عندما أشعل محمد البوعزيزي النار في جسده ذات صباح ( يوم 17 ديسمبر/كانون ثاني 2010 ) لم يكن يتصور بأي شكل من الأشكال أن يتحول الحادث الى حدث تاريخي سيغير وجه المنطقة العربية برمتها والى الأبد ( بغض النظر عن طبيعة تقييمنا لهذا التغيير سلبا أو إيجابا ) لقد كانت غايته الإعلان عن مظلمته الشخصية واختار الأسلوب الأكثر حدة ومأساوية بما رآه يتناسب مع حجم مأساته الخاصة، ولم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها فقد سبقتها حوادث كثيرة في أنحاء متفرقة من العالم وبوسائل مختلفة ، إنه أسلوب الموت الاحتجاجي الذي انتهجه عدد من الناس ممن يقتلون أنفسهم على رؤوس الأشهاد ليلفتوا الأنظار لعدالة قضيتهم ، وكل ما يريدونه هو وضع علامة دموية على الطريق قد تدفع الآخرين الى الخروج من حالة الصمت واللامبالاة.
في معنى الموت الاحتجاجي:
بداية يصعب تصنيف هؤلاء المحتجون بموتهم بصورة قاطعة حيث يدرجهم البعض ضمن المقاومة السلبية فيما يرى كثيرون أن التضحية بالروح ليست عملا سلبيا على الإطلاق.ولكن إذا كان إهلاك النفس مجرد حماقة وبلا نتيجة توازي حجم التضحية فإنها تصبح حينها مجرد عمل انتحاري يائس أو تعبير عن إملاق روحي أو مرض عصابي لا يضيف شيئا ولا يغير وضعا .
وإذا كان عالم الاجتماعي الفرنسي إميل دوركايم في كتابه ” الانتحار ” الذي خصصه لتشريح الظاهرة من وجهة نظر اجتماعية قد تحدث عن أنماط ثلاثة أساسية للانتحار سماها الأناني والايثاري واللامعياري فقد يصعب إخضاع الموت الاحتجاجي تحت نمط منها بصورة تامة التطابق وإن كان التصنيف الأقرب هو إدراجه ضمن نمط الانتحار الايثاري حيث أن الأخير يعني الموت في سبيل تحقيق أهداف وغايات مجتمع أو جماعة معينة وحيث يتميز المنتحر في هذه الحالة باندماج اجتماعي مرتفع ولأن هؤلاء المضحون بذواتهم بكل طواعية ” يفعلون ذلك لأنهم يحسون أن ذلك هو واجبهم “.
نماذج من التاريخ:
ويحفل التاريخ بنماذج كثيرة لمثل هذه الحالات من المضحين بحياتهم من اجل قضاياهم العادلة ، ففي مطلع القرن العشرين ومع تصاعد الحركة النسوية في بريطانيا للمطالبة بالمساواة مع الرجال وبحقوقهن السياسية ( حق الانتخاب خاصة) ظهرت شخصية الشابة”إميلي دافيسون” بوصفها من رموز الموت الاحتجاجي من اجل قضية تحرير المرأة .
ففي العام 1913 ( بتاريخ 4 جوان/حزيران ) اتجهت اميلي دافيسون الى مضمار سباق الخيل الذي كان يشهد يومها سباقا كبيرا بحضور الملك جورج الخامس وأمام آلاف المشاهدين ( يقدرون بخمسمائة ألف مشاهد ) ألقت المناضلة النسوية بنفسها أمام جواد يملكه العاهل البريطاني وتحصل الحادثة التاريخية المريعة التي أسفرت عن جروح بليغة أصابتها وستؤدي الى وفاتها بعد أيام ، ولتثير الحادثة نقاشا وطنيا حادا في بريطانيا تلك الأيام ولتتحول دافيسون لاحقا الى إحدى أيقونات الحركة النسوية التي سيتم تكريم ذكراها لاحقا عبر وضع لوحة لتخليدها في قصر وستمنستر سنة 1999.
وفي 16 جوان/حزيران 1963 أقدم الكاهن البوذي “ثيش كوانغ دوك ” على حرق نفسه في قلب مدينة ” سايغون ” عاصمة فيتنام الجنوبي حينها ،وتمت العملية وسط حضور لافت من الرهبان البوذيين وتحت عدسات المصورين ، كانت عملية احتجاجية ضد المظالم التي تلحق رجال الدين البوذيين على يد حكومة الدكتاتور “نيجو ديام ” وميلها نحو المسيحية ، الكاهن البوذي الذي احترق في صمت ودون أدنى جزع أو شعور بألم الاحتراق ،شكل صرخة احتجاج ضد سلوك سلطة سياسية تتعامل بمنطق الإقصاء ضد جزء من أبناء شعبها وتتعمد إذلال مواطنيها ومنعهم من حقوقهم الأساسية.وقد اعتبر البوذيون ما قام به الراهب فعلا دينيا وتضحية من اجل شعب وأمة وقد لحقته عدة محاولات انتحار في أرجاء شتى من الفيتنام الجنوبي في حينه.
وفي 2 نوفمبر/تشرين ثاني 1965 أقدم الأمريكي نورمان موريسون على إحراق نفسه قريبا من مكاتب وزارة الدفاع احتجاجا على التدخل الأمريكي في فيتنام ومثل الحادث جزء من حراك واسع ستشهده الولايات المتحدة للمطالبة بسحب القوات وعودة الجنود الى أهاليهم.
في يناير 1969 وبقلب مدينة “براغ” عاصمة تشيكوسلوفاكيا فعلها الطالب “يان بلاخ ” وأحرق نفسه أمام العالم احتجاجا على قيام الدبابات السوفياتية بسحق الانتفاضة التي قام بها شعبه ” ربيع براغ ” ولئن بدت عملية الحرق حينها مجرد صرخة في واد حيث سحق الجيش الأحمر بلا رحمة حركة الاحتجاج التشيكية وألقي القبض على زعيمها “دوبتشك” وتم نقله الى موسكو غير أن ما حصل ستكون له مفاعيله بعد عقدين من الزمن حين تنتصر الثورة المخملية سنة 1989 بقيادة الأديب التشيكي فاتسلاف هافل الذي قال يوما وهو في ظل الاستبداد ” يمكنك أن تدوس الأزهار لكنك لن تؤخر الربيع “.
بين الموت الاحتجاجي والعمل الاستشهادي :
ما يمكن ملاحظته أن ظاهرة الموت الاحتجاجي ظلت غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية ربما باعتبارها شكلا من الانتحار المرفوض من الناحية الدينية وقد لا نجد جذورا للظاهرة قبل حادثة محمد البوعزيزي مع وجود حوادث متفرقة هنا وهناك ولكنها متى احتكمنا الى شروط تصنيف الموت الاحتجاجي لا يمكن أن تكون هذه الحوادث سوى عمليات انتحار بسبب عوامل ذاتية وخلافا لهذا تحفل الثقافة العربية الإسلامية بفكرة العمل الاستشهادي أو الموت في سبيل الله بوصفه إحدى القيم العليا في الوعي الديني للشعوب الإسلامية .
والمقصود بالعمل الاستشهادي هو هذا الفعل الطوعي والواعي للتضحية بالنفس من اجل الأهداف الوطنية والتحررية في إطار الرؤية الإسلامية الشاملة التي تعتبر الدفاع عن الأوطان واجبا إسلاميا كما تقترن فكرة العمل الاستشهادي بالتصور الإسلامي لمعنى الحياة الدنيا من حيث هي مجرد لحظة عبور نحو الحياة الحقيقية في الآخرة وحيث يكون مقام الشهيد من أعلى المقامات وأسماها. وبعيدا عن الجدالات الفقهية يمكن أن نلاحظ أن الموت الاستشهادي خلافا للموت الاحتجاجي يتميز بايجابية عالية من حيث الفاعلية والتأثير وخلق نوع من التوازن مع العدو واستخدام الجسد سلاحا في مواجهة السلاح الآخر العدواني يقول الاستشهادي محمد هزاع الغول في وصيته ( من كتائب القسام ومنفذ عملية جيلو بتاريخ 18/6/2002) ” ما أجمل أن أكون الرد لتكون عظامي شظايا تفجر الأعداء ليس حبا في القتل ولكن لنحيا كما يحيا الناس…فنحن لا نغنى أغنية الموت بل نتلو أناشيد الحياة .. ونموت لتحيى الأجيال من بعدنا”.
وإذا كانت العمليات الاستشهادية تتصدر المشهد في ظل الاحتلال والعدوان الأجنبي فإن الموت الاحتجاجي يجد موقعه في ظل الأنظمة الاستبدادية المغلقة حيث تتعطل كل وسائل التعبير والاحتجاج ضد المظالم.وخلافا للثقافة الغربية التي لا تعرف معنى العمل الاستشهادي ( بصورته الإسلامية) حيث يتم تصنيفه عملا انتحاريا وهو ما يعود ـ ربما ـ لطبيعة الفكر الغربي الذي لا يمنح أهمية تذكر لفكرة الجزاء الأخروي وهو ما يفسح المجال أمام الموت الاحتجاجي الذي نجد له جذورا في السلوك اليهودي على سبيل المثال ( حادثة قرية ” مسعدة ” التي تقول الأسطورة اليهودية أن أهلها ذبحوا أنفسهم حتى لا يقعوا في اسر الرومان سنة 73 ميلادية).
فإن الموت بوصفه شهادة هو تغلب على الخوف وتعبير عن قمة البذل والعطاء والتضحية وآلية تستخدمها الشعوب المستضعفة لتحدي أشكال العسف والعدوان ورفض أنماط الطغيان والاستعباد إنها أحد أسمى أشكال النضال التي تجعل من الموت أمراً طبيعياً بل ودافعاً يتجاوز اللاشعور، ليصبح برنامجاً محفزاً لتحدي الموت والمحتل معاً وكما قال فرانز فانون يوما”ظل الشعب الذي يقولون انه لا يفهم غير لغة القسوة، يحزم أمره الآن، على أن يعبر عن نفسه بلغة القسوة”.