بعد أن كانت الانطلاقة الأولى لشعلة مسيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة، محط سخرية واستهزاء من الجانب الإسرائيلي بكل أطيافه السياسية والعسكرية الذين أكدوا بأنها مجرد حماس شعبي سيزول ويبرد مع الأيام، حتى أصبحت هذه الشعلة من أهم وأكبر الأوراق التي تلعب بها المقاومة في غزة.
منذ الـ30 من شهر مارس من العام 2017، وتشهد الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، انتفاضة شعبية هي الأكبر في تاريخ النضال الفلسطيني ضد المحتل الإسرائيلي، كانت تشعل الحدود والمواجهات، تقوى جمعة وتخفت جمعة أخرى طبقًا لمتطلبات المرحلة وتحكم المقاومة في تفاصيل صراعها المفتوح مع “إسرائيل”.
كل السياسيين والمحللين والعسكريين الذين كانوا في السابق يسخرون من قوة وتأثير مسيرات العودة، يقرون اليوم بأن هذه الورقة أصبحت من أكثر وأقوى الأوراق التي نجحت المقاومة وعلى رأسهم حركة “حماس”، في إدارة الصراع وإجبار دولة الاحتلال على استجداء توقفها مهما كلف ذلك من ثمن.
يقول خضر حبيب عضو الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة: “الهيئة مقبلة خلال أيام على اتخاذ خطوات وخيارات نضالية جديدة في حال لم يرفع الحصار عن قطاع غزة”
وفي قراءة واقعية للتطورات الحاصلة على حدود القطاع، ورفض الاحتلال الاستجابة لشرط المقاومة وتخفيف الحصار المفروض على غزة، وتصعيده المباشر على المتظاهرين السلميين وقتله وإصابته للعشرات منهم في الجمعة الأخيرة، لجأت المقاومة لتصعيد لهجتها والتهديد بصوت عالٍ باتخاذ خطوات أخرى أكثر تأثيرًا خلال الأيام المقبلة.
ورقة غزة الرابحة
يقول خضر حبيب عضو الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة: “الهيئة مقبلة خلال أيام على اتخاذ خطوات وخيارات نضالية جديدة في حال لم يرفع الحصار عن قطاع غزة”، ويضيف “لا تختبروا شعبنا، فلدينا من الوسائل ما يجعلها لهيبًا تحرق هذا العدو، وإعادة الاعتبار لكل الأشكال النضالية”، معتبرًا المشاركة الواسعة لجماهير الشعب الفلسطيني في الجمعة الأخيرة هي “تأكيد جديد على استمرار مسيرات العودة بطابعها الشعبي مهما أوغل الاحتلال باستهدافها”، مؤكدًا أن اعتداءات الاحتلال على المسيرة والمتظاهرين لن يفت من عضدها، مشددًا على أنها ستتواصل حتى تحقيق أهدافها.
وأعلنت مسيرات العودة وكسر الحصار عن نفسها كأسلوب مقاومة سلمية في مواجهة الاحتلال على امتداد المناطق الشرقية لقطاع غزة المتاخمة للأراضي المحتلة عام 1948، قاطعة شوطًا زاد عمره على 11 شهرًا، وسط إصرار شعبي واضح للاستمرار في فعالياتها حتى تحقيق أهدافها الوطنية التي انطلقت من أجلها.
العضو الآخر في اللجنة الوطنية العليا لمسيرة العودة هاني الثوابتة أكد أن مسيرات العودة برزت كمحطة من محطات النضال الفلسطيني ضد الاحتلال ومشاريعه وجرائمه، فيما أنها وبعد أن قطعت شوطًا طويلًا أثبت نجاعته دون أي تشكيك، وأوضح أن مسيرات العودة حققت ضمن سُلّم إنجازاتها حراكًا عالميًا وإقليميًا تجاه القضية الفلسطينية وأعادتها للصدارة بعد أن غابت عن طاولات البحث لسنوات طويلة بفعل الحروب والإشكالات الداخلية التي تعاني منها دول المنطقة.
مسيرات العودة على حدود غزة
يقول الثوابتة: “مسيرات العودة جسدت الوحدة الفلسطينية في الميدان بين كل مكونات المجتمع الفلسطيني، والعمل المشترك في الميدان، شاملة كل القوى والشرائح والفئات العمرية، ما أعطى المجال للانخراط في العملية النضالية”.
ويضيف أنها أوقفت فعليًا كل محاولات التسويات والمبادرات والمشاريع السياسية المستهدفة للثوابت الفلسطينية، وكي الوعي وتذويب الحقوق التاريخية، فيما أعادت الفكرة بإمكانية تحقيق حلم العودة رغم حاجته فعليًا وواقعيًا للوقت.
ويشير إلى أن دولة الاحتلال عاشت وبفعل مسيرات العودة على طول أيام انطلاقها ولا تزال حالة من الإرباك والاستنزاف، والتهديد الأمني، أوصلها لأن تنفي صلتها بالحصار المفروض على قطاع غزة وربطه بالانقسام السياسي.
وتعتبر وحدات “الكوشوك” و”البالونات والأطباق الحارقة” و”الإرباك الليلي” من الوسائل القتالية التي ابتدعها شباب غزة لمواجهة جيش الاحتلال، والتعبير عن غضبهم من استمرار الحصار ومحاولة فكه بوسائل مقاومتهم البدائية المستوحاة من وسائل قتال قديمة، لكنها حققت نتائج ملموسة أجبرت “إسرائيل” على طَرق كل الأبواب لإيقاف “غضب غزة” بأي ثمن كان قبل فوات الأوان.
يقمع الجيش الإسرائيلي بالقوة المتظاهرين الفلسطينيين، ما أدى إلى استشهاد العشرات وإصابة الآلاف بالرصاص والاختناق، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية
وعلى ضوء هذا الإبداع والتهديد بتصعيده بوسائل قتالية أخرى مستحدثة، يتواصل حراك الفلسطينيين السلمي على طول حدود قطاع غزة، ضمن مخيمات أقيمت في محافظات غزة الخمسة منذ نهاية مارس الماضي، ويطالب هؤلاء بحقهم في العودة إلى أراضيهم المحتلة عام 1948، والإنهاء الكامل للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007.
ويقمع الجيش الإسرائيلي بالقوة المتظاهرين الفلسطينيين، ما أدى إلى استشهاد العشرات وإصابة الآلاف بالرصاص والاختناق، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.
وتتحرك مصر بكل اتجاه وتجري جولات مكوكية بين غزة ورام الله وتل أبيب، لإقناع الجهات المعنية بضرورة وقف مسيرات العودة، وخاصة أساليب المقاومة التي يستخدمها شباب غزة كالبالونات الحارقة وإشعال الإطارات ووحدات الإرباك الليلي والسهام، وغيرها من أساليب المقاومة التي أثبتت نجاعتها وتأثيرها القوي.
مشاركة المواطنين في مسيرات العودة
الأهداف المحققة
وفي هذا السياق، يرى المحلل السياسي تيسير محيسن أن مسيرات العودة حققت إنجازات لم يكن أحد يتوقع أن تحققها، وباتت ورقة قوية لا يمكن لحماس أو باقي الفصائل الأخرى أن تسقطها من يدها، بعد أن حصدت تأثيرها ونتائجها على الأرض وداخل غرف المفاوضات والوساطة.
ويلفت محيسن إلى أن مسيرات العودة باتت السلاح السلمي الأقوى للضغط على “إسرائيل” به من أجل تخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة، خاصة في ظل الحديث الأولي عن تهدئة يجري الإعداد لها بوساطة مصرية وأممية.
توقع محيسن أن تتعاظم قوة مسيرات العودة خلال 2019، بعد أن حصدت نتائج مهمة وكبيرة جدًا خلال 2018، ومنها إدخال الأموال والوقود وتحسين الكهرباء وفتح معبر رفح المغلق
ويشير المحلل السياسي إلى أن تلك المسيرات الشعبية أقل تكلفة، لكنها أكثر تأثيرًا على أرض الواقع، وقد استطاعت طوال الشهور الماضية أن تخلق واقعًا جديدًا ووحدت فصائل المقاومة وأظهرتهم بأنهم المنتصرون، وفضحت أمام هذا الانتصار ممارسات الاحتلال وجيشه القمعية والإجرامية، وموعد نهايتها ما زال بعيدًا.
وتوقع محيسن أن تتعاظم قوة مسيرات العودة خلال 2019، بعد أن حصدت نتائج مهمة وكبيرة جدًا خلال 2018، ومنها إدخال الأموال والوقود وتحسين الكهرباء وفتح معبر رفح المغلق، لافتًا إلى أن سنة 2019 ستكون حبلى بالمفاجآت وتنوع وتطور وسائل وأساليب المقاومة لتكون أكثر تأثيرًا على “إسرائيل” وقرارات قادتها.
الجدير ذكره أن “إسرائيل” تفرض حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا على قطاع غزة، منذ فوز حركة “حماس” بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية عام 2006، ثم شدّدته منتصف عام 2007.
وتحاول قطر من خلال مشاريعها الإنسانية أن تدعم سكان القطاع وتخفف من أزمات الحصار الذي يعانون منه، وأعلن رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار القطاع محمد العمادي، خلال مؤتمر صحفي بالقطاع في نوفمبر الماضي، أن بلاده قدمت منحة لغزة بقيمة 150 مليون دولار، لدفع رواتب موظفي قطاع غزة وتحسين إمدادات الكهرباء وهي ضمن رزمة مشاريع اقتصادية تُصرف للقطاع قدرت بمئات ملايين الدولارات.