خلال الأعوام الخمس الأخيرة، لم تشهد سلعة في مصر موجات من القفزات المتتالية كالتي شهدتها الأدوية، وصلت إلى الحد الذي قد يتغير سعر علبة الدواء الواحدة في اليوم أكثر من مرة، وهو ما دفع الكثير من أصحاب الصيدليات إلى تخزين كميات كبيرة من الأدوية تحسبًا لارتفاع أسعارها بما يحقق لهم مكاسب كبيرة دون جهد أو تعب.
التلاعب بصحة المواطنين بات سمة رئيسية عند أباطرة صناعة الدواء في مصر، في الوقت الذي فقدت فيه الحكومة ممثلة في وزارة الصحة دورها الرقابي رويدًا رويدًا ورضخت لضغوط أصحاب الشركات ذوي النفوذ والجاه والمال، بينما يقبع المريض الفقير في ذيل قائمة اهتمام الجميع، دافعًا وحده الثمن.
صدمة جديدة يتعرض لها المرضى من محدودي الدخل بإعلان وزارة الصحة عن موافقتها تحريك أسعار عدد من الأدوية التي تنتجها شركات قطاع الأعمال، التي يبلغ عددها على أقل تقدير 500 صنف دوائي يرمز لها في السوق بأنها “أدوية الفقراء” بنسب تتراوح بين 50 إلى 100% وهو ما يعني وضع حياة الملايين ممن لا يملكون ثمن الدواء على المحك.
40% زيادة في أسعار الدواء
أشار مصدر بوزارة قطاع الأعمال إلى أن شركات القطاع تنتج قرابة 10% من الأدوية الموجودة بالسوق المحلية، وأن الزيادات المقترحة ستشمل كل الأدوية التي تنتجها تلك الشركات التي تتسم بسعرها المنخفض نسبيًا قياسًا بالأدوية الأخرى غالية الثمن التي يحتكرها القطاع الخاص.
الخسائر التي ضربت قطاع الدواء خلال الأونة الأخيرة جعلت من زيادة أسعار الأدوية مطلبًا لنقابة الصيادلة حسبما أشار أمين عام نقابة صيادلة مصر أيمن عثمان الذي كشف أن تلك الخسائر دفعت بعض الشركات إلى “الإحجام عن إنتاج وطرح الأدوية في السوق المحلية، وكذلك إقبال الشركات الأخرى على تقليل الكميات التي تنتجها من الأدوية”.
كشفت دراسة سابقة أعدتها النقابة عن اختفاء ما يقرب من 2000 صنف دوائي من السوق خلال الفترة الماضية
أما وكيل نقابة الصيادلة مصطفى الوكيل، فطالب وزارة الصحة بإعداد دراسة شاملة للزيادة الجديدة قبل إقرارها، مشددًا على أن سوق الدواء تحتاج إلى ضوابط لتقليل الهوة بين شركات قطاع الأعمال والشركات الخاصة، داعيًا في تصريحات له إلى مراعاة المرضى من ذوي الاحتياجات الضعيفة في تلك الزيادة مع مراجعة أسعار الدواء الذي تنتجه الشركات الخاصة أيضًا.
الشركات الخاصة كانت قد تقدمت بطلبات لوزارة الصحة لتحريك أسعار 200 صنف دوائي بنسبة 40% حسبما أشار السكرتير العام لشعبة الصيدليات بالاتحاد العام للغرف التجارية في مصر، حاتم البدوي، في تصريحات صحفية له، لافتًا إلى أنه “من حق أي شركة أن تتقدم بطلب لرفع أسعار بعض أصنافها، وهناك لجنة تسعير تابعة للإدارة المركزية للشؤون الصيدلية في وزارة الصحة، هي المعنية بدراسة الطلب من حيث تكاليف الإنتاج وحاجة السوق للمنتج وهكذا”.
وزيرة الصحة المصرية
تعطيش السوق
الإستراتيجية التقليدية المتبعة من شركات الأدوية لتمرير الزيادات في الأسعار تتمحور في تعطيش السوق المحلية من بعض الأصناف الدوائية، ومن ثم يكثر الإقبال الذي عليها فيتقبل المواطن رفع السعر في ظل حاجته الضرورية لا سيما أن هناك بعض الأدوية ليس لها بديل خاصة في الأمراض المزمنة.
في دراسة سابقة أعدتها النقابة كشفت عن اختفاء ما يقرب من 2000 صنف دوائي من السوق خلال الفترة الماضية، مرجعة ذلك إلى ارتفاع سعر الدولار أمام العملة المحلية ما تسبب في زيادة كلفة المواد الخام المستوردة ومن ثم تحريك الأسعار بالأسواق المحلية.
نشطت صناعة “بير السلم” والأدوية منتهية الصلاحية، ما رفع من بورصة حجم السوق السوداء للأدوية التي بلغت قرابة 525 مليون دولار بما يمثل 15% من حجم سوق الدواء الإجمالي الذي يصل إلى نحو 3.5 مليار دولار
فاطمة عمر، صيدلانية تقول لـ “نون بوست” إن شركات الأدوية حين تقرر زيادة سعر دواء معين تقوم بحجبه عن السوق كذلك حجب نسبي للأنواع البديلة، ومن ثم حين يتردد المرضى على الصيدليات للسؤال عن هذا النوع من الدواء او بدائله فلم يجدوا فيطلبوا من الصيدلي أن يوفر لهم علبة أو علبتين منه بأي ثمن.
وهنا يكون الوقت المناسب للحديث عن طرح الدواء بسعر جديد، ربما تغير الشركات العلبة الخارجية وتجري بعض التعديلات على طريقة التغليف والحفظ بحيث يبدوا للمستخدم أن هذا الدواء إما جديد أو معدل، ومن ثم لا يعترض على ارتفاع سعره، وهكذا يقع المريض ضحية رغبة أباطرة الشركات في الثراء السريع ولو على حساب محدودي الدخل
زحام على صيديليات التأمين الصحي في مصر
40 مليون مريض في معاناة
الملاحظ أنه خلال السنوات الأخيرة كانت الزيادات الكبيرة في الأدوية التي تتعلق بالأمراض المزمنة، وهي الأمراض الأكثر انتشارا بين المصريين، فهناك ما يقرب من 11 مليون مريض سكري، 2.6مليون مريض فشل كلوي، وما يزيد عن 20 مليون مريض قلب.
الدكتور علي عبدالحميد، أستاذ الأمراض الباطنة بجامعة طنطا، أشار إلى أن هذه الزيادات في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون “كارثية” كونها لا تتناسب مطلقا مع قدرات وإمكانيات غالبية المرضى وهم من الفقراء ومحدودي الدخل وهو ما يتلمسه بشكل يومي داخل عيادته.
وأضاف في حديثه لـ “نون بوست” أن كثير من مرضاه يطلبون منه كتابة أدوية رخيصة الثمن لعدم قدرتهم على دفع ذات الأسعار العالية، بل إن بعضهم يذهب للصيدلي يطلب منه جزءًا من الدواء وليس الدواء كاملا وهو ما يعني تقليل معدل الجرعات بما يؤثر سلبًا على معدلات الشفاء، هذا بخلاف لجوء آخرين إلى الوسائل البديلة وهنا الكارثة الأكبر.
المصادر البديلة.. الموت البطيئ
ارتفاع أسعار الدواء بما يتجاوز قدرات المرضى الفقراء دفع كثيرا منهم إلى البحث عن بديل، وفي تقرير سابق لـ “نون بوست” كشف عن ظاهرة جديدة بدأت تنتشر في الشارع المصري تتعلق بأسواق مخصصة لبيع الأدوية رخيصة الثمن، فوق الأرصفة وفي الشوارع.
وتنتشر هذه الظاهرة في عدد من الأسواق المصرية الشهيرة في مناطق السيدة عائشة بالقاهرة وشبرا الخيمة بالقليوبية وسوق إمبابة بالجيزة، حيث يفترش الباعة علب الدواء على الأرض بأسعار رخيصة جدا مقارنة بما هي عليه في الصيدليات، الملفت للنظر في هذه المسألة هو الإقبال الكبير عليها، وهو ناقوس الخطر الذي يدقه الدكتور مجدي عناني، صاحب إحدى الصيدليات.
عناني في حديثه كشف أن مصر بها مئات المصانع غير القانونية التي تقوم بصناعة الدواء والتي يطلق عليها في اللغة الدارجة “مصانع بير السلم” إذ تعتمد على إنتاج أدوية مقلدة للأدوية الأصلية أو استيراد أدوية صينية وبيعها على أنها أدوية صادرة عن شركات معروفة، هذا بخلاف الأدوية منتهية الصلاحية، كل هذا يضع حياة المريض في خطر.
خبراء الاقتصاد بدورهم حذروا من أن الارتفاع الجنوني في أسعار الأدوية ربما يجعل من الأدوية المغشوشة والمقلدة سوقا واعدًا خلال الفترة القادمة، هذا في الوقت الذي ترفع الحكومة يديها عن هذا الخطر مكتفية ببيانات وشعارات تنفي من خلالها مسئوليتها عن هذا التهديد الذي يضع مستقبل الملايين على المحك.
وزير الصحة يخضع دوما لمافيا احتكار الدواء في مصر بدافع تعرضه للخسارة بسبب زيادة سعر الدولار.. رئيس شعبة تجار ومصنعى الأدوية بالغرفة التجارية بالإسكندرية
تواطؤ بين الحكومة وشركات الأدوية
بينما تتصاعد آنات المرضى من محدودي الدخل جرًاء الزيادات المتتالية في أسعار الدواء سعت كل من شركات الأدوية ووزارة الصحة إلى تبرئة ساحتيهما من هذه الجريمة على حد وصف أحد المرضى، حيث ألقى أصحاب الشركات الكرة في ملعب الأزمة الاقتصادية الطاحنة وارتفاع أسعار المواد الخام لصناعة الأدوية والتي يأتي معظمها من الخارج بالدولار، فيما تكتفي الوزارة بالبيانات التي تعفيها من المسئولية دون تحديد صاحبها.
سمير صديق، رئيس شعبة تجار ومصنعى الأدوية بالغرفة التجارية بالإسكندرية، حمًل كل من الوزارة وأباطرة صناعة الدواء مسئولية ارتفاع الأسعار، لافتًا إلى أن “وزير الصحة يخضع دوما لمافيا احتكار الدواء في مصر بدافع تعرضه للخسارة بسبب زيادة سعر الدولار، وعليه صدر قرار بزيادة سعر الدواء بنسبة 20% على شرط توفير الدواء بالأسواق طبقًا لقراري زيادة الأدوية في مايو 2016 ويناير 2017”
بورصة حجم السوق السوداء للأدوية في مصر بلغت قرابة 525 مليون دولار بما يمثل 15% من حجم سوق الدواء الإجمالي الذي يصل إلى نحو 3.5 مليار دولار.
أما محمود فؤاد محمود مدير المركز المصري للحق في الدواء، فطالب بإنشاء هيئة للدواء، مثل كل دول العالم، دورها تسعير الدواء وتسجيله ومراقبته حتى بعد بيعه للمواطن، مضيفا خلال مداخلة تلفزيونية له ” أنه في حالة وجود هيئة للدواء والاهتمام بتسعيره سنجد حوالي 9000 صنف سعره سيقل للنصف”، مشددا على أن “تسعير الدواء في مصر غير عادل بالمرة، وأنه هناك أصناف بـ100 جنيه ومثيله بـ10 جنيهات”
فيما حمًل سكرتير شعبة الأدوية بغرفة القاهرة التجارية، وزارة الصحة المسؤولية الكاملة، كونها تتعمد عدم فصل ملف الدواء عن الوزارة، فمن يتولى هذه الحقيبة يكون دائمًا طبيبًا ويستمد قوته من هذا الملف، وفق قوله، موضحًا أن “شعارات حماية المواطنين التي تتشدق بها وزارة الصحة من تغول شركات الدواء باتت وهمية”.
قلق بين المرضى جرًاء ارتفاع أسعار الدواء مجددًا
مخاطر صحية
الدواء سلعة ضرورية لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها، فقد يتحمل الجوع والعطش لكن في حالة مرضه من الصعب أن يستغنى عن العقاقير الدوائية، ومن ثم فإن تحريك أسعار الأدوية لا شك أنه سيلقي بظلاله على فقراء المرضى ممن لا يجدون ثمن العلاج، سواء فيما يتعلق بعدم القدرة على الشراء أو الذهاب للمصادر البديلة التي في جوهرها ليست أكثر من سموم على الأرض.
الأزمة الاقتصادية التي تطحن الفقراء الذين بلغت أعدادهم قرابة 30 مليون مصري من جانب والقفزات الجنونية في أسعار الدواء من جانب آخر، نشطت صناعة “بير السلم” والأدوية منتهية الصلاحية، وهو ما رفع من بورصة حجم السوق السوداء للأدوية التي بلغت قرابة 525 مليون دولار بما يمثل 15% من حجم سوق الدواء الإجمالي الذي يصل إلى نحو 3.5 مليار دولار.
يذكر أنه في عام 1992 نشر معهد الأمراض المعدية بالولايات المتحدة الأمريكية بحثًا عن النتائج المترتبة على تناول العقاقير منتهية الصلاحية أو البديلة التي يلجأ إليها غير القادرين على شراء الدواء الأصلي، حيث كشف البحث أن تعاطي هذه الأدوية يصيب المريض بمخاطر صحية كارثية في مقدمتها أنها تقوم بتكسير كرات الدم البيضاء، وبالتالي تحطم جهاز المناعة بشكل كبير، وذلك بعد تدمير الصوديوم والبوتاسيوم فى خلايا الجسم، مما يؤدى لسرعة ضربات القلب فتحدث الوفاة.