في 1 من يناير 1999، ولد “اليورو” نتيجة تفاعلات سياسية واجتماعية واقتصادية وأبحاث ومشاورات استمرت نحو نصف قرن، وبعد 20 عامًا على ميلاده، أصبح العملة الرسمية لـ19 دولة حول العالم، عاصر تحديات كبيرة للقارة العجوز، حافظ على مكانته ووجوده القوي ورمزيته كأحد عناصر التكامل بين الدول الأوروبية، وامتد تأثيره إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي، وبات عملة متداولة في دول أخرى مثل الفاتيكان وأندورا وموناكو، لكنه أصبح مهددًا بالانهيار إذا لم يحدث أنشطته وسياساته المتصلبة واتخذ من خروج بريطانيا عليه عبرة وعظة قبل أن يدركه الطوفان.
طريق “اليورو” الصعب
تتزايد الصعوبات وتكثر الأسئلة والعالم يبحث خط سير العملة الأوروبية الموحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، طوال عقدين من الزمان، كان اليورو مثل الحاكم المتغلب على الدولار، قيمته أعلى ولا يستسلم لأي معاناة أو محنة وقع فيها العالم، نجا من تقلبات اقتصادية تسونامية في عالم المال، كانت كفيلة بالإجهاز عليه في أثناء رحلة صعوده للقمة التي وصل إليها مطلع 2009، وأنقذ دولًا متعددة في الاتحاد الأوروبي، غرقت في وحل الأزمات العالمية.
وحتى يمكن فهم تاريخ اليورو يجب العودة إلى معاهدة باريس المُبرمة عام 1951 والانتهاء من الحرب العالمية الثانية والقلق من التضخم الشديد والتذبذب الاقتصادي، ما جعل هناك حاجة متزايدة لعمل تحالف أوروبي والهروب من شبح زلزال اقتصادي ضرب العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وحتى تسهم المادة والمصالح المشتركة في تقليل إمكانية نشوب حرب عالمية مرة أخرى.
تفتحت العقلية الأوروبية على لغة التعاون وتغلبت لغة السوق المشتركة على الصراعات التاريخية، وبحلول عام 1960 شهدت العملة الدولية تقلبات كبيرة في القيمة ولمعالجة هذه الأزمة، لجأت الدول سابقة الذكر إلى إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية
معاهدة باريس وضعت تفاهمات بشأن صناعة الفحم والصلب، وسرعان ما وجدت آلية لتوحيد الإنتاج في فرنسا وألمانيا الغربية وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا، وكان التوحيد الاقتصادي بين ألمانيا وفرنسا وهما ألد عدوين في أوروبا، بمثابة انتصار تاريخي لم يكن أحد يتوقعه، وبدأت أفكار السوق المشتركة تقفز إلى الموائد المستديرة لقادة أوروبا، وبالفعل عام 1957 أبرمت معاهدة روما للجماعة الاقتصادية الأوروبية، للقضاء بشكل تدريجي على الموانع الجمركية، وغيرها من الحواجز التجارية بين الدول الستة.
تفتحت العقلية الأوروبية على لغة التعاون وتغلبت لغة السوق المشتركة على الصراعات التاريخية، وبحلول عام 1960 شهدت العملة الدولية تقلبات كبيرة في القيمة، ولمعالجة هذه الأزمة، لجأت الدول سابقة الذكر إلى إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وبحث إنتاج سيستم اقتصادي موحد لأوروبا بأكملها، واستمرت الأبحاث والدراسات حتى عام 1970، حتى أوصى فيرنر رئيس وزراء لوكسمبورج ورئيس المجموعة الاقتصادية، بضرورة صك عملة موحدة لأوروبا لتحقيق توازن اقتصادي بين دول القارة.
تعطل العمل في خطة فيرنر بسبب عوائق بيرواقرطية، وظل المشروع معلقًا حتى عام 1989، وتولية جاك ديلور رئيس المفوضية الأوروبية واقترح خطة جديدة لتوحيد النقد بين بلدان القارة العجوز، واستمرت المناقشات بشأن الخطة الجديدة حتى عام 1992، وأفرزت “معاهدة ماستريخت” التي وضعت أول بنود متفق عليها، تكشف بوضوح ما الذي تعنيه الوحدة الأوروبية المطلوبة.
وضعت المعاهدة 3 مراحل للبدء في صك عملة موحدة، أولها حرية حركة رأس المال بين الدول الأعضاء، وزيادة التعاون بين الدول ومصارفها المركزية، وإدخال عملة موحدة وسياسة نقدية تدريجية، كما حددت معايير انضمام الأعضاء الجدد إلى الاتحاد الأوروبي، ووضعت معايير لاستخدام العملة، أهمها وجود مستويات مستقرة من الدين العام والتضخم، وبعد الاتفاق على الإطار القانوني وتفاصيل العملة نفسها، ووضع الاقتراحات لتسميتها التي يجب أن تكون بسيطة، وتجمع بين الحضارات الأوروبية مكتملة.
نظم الاتحاد الأوروبي، مسابقة دولية لتصميم العملة المعدنية، وفاز بها لوك لويكس المصمم البلجيكي، بتصميم يحتوي على خرائط لأوروبا، فيما فازت بتصميم الأوراق النقدية روبرت كالينا من النمسا التي اختارت الطابع المعماري من مراحل مختلفة من التاريخ الأوروبي
عام 1995، عرف جيرمان بيرل الأكاديمي البلجيكي، الطريق السليم لاختيار اسم العملة، ووضع مجموعة محددات، اختار لها أن تعكس شخصية الأشخاص الذين سيستخدمونها، واقترح اسم “اليورو”، واختار له المجلس الأوروبي الرمز”€” وهو مستوحى من الحرف اليوناني (Є في إشارة إلى مهد الحضارة الأوروبية، كما يشير إلى الحرف الأول من كلمة أوروبا في الأبجدية اللاتينية، ومع منتصف ليل 1 من يناير 1999 بدأت كل دولة في التخلص التدريجي من عملتها، وفي 2 من يناير 2002، بدأت الأوراق النقدية والعملات المعدنية باليورو في التداول.
ونظم الاتحاد الأوروبي، مسابقة دولية لتصميم العملة المعدنية، وفاز بها لوك لويكس المصمم البلجيكي، بتصميم يحتوي على خرائط لأوروبا، فيما فازت بتصميم الأوراق النقدية روبرت كالينا من النمسا التي اختارت الطابع المعماري من مراحل مختلفة من التاريخ الأوروبي، باعتباره رمزًا للانفتاح والتعاون الجديد بين دول القارة.
سر اجتياز التحديات السياسية والاقتصادية
واجه اليورو الكثير من العقبات ومحاولات العرقلة، بداية من رفض الأمم المتحدة والدنمارك استخدامه والتعامل به، بجانب محاولة ضربه من مصرفيين بفرنسا وإيطاليا، اعتبروا فكرة العملة الموحدة، ستقضي على مكاسبهم الضخمة من العمل في الدولار والعملات المحلية، بجانب عمليات التزوير الواسعة التي واكبت بدء انتشاره، استغلالاً لجهل الناس بالعملة الجديدة.
كان التحدي الرئيسي لليورو، زيادة التجارة بين الدول الأعضاء، حتى لو كان ذلك على حساب هبوط سعر العملات المحلية، ولكن أزمات اختلاف الثقافات بين دول القارة، وتمسك كل دولة بتطرف في طرف هويتها، عجلت من اندلاع أزمة هددت بتفكيك اليورو في 2010-2012، وكانت الأزمة الأعنف، من جانب إيطاليا وغضب حكومتها من القيود على الإنفاق ورغبتها في إنفاق المزيد على الرفاهية الاجتماعية وإحساسها بالتضييق عليها من الاتحاد الأوروبي والتدخل في شؤونها الداخلية بسبب ديونها الكبيرة، وصلت آنذاك إلى نحو 132% من الناتج الاقتصادي السنوي، ولم تتخذ إيطاليا في المقابل أي خطوات إصلاحية جريئة تعالج تباطؤ النمو الاقتصادي.
تتخوف أوروبا وخاصة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD” من مخاطر كبرى تهدد الوحدة الأوروبية، ليس فقط بسبب النزعات الانفصالية التي تداهم بعض الأعضاء حاليًّا، ولكن للتوقف عن إجراء إصلاحات واسعة في الاتحاد الأوروبي
اليونان أيضًا، اعتبرت أزمتها الاقتصادية الخانقة، بسبب خطط الإنقاذ الأوروبية التي نصت على تقشف صارم وتخفيض الرواتب الحكومية والمعاشات التقاعدية، مما أشعل حنق المواطنين بالمظاهرات المستمرة رفضًا لسياسة منطقة اليورو، وخسرت البلاد ربع اقتصادها، ورغم ذلك تشير استطلاعات الرأي، أن العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي، ما زالت تحظى بشعبية كبيرة، حيث يرى 71% من سكان أوروبا أنه جيد لمستقبل القارة.
مسقبل اليورو.. إلى أين؟
تتخوف أوروبا وخاصة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD” من مخاطر كبرى تهدد الوحدة الأوروبية، ليس فقط بسبب النزعات الانفصالية التي تداهم بعض الأعضاء حاليًّا، ولكن للتوقف عن إجراء إصلاحات واسعة في الاتحاد الأوروبي، بما قد يضعف اليورو مستقبلاً مقابل العملات المحلية والدولار بالطبع.
وتهدد الاتحاد عيوب كارثية، تهدد بشل منطقة اليورو، وهي الأسباب التي بنت عليها بريطانيا أسبابها للفكاك منه، واعتبرت أنها بمفردها، ستكون أفضل بكثير، في ظل تصلب المؤسسات العاملة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وارتفاع الأسعار منذ إدخال العملة الموحدة اليورو، فضلاً عن عدم قدرته على منافسة الدولار الأمريكي وخسارته نحو 25% من قيمته مقابل الدولار، فضلاً عن الأبحاث الموثقة التي أكدت خطورة العملة الموحدة، وتأثيرها في مناطق بعينها عن مناطق أخرى، بما قد يؤدي إلى صدمات شديدة، لن تكون بنفس الدرجة في البلدان الأخرى.
ودللت منظمة التعاون الاقتصادي على المخاطر التي تنتظر الاتحاد، بسبب تفاوت الأسعار في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، من خلال دراسة حديثة لها، أكدت فيها أن لترًا واحدًا من الحليب يتراوح سعره بين 0.67 يورو في البرتغال و1.22 يورو في إيطاليا، أي ما يقارب ضعف السعر، وهو ما يعطل ازدهار اليورو، بسبب عدم قدرة الدول على التحدث بصوت واحد، واتباع سياسات اقتصادية موحدة، تساهم في تسريع وتيرة الأنظمة الإدارية المعقدة، وتضع آليات سهلة، تساعد أسواق العمل الجامدة، وتحد من تكاليف التشغيل المرتفعة.