على مر القرون، خلّدت كتب التاريخ العربي العديد من الشخصيات النسائية اللواتي حظين بمكانة رفيعة في عصرهن إما لنابغتهن أو حكمتهن أو أفعالهن البطولية في الأزمات وأوقات الحروب ما شجع الكتاب والأدباء على الحديث عنهن وتوثيق حكايتهن في فصول الذاكرة، إذ يجود علينا التاريخ بأمثلةٍ ونماذج مبهرة، من أهمها الملكة زنوبيا التي حكمت بلادًا وأنهت أخرى قبل أن يفقدها العالم بشكلٍ غامض.
اعتلت زنوبيا العرش في مدينة تدمر بسوريا القديمة بعد أن كانت المدينة منطقة مستقلة يحكمها النظام الملكي بولاية زوجها الذي لم يكن سبب صعوده إلى الحكم معروفًا على وجه التحديد، لكنه جاء على أثر الصراع بين الرومان والساسانيين (ملوك الإمبراطورية الفارسية الثانية) الذين حاولوا استعادة الأراضي المفقودة في الشرق الأوسط، وكان حصوله على تلك الأراضي يعني حصوله على لقب إمبراطور أو ملك الشرق المعترف به من روما، وذلك بحسب كتاب “بقايا تدمر” للفيلسوف قسطنطين فرانسوا فولني.
الملكة زنوبيا.. انتعاش اقتصادي ونهاية مجهولة
ويُقال بأن اسمها الحقيقي والأول “بت زباي” ويعني قوة المشتري أو “الزبّاء”، كما يعتقد أن أمها ترجع بنسب إلى كليوباترا ما حفزها بشكل أو بآخر على تولي الحكم في البلاد تشبهًا بكليوباترا وطموحاتها السياسية، لكن هذه المعلومة تبقى مشبوهة إذ تتضارب المصادر التاريخية بشأن الأصل والنسب، فمنها من يقول أنها عربية الجذور وأخرى تعتقد بأنها يونانية الهوية.
ولدت في تدمر وعاشت في مصر ودرست تاريخ الإغريق والرومان وأجادت اللغة الآرامية واللاتينية واليونانية والقبطية، ونظرًا لذلك فقد استطاعت أن تقرأ مجموعة مختلفة من كتب التاريخ والفلسفة والأدب، كما أنها كانت دومًا تستضيف الفلاسفة والأدباء في بلاطها، مثل الفيلسوف الشهير “كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس”، والدمشقي المؤرخ “بوسانياس”، وهذا ما يفسر إلمامها بثقافة واسعة.
أجادت اللغة الآرامية واللاتينية واليونانية والقبطية، ونظرًا لذلك فقد استطاعت أن تقرأ مجموعة مختلفة من كتب التاريخ والفلسفة والأدب، كما أنها كانت دومًا تستضيف الفلاسفة والأدباء في بلاطها، مثل الفيلسوف “كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس”
ويُقال بأن اسمها الحقيقي والأول “بت زباي” ويعني قوة المشتري أو “الزبّاء”، كما يعتقد أن أمها ترجع بنسب إلى كليوباترا ما حفزها بشكل أو بآخر على تولي الحكم في البلاد تشبهًا بكليوباترا وطموحاتها السياسية، لكن هذه المعلومة تبقى مشبوهة إذ تتضارب المصادر التاريخية بشأن الأصل والنسب، فمنها من يقول أنها عربية الجذور وأخرى تعتقد بأنها يونانية الهوية.
على أية حال، تضم المصادر التاريخية اسم زنوبيا ضمن النساء الثوريات والمحاربات في التاريخ العربي، فقد بدأ اسمها يسطع عندما توفى زوجها، أذنة المعروف بلقب “ملك الملوك”، في عام 267 ولحقه ابنه البكر، وهب اللات، نتيجة الانقلابات والصراعات الأسرية على تولي الحكم، ما أدى لاحقًا إلى منح الوصاية لزنوبيا التي حولت مدينة تدمر لإمبراطورية ذات ثقل سياسي وعسكري عظيم، محققةً بذلك رغبتها في السلطة.
ترك لها ثروة هائلة وجيش قوي، لكنها لم تكتفِ بذلك فقد جندت المزيد من المقاتلين ووسعت طرق التجارة فأصبحت تدمر حلقة أساسية في المعاملات التجارية والتفاعل الحضاري، ما زاد من حظوظ البلاد الاقتصادية التي شهدت نهضة في مختلف المجالات
جدير بالذكر أن زوجها أذنة ترك لها ثروة هائلة وجيش قوي، لكنها لم تكتفِ بذلك فقد جندت المزيد من المقاتلين ووسعت طرق التجارة فأصبحت تدمر حلقة أساسية في المعاملات التجارية والتفاعل الحضاري، ما زاد من حظوظ البلاد الاقتصادية التي شهدت نهضة في مختلف المجالات، مثل حركة العمران التي غيرت ملامح تدمر وانتشرت فيها المباني والمسارح والمعابد مثل معبد الشمس المعروف باسم “هيكل بعل”، والأعمدة التي يصل ارتفاعها إلى 15 مترًا.
بالجانب إلى ذلك، اهتمت زنوبيا في التعليم ونشر ثقافة اللغات الأجنبية في البلاد، واعتنت بأساليب الإدارة في دوائر الحكم المختلفة، فاكتسبت نفوذ هائلة جعلتها تتباهى بها في مواكبها التي اتخذت طابعًا ملوكيًا في عظمتها وفخامتها، وهي مرتدية تاجًا من الذهب والفضة على رأسها.يؤكد على ذلك الأديب السوري، نصر الدين البحرة الذي يقول:
“في المناسبات الرسمية كانت ترتدي حلة أرجوانية، بحاشية زينتها الحجارة الكريمة، وتطوق خصرها بنطاق تاركة واحدة من ذراعيها عارية حتى الكتف. وكانت تركب عربتها المحلاة بالأحجار الثمينة، وقد وضعت على رأسها خوذتها الرومانية المرصعة بالدر والجوهر،وكانت تستقبل ضيوفها على مائدة مقّلدة سنة القياصرة والرومان، فتشرف على آنية من الذهب الخالص مرصعة بالأحجار الكريمة. فقد كان في خزائنها كنوز ثمينة ومقادير عظيمة من الذهب، لم يكن لها مثيل إلا في خزائن كسرى”.
اهتمت زنوبيا في التعليم ونشر ثقافة اللغات الأجنبية في البلاد، واعتنت بأساليب الإدارة في دوائر الحكم المختلفة، فاكتسبت نفوذ هائلة جعلتها تتباهى بها في مواكبها التي اتخذت طابعًا ملوكيًا في عظمتها وفخامتها
أرادت زنوبيا أن تحمي مملكتها وتأمنها من الفرس الذين تصارعوا معهم طويلًا من أجل السيطرة على الأراضي والمشروعات التي تهدد أمنهم الاقتصادي والاستراتيجي، ولذلك أقامت زنوبيا الحص الذي حمل اسمها على ضفاف نهر الفرات، حيث كان يشكل دائرة قطرها 21 كيلو مترًا.
عبرت هذه الحركة الاقتصادية والعمرانية الهائلة عن آمال زنوبيا في إقامة دولة عربية كبيرة فهي لم تثق بالرومال أو الفرس ورغبت في التودد من القبائل العربية ولذلك سيطرت على منافذ التجارة في العراق وآسيا الصغرى والبحر المتوسط، وبالفعل نجحت في ذلك فقد امتدت امبراطوريتها على بلاد الشام كلها وجزء من آسيا الصغرى ومصر وشمال الجزيرة العربية.
لكن هذه الخطة لم تعجب شيوخ الرومان الذين خافوا من استفحال قوتها ونفوذها، فحرضوا القيصر “غاليانو” عليها، ونتيجة لذلك أرسل القيصر جيشًا لمحاربتها والقضاء عليها لكن زنوبيا كانت قد استعدت جيدًا لهذا الموقف وهزمتهم شر هزيمة لدرجة دفعت فيها مجلس الشيوخ إلى الاستنجاد بالقيصر الجديد قائلين: “نّجنا من فكتوريا ومن زنوبيا، أغثنا من التدمريين”، لكن الأحداث احتدت بين الطرفين بشكل تدريجي فيما بعد.
انتهت حكاية زنوبيا بانسحاب جيشها وخسارتها السيطرة على المدن والبلدات تدريجيًا، ما شاع شعورًا بالإحباط واليأس في مملكتها المنهزمة
فمع تزايد نفوذ زنوبيا في المنطقة وغزوها لمصر وزيادة ثروتها الاقتصادي ومنع التجار من إرسال الحبوب إلى الرومان زاد الضغوط على الإمبراطور الروماني الجديد “أورليانوس” ولذلك خطط لمهاجمة تدمر وملكتها، وعند سماع زنوبيا بهذا الأمر جهزت جزء من جيشها في مصر وأمرت الجزء الآخر بالتوجه إلى آسيا الصغرى بالقرب من قسطنطينية، لكن التكتيكات العسكرية التي رسمها الإمبراطوري الجديد كانت أقوى من جيوشها.
انتهت حكاية زنوبيا بانسحاب جيشها وخسارتها السيطرة على المدن والبلدات تدريجيًا، ما شاع شعورًا بالإحباط واليأس في مملكتها المنهزمة دون أن تتفق المصادر التاريخية على مصير واضح للملكة التي نقش اسمها على القطع النقدية وشيد لها تمثال يذكر بمواقفها الشجاعة ويستدل بقدرة المرأة على المحاربة والحكم.