليونيفيل حوالي نصف مليار دولار.
ويتكون أفرادها من جنسيات متعددة، تتألف من حوالي 11 ألف شخص، بما في ذلك قرابة 10 آلاف عنصر عسكري، وما يقرب من 550 موظفا مدنيا محليا و250 موظفا مدنيا دوليا، يتوزعون على أكثر من 50 دولة، من بينهم 16 من دول الاتحاد الأوروبي، أما أكثرها مساهمة فهي أندونيسيا التي يخدم فيها 1200 جندي نظامي من جنسيتها، تليها إيطاليا.
وتتنوع أدوارها بين رفع تقارير إلى مجلس الأمن عن الوضع والانتهاكات الإسرائيلية للحدود والأجواء اللبنانية، وحماية السكان، وقد منحها قرار مجلس الأمن السلطة والقدرة على الرد على الأعمال العدائية، وممارسة حقهم في الدفاع عن النفس.
بُعيد حرب عام 2006 تزايدت أهمية هذه القوة، إثر قرار مجلس الأمن 1701 الذي وسّع من تفويضها، باعتبار أي اجتياز غير مصرح به للخط الأزرق برا أو جوا من أي جانب يشكل انتهاكا لقرار مجلس الأمن رقم 1701، وبالتعاون مع الجيش اللبناني في إبقاء المنطقة خالية من الأسلحة أو المسلحين غير التابعين للدولة اللبناني.
وخلال سنوات وجودها تلقت القوة صدماتٍ مختلفة بوقوع إصابات ووفيات في صفوف أفرادها لأسباب متنوعة، جاوزت أكثر من 320 حالة، وفي عام 2022 عملت القوة على تطهير 25,479 مترًا مربعًا من الأراضي اللبنانية من الألغام الإسرائيلية، حيث دمرت قرابة 5571 لغمًا مضادًا للأفراد.
شوكة زرقاء في حلق الجيش الإسرائيلي
لا يختلف الموقف الإسرائيلي تجاه اليونيفيل عن الأونروا، فكلاهما نابعٌ من منطقٍ واحد: “أن تعمل لصالح إسرائيل أو ألا تعمل أبدًا”، ومدعومان بالأدوات الأمريكية وأساليب الابتزاز نفسها، ولا يرتبط بالعمليات العسكرية العدائية تجاه لبنان خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 2023-2024.
ففي أغسطس 2017 انتقدت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هيلي قوات اليونيفيل، معتبرةً أنها لا تؤدي مهامها كما هو مطلوب منها، ورفعت قائمة مطالب أمريكية وإسرائيلية بتوسيع عملها لضبط أنشطة حزب الله جنوب الليطاني.
حينها نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت تقريرًا عن عمل إسرائيلي أمريكي مشترك يستهدف تغيير طريقة عمل اليونيفيل في جنوب لبنان، بما يؤدي إلى مواجهة محققة مع حزب الله على أقل تقدير.
وكان السفر الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة قد أطلق جهدًا لتوسيع تفويض اليونيفيل ليشمل مواجهة تصاعد قوة حزب الله، حيث أرسلت “إسرائيل” مجموعة من الضباط الكبار إلى مبنى الإمم المتحدة لتقديم استعراضات للسفراء حول خطورة التهديد القادم من جهة حزب الله، بينما عبر السفير الإسرائيلي عن موقف حكومته بالقول إن “حزب الله يواصل زيادة قوته، بينما تدفن قوات اليونيفيل رأسها في الرمل”.
وهو الموقف الذي تصاعد بأدوات متعددة خلال الحرب الحالية، حيث نشر الكاتب الإسرائيلي مايكل أورن في صحيفة يديعوت أحرونوت في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول الحالي مقالًا تحريضيًا من واقع تجربته في الخدمة العسكرية بقوات المظليين، يستنكر فيه إقدام قوات اليونيفيل “إطلاق النار على قوات الجيش الإسرائيلي لدى اقترابها من مواقعهم”.
كما يعبر الكاتب عن التصنيف الإسرائيلي لليونيفيل باعتبارها “منظمة إشكالية بل ومعادية لا تحافظ على السلم بوضوح”، ويجيش لذلك الاتهامات من قبيل أن “حزب الله يستخدم اليونيفيل دروعًا بشرية له، ويختبئ عناصر الحزب قصدًا وراء مواقع اليونيفيل، ويجذبون النيران نحو هذه المواقع، الأمر الذي تسبب بجرح جنود من هذه القوات عن طريق الخطأ. أمّا الإدانات التي وُجهت إلى إسرائيل من المجتمع الدولي نتيجة ذلك، فإنها تخدم فقط حزب الله”.
هذه اللهجة التحريضية وجدت طريقها إلى صواريخ وذخيرة جيش الاحتلال التي واصلت استهداف اليونيفيل، مدعومةً بخطاب رسمي وإعلامي مؤيد، ففي العاشر من أكتوبر/تشرين الأول أعلنت اليونيفيل إصابة جنديين من قواتها جراء استهداف الجيش الإسرائيلي برج مراقبة للقوات الأممية بلبنان.
وبعده بيوم واحد، استهدف الجيش الإسرائيلي المدخل الرئيسي لمركز قيادة اليونيفيل في بلدة الناقورة بجنوب لبنان بقذائف مدفعية، وبعده بيومين أصيب خمسة من أفراد اليونيفيل برصاص وقذائف إسرائيلية.
دفعت هذه التطورات 40 دولة للتعبير عن دعمها الكاملة لليونيفيل، ومطالبة جميع أطراف النزاع احترام وجود القوة الدولية، بينما سارع وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن للتأكيد على أهمية اتخاذ “إسرائيل” كل التدابير اللازمة لضمان سلامة وأمن قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان “اليونيفيل”، وذلك في اتصال هاتفي مع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت.
ردًا على ذلك خرج رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في خطابٍ موجه للأمم المتحدة وأمينها العام غويتريتش، مطالبًا الأمم المتحدة بإبعاد قوتها الموقتة اليونيفيل في جنوب لبنان عن “الخطر فورا”، وتغيير مواقعها.
وفي خطابه زاوج نتنياهو بين التهديد والترغيب، وبين إخلاء المسؤولية واتهام القوة الدولية بالعمل لصالح “حزب الله” بالقول: “لقد طلب الجيش الإسرائيلي ذلك مرارا، وقد تم رفض طلبه مرارا، بهدف توفير درع بشري لإرهابيي حزب الله، رفضكم إجلاء جنود اليونيفيل يجعلهم رهائن لدى حزب الله”.
ورغم أن خطاب نتنياهو جاء إثر السخط الدولي لإصابة خمسة جنود من اليونيفيل باستهداف إسرائيلي، إلا أنه سعى للنأي بنفسه عن تحمل المسؤولية المباشرة، حيث علق على إصابتهم قائلًا: “إسرائيل تأسف لإصابة جنود اليونيفيل وتبذل كل ما في وسعها لمنع هذه الإصابات.. لكن الطريقة البسيطة والواضحة لضمان ذلك هي ببساطة إخراجهم من منطقة الخطر”.
وبينما تُصر الحكومة اللبنانية على استمرار عمل قوة اليونيفيل، وتتوحد الدول الـ50 معها في هذا الموقف، تتزايد التصريحات الرسمية والعمليات العسكرية الإسرائيلية التي تُهاجم القوة وتستهدفها، فقد أعلنت اليونيفيل خلال ساعات من خطاب نتنياهو أن ثلاث فصائل ودبابتان من جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتحموا موقعًا للقوة الأممية في بلدة راميا جنوب لبنان، وخلال الاقتحام أقدمت الدبابتان من طراز ميركافا على تدمير البوابة الرئيسية، ودخول الموقع عنوة.
وحتى الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول كانت اليونيفيل قد وثقت أكثر من 5 استهدافات متعمدة من الجانب الإسرائيلي، استطاعت تأكيد مصدرها من خلال آثار الفسفور الأبيض، بينما اعتبر المتحدث باسم الوحدة أنه يمكن لها اللجوء للدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإسرائيلية ولكن من المهم تهدئة التوتر، مؤكدا أن عليهم البقاء في لبنان، وأن معنويات قوات حفظ السلام لا تزال مرتفعة للغاية.
وفي خضم الأزمة العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة في لبنان، وارتفاع حجم الخسائر البشرية العسكرية، وتزايد مدى الضرر من استهدافات المقاومة اللبنانية، والتي يتم تغطيتها “إسرائيليًا” بطرح شروط خيالية لتسوية دبلوماسية، يبقى مصير اليونيفيل معلقًا في تداعيات الحرب، ومواقف الحكومة اللبنانية من نتائجها.
يطرح الجانب الإسرائيلي شروطًا مثل تحديث نشاط وتغيير بنود ولاية اليونيفيل بما يخدم رؤية “إسرائيل” على حساب “حزب الله”، وتوسيع المشاركة الأمريكية في عملها، وأن تتولى بنفسها تنفيذ عملية إعادة قوات “حزب الله” إلى ما بعد الليطاني.
لكن مهما كانت التداعيات، من المهم الإشارة إلى أن وجود اليونيفيل وتقاريرها المحدثة والمتسارعة بخضم الحرب، يظل عقبةً في ظل أي تقدمٍ إسرائيلي عسكري يتجاوز عمق الجنوب وخطه الأزرق، وهي في ذلك تدعم ازدياد عزلة “إسرائيل” الدولية، وجناياتها وفق المنظومة الأممية.
الأمم المتحدة
عندما تتجاوز مطامع “إسرائيل” قدرة المجتمع الدولي على “الانبطاح”.
رغم أن الأونروا واليونيفيل يمثلان اليوم واجهة الخصومة بين الأمم المتحدة و”إسرائيل”، إلا أن ذلك لا يعني أن الخصوم ومعارك تغيير الولاية الأممية وتقليص التمويل تقتصر عليهما، إذ يشمل ذلك أيضًا منظمة الصحة العالمية، التي وجه لها الاحتلال الإسرائيلي اتهامات “تواطؤ” مع حماس، من خلال مساعدتها في إخفاء أفرادها داخل المشافي والعيادات.
اتهمت السفيرة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة في جنيف ميراف إيلون شاهار، خلال اجتماع للمجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، منظمة الصحة العالمية بتجاهل قيام حماس “بعسكرة المنطقة الأمنية”، حيث أكدت أن “منظمة الصحة العالمية كانت على علم باحتجاز رهائن في مستشفيات وأن إرهابيين ينشطون فيها”.
كما تعالت الأصوات في الإعلام الإسرائيلي، بالمطالبة بإخضاع موظفيها في قطاع غزة لتحقيق مستقل لكشف “ما يعرفونه عن البنية التحتية لإرهاب حماس”.
ردًا على ذلك أصدر المدير العام للمنظمة، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس بيانًا قال فيه: “إن مثل هذه الادعاءات الكاذبة ضارة ويمكن أن تعرض للخطر موظفينا الذين يخاطرون بحياتهم لخدمة الضعفاء”. وشدد على أن منظمة الصحة العالمية – باعتبارها إحدى وكالات الأمم المتحدة – محايدة وتعمل من أجل صحة ورفاهية جميع الناس.
الهجوم الإسرائيلي أيضًا طال الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريتش، الذي أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس منعه من دخول “إسرائيل”، باعتباره شخصًا “غير مرغوبٍ فيه” في “إسرائيل”، وذلك على خلفية استخدامه لفظ “اتساع رقعة النزاع في الشرق الأوسط” في التعبير عن رفضه للهجوم الإيراني على “إسرائيل” بدلًا من إدانته بشكل واضح.
إضافةً لتصريحاته خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول الوضع في غزة، إذ قال إن “الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تهدد الشرق الأوسط”، مؤكدًا التزامه بقرار الجمعية العامة لـ”إنهاء الاحتلال الإسرائيلي” على حد تعبيره.
يضاف إلى ذلك مواقف سابقة له تتجاوز التماهي الغربي مع الإبادة الإسرائيلية، من بينها إرساله خطابًا إلى رئيس مجلس الأمن في الأمم المتحدة، يطلب منها تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك في ديسمبر/كانون الأول 2023، والتي تعتبر ما يجري في غزة خطرًا جسيمًا يؤدي لانهيار النظام الإنساني.
تلاها إدراجه ولأول مرّة الجيش الإسرائيلي ضمن “قائمة العار” التي تضم الأطراف المتحاربة “التي ترتكب انتهاكات جسيمة ضد الأطفال” في النزاعات المسلحة، ومن ثم زيارته لمطار العريش بمحافظة شمال سيناء المصرية في مارس/أذار المنصرم، حيث دعا إلى وقف إطلاق النار، وهو ما أطلق الغضب الإسرائيلي على الأمم المتحدة، ودفع وزير خارجيتها لوصفها بـ”منظمة معادية لإسرائيل تؤوي الإرهاب وتشجعه”.
الهجمات الإسرائيلية لم تقتصر على الأمين العام، بل امتدت إلى مسؤولين آخرين، فقد كانت “إسرائيل” سابقًا قد منعت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز من الحصول على تأشيرة دخول في أبريل/نيسان الماضي، كما ردت أكثر من مرة طلبًا بالسماح لمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من الدخول إليها منذ بدء الحرب في غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
أطلقت كذلك عنان تهديداتها واتهاماتها للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، على خلفية طلب بإصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه.
بالمحصلة، إن العبرة من كل ذلك تحيلنا إلى أن النظام الجديد الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وادعى مرارًا أن ميراثًا تاريخيًا من الجهود الإنسانية المنغمسة في البحث عن المساواة والعدالة تمنحه قدمًا ثابتة لحماية العالم من الانزلاق نحو هاوية حربٍ عالمية ثالثة، قد ثبت فشله، فهو مصمم لمحاكمة دول العالم الثالث فقط.
أما “إسرائيل” التي تسببت بنكبات وكوارث إنسانية متعددة في فلسطين ولبنان، لم تكن بحاجةٍ لمقعدٍ في الأمم المتحدة وإنما إلى واجهة أممية تتيح لها مواصلة إحدى أساطيرها باعتبارها “دولة ديمقراطية في الشرق الأوسط الديكتاتوري”.
لم يكن نتنياهو كاذبًا حين قال إن “إسرائيل” نشأت بانتصارات الجنود والمحاربين وليس بقرارٍ أممي، بل كان واضحًا جدًا بذلك، إلى درجة أنه أكد للفلسطينيين طريق تحريرها الوحيد – دون أن يدري-.