خلال العقدين الماضيين، ذهب ثلاثة من كبار المسؤولين الأمريكيين (كونداليزا رايز وباراك أوباما ومايك بومبيو) إلى العاصمة المصرية القاهرة للترويج لسياساتهم الفاشلة ووضع رؤيتهم للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، في كل مرة، انتقدوا أسلافهم، وفي كل مرة لم يخرج عنهم شيئًا جيدًا.
خطاب رايز في القاهرة.. من هنا بدأت تناقضات السياسة الأمريكية
في يونيو/حزيران 2005، ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايز (2005-2009) خطابًا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد عامين من الغزو الأمريكي للعراق وما صاحبه من دمار وقتل وتشريد هناك.
أصبح من الواضح أن فوهة البندقية لا يمكن أن تسلِّم الحرية والديمقراطية إلى المنطقة، وأن النظام الإيراني استغل ضعف العراق في الصعود كقوة إقليمية مسلحة
ترك سقوط صدام حسين صدعًا في صرح الاستبداد العربي، ثم ادَّعى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش (2001-2009) أنه حامل لشعلة للحرية والديمقراطية في المنطقة، ومن هنا، تحدثت رايز في كلمتها مطولاً عن الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط، وضربت 6 عقود من الدعم الأمريكي للاستقرار على حساب الديمقراطية.
كوندوليزا رايس خلال إلقاء خطابها في القاهرة
ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت إدارة بوش قد شحنت بالفعل مئات من جثث الجنود الأمريكيين الذين قُتلوا في الفراغ الأمني الذي أعقب ذلك في العراق، في السنوات التالية، أصبح من الواضح أن فوهة البندقية لا يمكن أن تسلِّم الحرية والديمقراطية إلى المنطقة، وأن النظام الإيراني استغل ضعف العراق في الصعود كقوة إقليمية مسلحة.
باراك أوباما.. “بداية جديدة” لم تبدأ من الأساس
بعد 4 سنوات بالضبط، وفي يونيو/حزيران 2009، ألقى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما خطابًا مختلفًا للغاية في مناسبة شارك في تنظيمها جامعتي الأزهر والقاهرة فيما كان يُطلق عليه من نقاده “جولة اعتذار” عن سوء سلوك الولايات المتحدة في عهد إدارة بوش التي تضررت خلالها العلاقات بشدة.
تحدث أوباما عن التوتر التاريخي بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي الذي يسعى إلى حلّه عبر “بداية جديدة” في العلاقات، وهو الاسم الذي حملته خطبته، وجدد التزامه بعد عام واحد بالسعى لتحقيق تلك البداية مع العالم الإسلامى، متعهدًا بأن تواصل الولايات المتحدة جهودها لتعزيز السلام فى الشرق الأوسط وكبح عنف “المتشددين” ودعم التنمية الاقتصادية.
كان لأوباما هدفان: فك الارتباط مع التوتر السني الشيعي من خلال مد يده إلى طهران والتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهما هدفان متناقضان إلى حد ما، فكيف يمكن الجمع بين إيران و”إسرائيل”؟
نظرة أقرب إلى ما قاله بومبيو تكشف أن العديد من السياسات التي تتبعها إدارة ترامب لا تختلف عن سياسات عقيدة أوباما
مع نمو القوة الإيرانية في المنطقة بعد غزو العراق، أصبحت “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية يركزان بشكل متزايد على ردعها، وبالتالي، لم يكن أي منهما مهتمًا بالتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين حتى أعطت الولايات المتحدة الأولوية لدفع النفوذ الإيراني.
لم يخفق أوباما في تحقيق هذين الهدفين فحسب، بل اختار أيضًا الإفراط في استخدام الطائرات الأمريكية دون طيار لقصف أهداف في أنحاء العالم الإسلامي، مما أسفر عن مقتل المئات من المدنيين الأبرياء والتخلص من وعوده “ببداية جديدة”.
خطاب بومبيو.. مزيد من التناقضات تجاه الشرق الأوسط
بعد عقد من الزمان، شق وزير الخارجية الأمريكي الحاليّ مايك بومبيو طريقه إلى القاهرة، وألقى خطابًا رئيسيًا في السياسة الخارجية، وأعلن أن “عصر الخزي الأمريكي قد انتهى”، وانتقد إرث أوباما بنشر الفوضى ودعم الإسلاميين المتشددين في الشرق الأوسط، ووضع سياسات متناقضة.
وضع بومبيو امتدادًا آخر لعقيدة أوباما، وهو مواجهة تنظيم الدولة “داعش” في العراق والشام باستخدام طائرات دون طيار وشركاء محليين على الأرض
في الواقع، فإن نظرة أقرب إلى ما قاله بومبيو تكشف أن العديد من السياسات التي تتبعها إدارة ترامب لا تختلف عن سياسات عقيدة أوباما، فوجهات نظر أوباما عن “التطرف العنيف”، ومشاركته مع النظام الأصولي في طهران، وقراره بعدم الاستمرار في التهديد بمعاقبة نظام الأسد على استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة، ظهرت جميعها في خطاب بومبيو.
على سبيل المثال، عمد بومبيو إلى انتقاد أوباما بشأن فك الارتباط في العراق، مجادلاً أنه عندما تتراجع أمريكا، فإن الفوضى تأتي في أعقاب ذلك”، إلا أن هذا هو بالضبط ما يحدث حاليًّا في سوريا، بعد قرار ترامب المتسرع بسحب القوات الأمريكية من المنطقة الشمالية الشرقية للبلاد.
كما أشاد بومبيو بسياسات إدارة ترامب لسحب القوات عندما تكتمل المهمة، مشيرًا إلى أن القوات الأمريكية في العراق قد انخفضت من 166 ألفًا إلى 5 آلاف، وتخطي حقيقة أن الانسحاب كان قرارًا اتخذته أوباما.
ومع كل انتقاداته القاسية للإدارة السابقة في أسلوب غير معهود لمسؤول أمريكي في زيارة خارجية، وضع بومبيو امتدادًا آخر لعقيدة أوباما، وهو مواجهة تنظيم الدولة “داعش” في العراق والشام باستخدام طائرات دون طيار وشركاء محليين على الأرض وتمكين الحلفاء من حماية حدودهم.
ومن المفارقات أن هدف هزيمة الإرهاب من المحتمل أن يعوقه قراران اتخذتهما إدارة ترامب، أحدهما الانسحاب من سوريا الذي سيترك القوات السورية الديمقراطية المتحالفة مع الولايات المتحدة، التي تنشغل بتوغل تركي محتمل، وتشتت انتباهها عن حملتهم ضد تنظيم “داعش”، والآخر هو قرار مواجهة إيران دبلوماسيًا، الذي جعل القوات الأمريكية في حالة تأهب وحول التركيز بعيدًا عن مكافحة “داعش” في العراق.
Egypt’s Sisi has arrested 60k political prisoners and murdered hundreds in the Rabaa Sq massacre. Today, @SecPompeo is in Egypt to support him. This is not the direction our foreign policy should go. We should suspend military aid to Egypt until their human rights abuses stop.
— Rep. Ro Khanna (@RepRoKhanna) ١٠ يناير ٢٠١٩
الحفر السوداء في خطاب بومبيو في الشرق الأوسط
حرص بومبيو على التأكيد على سياسات إدارة ترامب المناهضة لإيران ، قائلاً: “دول الشرق الأوسط لن تتمتع أبدًا بالأمن والاستقرار الاقتصادي، ولن تحقق أحلام شعوبها طالما أن النظام الثوري الإيراني المستمر قائم على مساره الحاليّ”، ومع ذلك، فإن ردع إيران في عهد ترامب لا يعني سوى فرض عقوبات صارمة على النظام دون وجود الكثير منها قِبل المجتمع الدولي، وهذا يعني أيضًا أن واشنطن وطهران ستستمران في تقاسم النفوذ في كل من العراق ولبنان.
مايك بومبيو خلال مصافحته عبد الفتاح السيسي
كما تحدث وزير خارجية ترامب عن “تعزيز التحالفات طويلة الأجل وبناء شراكات جديدة”، ومع ذلك، يشعر العديد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بعدم الاستقرار بشأن التزام الإدارة الحاليّة بالتحالفات الإقليمية، ففي كل من العراق وسوريا تركت إدارة ترامب القوات الكردية في مواجهة مصيرها، ونتيجة لعدم رغبة الولايات المتحدة في متابعة الالتزامات تنخرط هذه القوات في الوقت الحاليّ مع موسكو – وربما طهران – لإيجاد بديل عن التردد في الدعم الأمريكي.
يُضاف إلى ذلك، وجود بعض الأنظمة العربية الحليفة لواشنطن على حافة الانضمام إلى محور “إسرائيل” المناهض لإيران، ويبدو أنها تؤيد تصفية إدارة ترامب للقضية الفلسطينية، فيما يُعرف بـ”صفقة القرن”، وهو ما فتح الباب للمقارنة بينه وبين خطاب أوباما الذي ألقاه في جامعة القاهرة عام 2009.
إذا كانت ” الرؤية” الأمريكية للشرق الأوسط،كما وردت على لسان وزير خارجيتها، تقتصر على مواجهة الإسلام المتطرف وايران وضمان أمن إسرائيل والتفاخر بنقل السفارة إلى القدس دون أي إشارة إلى آمال وتطلعات الشعوب فى الحرية والكرامة فالرسالة واضحة: علينا أن نعتمد على أنفسنا وأنفسنا فقط
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) ١٠ يناير ٢٠١٩
ففي مقالة نشرتها صحيفة “واشنطن بوست”، قال الكاتب آدم تايلور: “تم حذف عدة مواضيع وقضايا من نظرة بومبيو للمنطقة، أكثرها وضوحًا: السعودية، وعلى الرغم من أنها حليف قديم وشريك أساسي لسياسة إدارة ترامب، بالكاد ذكرها بومبيو الذي أشار إليها بشكل عابر عندما تحدث عن تنظيم الدولة وإيران، وعندما تطرق إلى محطته القادمة في جولته الشرق أوسطية.
لذلك أثار خطاب بومبيو عن سياسات واشنطن في منطقة الشرق الأوسط ودعمها للأنظمة المستبدة وتصديها لتطلعات الشعوب في الحرية ودعمها لـ”إسرائيل”، انتقادات مسؤولين أمريكيين سابقين ومحللين، اتهموه باعتماد قراءة خاطئة للتاريخ والتغطية على رغبة ترامب بتقليص التزامات الولايات المتحدة في المنطقة فضلاً عن خروج بومبيو السافر عن العرف الدبلوماسي، فى تناول الخلاقات الداخلية الأمريكية علنًا.
وفي حين تبدو أجزاء من خطاب بومبيو متناقضة مع المراقبين الخارجيين، فمن المحتمل أن يكون موجه إلى رئيسه في المكتب البيضاوي، ومع عدم قدرته على مواجهة رئيسه ربما أرسل بومبيو رسالة عامة إلى ترامب بأن الانسحاب من سوريا هو تحرك شبيه لأوباما، مع العلم أن الرئيس لا يكره شيئًا أكثر من مقارنته بسلفه.
من المقرر أن مهمة بولتون وبومبيو ستكون صعبة، لأنهما فقدا مصداقيتهما في الشرق الأوسط
ومهما كانت نوايا بومبيو الحقيقية، فقد أكد خطابه حقيقة مثيرة للقلق، إذ لم يحدث في التاريخ الحديث أن توارت السياسة الخارجية للولايات المتحدة لحساب السياسة الداخلية والتوترات الداخلية داخل الإدارة الرئاسية، والآن بعد أن ترك جيمس ماتيس منصبه كرئيس للبنتاغون، سيتنافس بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون على اهتمام رئيسهم، ويسعى كل منهم لتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وفقًا لقناعاته.
ومن المقرر أن مهمة بولتون وبومبيو ستكون صعبة، لأنهما فقدا مصداقيتهما في الشرق الأوسط، ومن الآن فصاعدًا، لن يعتقد أي زعيم إقليمي أو صانع سياسة بأنهم يتحدثون نيابة عن ترامب، فمعظم ما كانوا يعظون به حول سوريا في عام 2018 فقد مصداقيته بشكل كبير بسبب تصريحات الرئيس الأخيرة بأن الولايات المتحدة ليس لها عمل في سوريا، فهل يكفي خطاب السيطرة على الأضرار في القاهرة من وزير خارجيته لإنقاذ الرئيس الأمريكي من نفسه؟