كثيرًا ما نفكّر بأنه حان الوقت للبدء في توفير المزيد من المال والالتزام بخطّة معيّنة لتحسين وضعك المالي، كأنْ تجلب معك وجبة الغداء إلى العمل بدلًا من شرائها، أو أنْ تطهو في البيت لأكثر من يوم بدلًا من الأكل في الخارج بشكلٍ يوميّ، أو أنْ تستقلّ وسائل المواصلات العامّة بدلًا من الخاصة، أو أنْ تضع مبلغًا في مدّخراتك بداية الشهر، وغيرها.
لكنّ المشكلة التي قد يمرّ بها الكثيرون منّا هي أنّنا لا نستطيع دومًا الالتزام بتلك الخطط التي نضعها، إمّا لأنّنا عاجزون عن بناء خطة جيّدة أو أنّنا نفتقر للمعرفة اللازمة لكيفية الالتزام بها، أو حتى أنّنا نخضع للكثير من العوامل والظروف الأخرى التي تصعّب علينا الالتزام الدائم، ما قد يؤدّي إلى وقوعنا ضحايا للاكتئاب والقلق أو التوتّر أو الخوف من المستقبل، أو اكتساب صورة سلبية عن الذات.
فأنْ تشعرَ أنّك تعمل لتصرف نقودك لتصل إلى نهاية الشهر دون أيٍّ من المدّخرات، لهو بالتأكيد شعورٌ يرتبط بعدم الرضا عن الذات وصورتها وشخصيّتها. وأنْ تكون واقعًا تحت ضغط الديون والدفع والفواتير لهو بالتأكيد أمرٌ سيتّصل بكلّ تأكيد بغياب الرفاهية النفسية. لذلك، ينظر علم النفس للمال على أنه عاملٌ مهمٌّ يلعب دورًا أساسيًا في الصحة والرفاهية النفسية. ومن خلال العديد من نظرياته وتوصياته فيمكننا مساعدة أنفسنا للتخلص من أعبائنا المالية وبناء خطط أفضل للتعامل مع أموالنا بطرقٍ فعّالة وناجعة.
يساعدنا علم النفس للتخلص من أعبائنا المالية وبناء خطط أفضل للتعامل مع أموالنا بطرقٍ فعّالة وناجعة
قبل كلّ شيء، عندما يتعلق الأمر بالأمور المالية فإنّ كل قرش يشكّل فرقًا. ووفقًا لأحد الإحصاءات فإنّ 73٪ من جيل الألفية، الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و 37 عامًا، قالوا إن جيلهم يميل للإنفاق على الأشياء غير الضرورية. ما يعني أنّنا نواجه سؤالًا مشتركًا حقيقيًّا ومشتركًا: كيف ندير أموالنا ونقلّل من إنفاقاتنا غير اللازمة؟
الكفاءة الذاتية: الخطوة الأولى لإدارة المال
قدّم عالم النفس الأمريكي الشهير ألبرت باندورا خلال مسيرته العلمية والبحثية الطويلة مساهماتٍ هائلة ساعدتنا وما تزال تساعدنا في فهمنا للسلوك البشريّ والخبرات التي يمكننا امتلاكها خلال الحياة. وقد ركّز كثيرًا على مفهوم “الكفاءة الذاتية self-efficacy“، أي مدى إيمان الشخص بقدرته على النجاح في مواقف معينة أو إنجاز مهمة ما، كعامل أساسيّ ومطلب أوّليّ نحتاجه لتعلّم ما نريد تعلّمه وللنجاح فيه بقدرةٍ عالية.
خلصت العديد من الأبحاث إلى أنّ الكفاءة الذاتية المالية تبدو أنها الحلقة المفقودة بين المعرفة والعمل الفعال للتخطيط المالي وتوفيره والتعامل معه بفعالية عالية.
تعتمد نظرية باندورا في جوهرها على أنّ الأشخاص الذين يمتلكون توقّعات كفاءة ذاتية عالية قادرون على تحقيق وإنجاز الأهداف التي يضعونها لأنفسهم ويطمحون إليها على عكس أولئك الذين يمتلكون مستوىً منخفصًا من الكفاءة الذاتية. وبتعبيرٍ آخر، رأى باندورا أنّ إدراك الشخص لنفسه وقدرته على إنجاز وتحقيق أهدافه ومهمّاته هو أحد العوامل الأساسية في النجاح. وكثيرًا ما ترتبط الكفاءة الذاتية المنخفضة “بالعجز المتعلم”، أو الاستسلام بمعنى آخر، لأنك تعتقد أنّ أي جهد تبذله فلن يؤدي إلى تحسين وضعك.
بمعنى أنّ الأشخاص الذين لديهم إحساس قوي بقدراتهم فإنّهم ينظرون إلى المهام الصعبة كتحديات يجب إتقانها ويسعون إلى تطوير الاهتمام العميق بأنشطتها وما يرتبط بها من خلال وضع الأهداف المدروسة ومحاولة الالتزام بخططها، عوضًا عن أنهم معرّضون للتعافي بسرعة من النكسات وخيبات الأمل التي قد يمرّون بها أو يواجهونها أثناء محاولتهم لتحقيق أهدافهم.
يوصي الخبراء قبل كلّ شيء بالبدء بمهامّ صغيرة وملموسة وقابلة للتنفيذ، مثل وضع مبلغ صغير في مدّخراتك كل شهر أو توفيره مع أحد أصدقائك
ونظرًا لأنّ الكفاءة الذاتية أثبتت أنها محفز قوي للتغيير الإيجابي، فإنّ عددًا من الباحثين والخبراء سعوا إلى استكشاف العلاقة بين هذا المفهوم النفسي ومستويات أعلى من الرفاهية المالية. وفي الواقع، خلصت العديد من الأبحاث إلى أنّ الكفاءة الذاتية المالية تبدو أنها الحلقة المفقودة بين المعرفة والعمل الفعال للتخطيط المالي وتوفيره والتعامل معه بفعالية عالية.
إضافةً إلى ذلك، وجدت إحدى الدراسات الحديثة، والتي استمرّت لمدة عشر سنوات وشملت أكثر من 2000 طالب في جامعة أريزونا، أنّ الكفاءة الذاتية المالية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرفاهية المالية أكثر من أيّ عاملٍ آخر قد يلعب دورًا في ذلك، بما فيها الجنس أو العمر أو الخلفية الاجتماعية والاقتصادية والمعايير الثقافية، وغيرها. ما يعني أنّ كونك جيّدًا في التعامل مع المال ليس مجرّد مسألة إنفاق أقلّ أو توفير أكثر، بل هي مسألة إدراك وحالة عقلية لكيفية تعاملك وإيمانك بمدى نجاحك في ذلك.
كيف تكتسب الكفاءة الذاتية المالية؟
لنعد إلى باندورا الذي وضع 4 مصادر أساسية للكفاءة الذاتية، وهي تحقيق النجاح واختيار القدوة الجيدة و الاستجابة للتحفيز والتشجيع، إضافةً إلى إدارة الاستجابات العاطفية والجسدية. فالطريقة الأكثر فعالية لبناء إحساس قوي بالكفاءة الذاتية هي من خلال تنفيذ مهمّة ما بنجاح. وأحد النصائح المهمّة في عالم إدارة الأموال والتوفير هي وضع خطة بسيطة لخفض الإنفاق وتسديد الديون في حال تواجدت. ثق تمامًا أنْ التزامك بالخطة سوف يلهمك للاستمرار فيها ويحفّز خطوات العمل الإضافية نحو تحقيق خطتك المالية. وبعبارة أخرى، سيؤدي نجاحك في إنجاز خطة مالية واحدة إلى زيادة الثقة في قدرتك على إكمالها أو على التعامل مع المهمات التالية.
أن تكون جيّدًا في التعامل مع المال ليس مجرّد مسألة إنفاق أقلّ أو توفير أكثر، بل هي مسألة إدراك وحالة عقلية لإيمانك بمدى نجاحك في ذلك
يوصي الخبراء قبل كلّ شيء بالبدء بمهامّ صغيرة وملموسة وقابلة للتنفيذ، مثل وضع مبلغ صغير في مدّخراتك كل شهر أو توفيره مع أحد أصدقائك، حتى تتمكن من إثبات قدراتك الخاصة بنفسك. كما يُعتبر أصدقاؤك أو أفراد عائلتك ممّن لديهم تجارب ناجحة في التعامل مع المال ومهارات التوفير مصدرًا مهمًّا آخر لبناء الكفاءة المالية، فوفقًا لباندورا فإنّ مراقبة مهارات واستراتيجيّات الآخرين الفعّالة تساعد في إدارة مهاراتك وخططك بنجاح.
ولا يجب علينا أنْ ننسى أنّ حالاتنا المزاجية والعاطفية ومستويات التوتّر والقلق تؤثّر فعليًّا وبقوّة كبيرة على شعورنا بقدراتنا الشخصية وكفاءتنا الذاتية والتي تؤثر بدورها على تنفيذنا لخططنا المالية. ومع ذلك، فمن خلال تعلّم كيفية تقليل التوتّر والتحكّم بالمزاج عند مواجهة المواقف الصعبة، فيمكننا تحسين شعورنا بالكفاءة الذاتية وتحقيق نجاح أفضل في إدارتنا المالية.