يسارع الإحتلال الإسرائيلي ومن خلفه ماكينتي الإعلام العبري والغربي إلى قلب التراب على جرائم الجيش وما خلفه وراءه من مجازر ودمار في بلدات وقرى جنوب لبنان، بعد مرور نحو شهرين على شن حملة قصف عنيفة راح ضحيتها ما يقارب 3 آلاف قتيل وألف جريح، بالتزامن مع بوادر اتفاق لوقف إطلاق النار مع “حزب الله” في غضون الأسابيع المقبلة.
ويكافح جيش الاحتلال لفرض تعتيم إعلامي كامل على جرائمه، عبر استراتيجية تقوم على: استهداف الصحفيين الميدانيين والمراسلين الذي يغطون الحرب في لبنان، والتعاون مع كبرى وسائل الإعلام الغربية مثل “نيويورك تايمز” و “وبي بي سي” لخلق سردية مضادة ترفع صورة نصر وطني إسرائيلي فوق ركام قرى ومنازل سكنية من جنوب لبنان، ثم توظيف وجوه إعلامية يهودية شهيرة لترميم صورة “إسرائيل” المهزومة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تعتيم إعلامي بالشراكة مع الصحافة الغربية
في 12 أكتوبر الجاري، نشر الموقع الإنجليزي لهيئة “بي بي سي” البريطانية تقريرًا بعنوان “داخل منطقة القتال الإسرائيلية في جنوب لبنان”، من إعداد مراسلتها في القدس المحتلة، لوسي ويليامسون، التي أعدت تقريرها بعد جولة أجرتها مع قوة من الجيش الإسرائيلي، في قرى لبنانية متاخمة للحدود حيث تدور الاشتباكات مع مقاتلي “حزب الله” اللبناني.
فيما استعرض التقرير المذكور مشاهد دمار واسع في قرية لم يكشف عن اسمها، تضمنها توجيه جنود الاحتلال كاميرا التصوير نحو ما زعموا أنها أسلحة وقذائف وجدوها في المنازل الخالية من السكان. إضافًة إلى إجراء ويليامسون مقابلة مع أحد الضباط العسكريين، الذي برر خلالها العمليات العسكرية، بصفتها ردّاً على تهديدات “الإرهابيين”. في تماهي كامل مع رواية الاحتلال عما يجري في الجبهة الشمالية.
كما ظهرت لوسي ويليامسون وفريقها وهم يتنقلون في سيارات عسكرية إسرائيلية، بينما كانت تجري حوارات سريعة مع الجنود الذين وصفوا القرى بأنها “أشبه ببنية تحتية واسعة النطاق للمسلحين”، دون إضافة أي تعليق أو تعقيب على إجاباتهم. تبيّن لاحقًا أن دخول ويليامسون إلى لبنان كان ضمن جولة صحافية نظمها جيش الاحتلال لمراسلي عددٍ من المؤسسات الإعلامية الصحافية الدولية، من بينها “واشنطن بوست” و”وول ستريت جورنال” و”رويترز” و”فوكس نيوز” و”نيويورك تايمز”، في خرق صريح لأخلاقيات وقواعد المهنية الموضوعية.
أتى هذا التقرير قبل أيام قليلة من استهداف الجيش الإسرائيلي في غارة جوية تجمّعًا للطواقم الإعلامية اللبنانية، التي تحاول منذ أسابيع الوصول للمناطق التي يشن عليها الاحتلال حملة عسكرية عنيفة. ما أدى إلى مقتل 3 صحفيين عاملين في مؤسسات إعلامية محلية وعربية في حاصبيا جنوب لبنان. فيما أظهرت مقاطع الفيديو التي بثها التلفزيون العربي من المكان حجم الضرر الذي تعرضت له كاميرات وسيارات الفرق رغم تميّزها بشعار “صحافة”.
فيما يؤكد تتابع الحدثين وتكرارهم لعشرات المرات في غزة سابقًا، انتهاج جيش الإحتلال نمط معين في ملاحقة الصحفيين العرب واستهدافهم مباشرة، سعيًا وراء منع انتشار الحقيقة وفرض تعتيم إعلامي عما يجري في أرض الواقع من مجازر وانتهاكات بحق المدنيين في جنوب لبنان. وأيضًا مساهمة كبرى وسائل الإعلام الغربي في صنع سردية بديلة وتمكين إستراتيجية الحرب الدعائية، التي ستضمن لإسرائيل تبرير عدوانها على لبنان كما هي الحال في فلسطين.
كما يتوضح لنا إيلاء دولة الاحتلال هذه المرة، أهمية أكبر في ضمان عدم وجود أدلة دامغة تدينها عن جرائمها في لبنان، إذ من المتوقع أن يسعى الاحتلال لتجنب وجود صور ومقاطع فيديو يمكن توظيفها في القضية المرفوعة ضده من قبل جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، إلى جانب الأدلة الموجودة بالفعل من غزة.
وهو ما يبرر عملية استهداف مجموعة الطواقم الإعلامية في جنوب لبنان قبل أيام قليلة من تصعيد الغارات على قرى بعلبك – الهرمل الذي أعتبر الأعنف منذ بدء العدوان، وراح ضحيته 67 قتيلًا و120 جريح.
تناوب على طمس الحقيقة
على صعيد آخر، تبذل الماكينة الإعلامية العبرية مجهودًا ضخمًا في إضفاء مسحة بطولية على عمليات جيشها أمام المشاهد الإسرائيلي، إذ تمدّ الجمهور بما يشبه التغذية البصرية مستخدمًة صورًا ومشاهد مركبة وغير حقيقية عن نصر وطني مطلق.
على سبيل المثال، نقلت القناة 12 الإسرائيلية الأسبوع المنصرم أشهر مذيعيها داني كوشيمارو من استوديو القناة في “تل أبيب”، إلى الجبهة الشمالية، للترويج لسلسلة انتصارات وهمية في الحرب التي تقودها “إسرائيل” على لبنان. إذ رافق كوشيمارو قوة من جيش الاحتلال أثناء اقتحام إحدى القرى، كما شارك في تفجير مبنى يطلّ على قريتين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
بينما تفاخر كوشيمارو ببعض العبارات الفارغة مثل قوله “لقد ارتفع المنزل في الهواء” و”إزالة تهديد واحد على إسرائيل”، في مسرحية مستهلكة ومطابقة لتلك التي ظهر بها داخل مدرسة في قطاع غزة في نوفمبر العام الماضي، وزعمه العثور على قطع سلاح (بلاستيكيّة) “يتم استخدامها لتدريب أطفال غزة على القتل”. ليأخذها معه لاحقًا إلى استوديو القناة ويعرضها مرارًا على الجمهور.
في ذات السياق، يتصدر الإعلام الإسرائيلي رأس قائمة الأدوات الإيديولوجية التي تتحكم في عملية بناء الروح الجماعية للإسرائيليين، وتوجيه المشاهدين لاتخاذ مواقف قومية وطنية يغلب عليها العنف المطلق والنصر المطلق. فيما تساهم الصحافة بكافة أشكالها ومختلف توجهاتها في بناء وجهة نظر واحدة مشجعة لشن الحرب على كل أعداء “دولة إسرائيل”.
وحتى في حال عدم انسياق الخط التحريري للمؤسسة الإعلامية مع الخطاب العسكري أو الأمني، إلا أن تقديمه للجمهور دون تشكيك أو نقد لا يزال مستمرًا حتى بعد مرور عام على تعرض جهاز الأمن الإسرائيلي لأكبر عملية اختراق منذ تأسيسه.
وعلى خلاف ما تقدمه شبكات الإعلام الغربي والعالمي من دعم تطوعي لترسيخ سردية الجيش الإسرائيلي كحقيقة وحيدة لما يجري على أرض الواقع، فإن ماكينة الإعلام الإسرائيلية أشبه ما تكون بمجنّدة تترتب عليها مهمة ومسؤولية الدفاع عن أجهزة الدولة في حالات المواجهة. مما يعني ذوبان كل القيم الصحفية المهنية وزوالها.
وهذا لا يفترض بالضرورة أن الإسرائيليين مغيّبين أو مخدوعين كما يفضل بعض الأكاديميين الغربيين تفسيره بإلقاء اللوم على الإعلام الإسرائيلي ومن وراءه حكومة نتنياهو. بل يقتصر فقط على توضيح حالة النشوة والفرح التي يظهر بها بعض المستوطنين في مناسبات عدة.
لكن هذا ليس إلا جزءًا من تأطير معين ومتجانس تبنّته وسائل الإعلام الغربية منذ السابع من أكتوبر، عبر ممارسة ما يشبه الأنسنة الانتقائية من خلال إلباس المستوطنين وجنود جيش الاحتلال لباس الضحية الجريحة، وشيطنة المقاومة الفلسطينية ومن ورائها كل سكان غزة بالتغاضي عن 18 عامًا من الحصار والقتل والتنكيل، و76 عامًا من الاحتلال.