قبل شهر من انعقاده، نفذت إيران ضربة مزدوجة ضد مؤتمر وارسو المناهض لها والقائمين عليه، واستدعت اليوم القائم بأعمال الشؤون البولندية فويسيتش أونولت، احتجاجًا على مشاركة بلاده الولايات المتحدة في تنظيم مؤتمر عالمي في وارسو يومي 13 و14 من فبراير/شباط، لبحث النفوذ الإيراني في المنطقة، في أول رد فعل رسمي لطهران على المؤتمر، بعد أيام من السخرية والتقليل والمعايرة على ما قدمته إيران لبولندا طوال التاريخ، لا سيما الحرب العالمية الثانية وحمايتها لها من نيران النازية.
بجانب الاستدعاء الدبلوماسي، اتخذت وزارة الثقافة الإيرانية قرارًا بتعليق أسبوع الأفلام البولندية الذي كان سينعقد في طهران أواخر يناير الحاليّ، ورهنت الموافقه عليه، باستعادة توازن “وارسو” واعتدالها في التعامل وانتهاج أسلوب مناسب تجاه طهران، بحسب تعبير الوزارة في بيان رسمي لها.
حرب نفسية متبادلة
رسميًا يناقش المؤتمر الذي تطرق لبعض تفاصيله وزير الخارجية الأمريكي، خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، كما أشار إليه في بيان رسمي لوزارته، تعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط وسبل مكافحة الإرهاب والتطرف وتطوير الصواريخ وانتشارها والتجارة البحرية والأمن والتهديدات التي تشكلها المجموعات التي تعمل بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، بينما المتتبع لتفاصيل المؤتمر المزعوم سيعرف جيدًا أن الهدف منه، تقويض إيران وشن حرب نفسية جديدة عليها وإرباك حساباتها، في ظل حشده دول خارج مربع الصراع من آسيا وإفريقيا وجميع أنحاء العالم، ولن يقتصر على الولايات المتحدة وأوروبا والدول المعادية لإيران بالمنطقة.
زار بومبيو 4 دول عربية خلال زيارته للشرق الأوسط، وتنقل بين مصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكان واضحًا أن الجولة عنوانها طمأنة الحلفاء الكبار بالمنطقة عن مرحلة ما بعد انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ من سوريا
ملامح الحرب النفسية تبدو انعاكساتها واضحة من سيل التعليقات على المؤتمر، من قيادات رفيعة بإيران على رأسهم وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الذي يجيد تحويل خط سير المعركة إلى صدور خصومه، ووجه لهم الإهانات على حسابه بموقع تويتر قائلاً: “الذين حضروا العرض الأمريكي الأخير المناهض لإيران إما ماتوا أو تعرضوا للإهانة أو تم تهميشهم، وإيران أقوى من أي وقت مضى، ولا يمكن للحكومة البولندية أن تغسل العار، ففي حين أنقذت إيران البولنديين في الحرب العالمية الثانية، فإنها تستضيف الآن سيركًا يائسًا ضدها”.
https://twitter.com/JZarif/status/1083795864781549568
جواد ظريف يسخر من المشاركين بالمؤتمر، ويذكر بولندا بوقفة إيران معها
زار بومبيو 4 دول عربية خلال زيارته للشرق الأوسط، وتنقل بين مصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكان واضحًا أن الجولة عنوانها طمأنة الحلفاء الكبار بالمنطقة عن مرحلة ما بعد انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ من سوريا، وتأثير ذلك على تقوية نفوذ إيران، وحرص وزير الخارجية الأمريكي على توضيح كل القضايا للرأي العام العربي، في خطاب ألقاه بالقاهرة وضمن مجمل حديثه، أشار إلى حملة أمريكية جديدة لوقف النفوذ والإجراءات الإيرانية، حتى لا تستثمر خروج الجيش الأمريكي من سوريا لصالحها، متعهدًا باستخدام الدبلوماسية بالتعاون مع شركائهم لطرد إيران من سوريا، وليس فقط تحجيم نفوذها.
لماذا بولندا وليس واشنطن؟
أسئلة كثيرة دارت عن السبب الذي يجعل أمريكا تحشد لمثل هذا المؤتمر في دولة صغيرة بحجم بولندا وليس الولايات المتحدة نفسها أو حتى الحلفاء الكبار لها سواء في أوروبا أم بلدان الشرق الأوسط المعنية بالأزمة، لكن يبدو أن أمريكا تقدم دعمًا سياسيًا مصحوبًا برغبة في تمكين الحكومات اليمينية بالعالم وخاصة في أوروبا، وهو ما ينطبق على الحكومة البولندية اليمينية الشعبية، لذا هي الأقرب الآن إلى ترامب والأفضل بالنسبة إليه من سائر القوى التقليدية الكبرى في أوروبا التي تتعامل معه من منطلق ندية ومعارضة، لا يسمح بهما القاموس الترامبي، وهو سبب ضجره وتغريداته المتلاحقة عن حنقه بشكل واضح من سياسات فرنسا وألمانيا التي تميل إليهما بريطانيا في الكثير من القضايا، بحكم التقارب السياسي والفكري والجغرافي.
أكثر ما يدعم هذه الرؤية، وسعي واشطن لخلق حلفاء من أوروبا ينافسون كبار القدامي، تحركات أمريكا لتخفيض التصنيف الدبلوماسي لبعثة الاتحاد الأوروبي لديها الأسبوع الماضي دون إبلاغ الاتحاد، ما مثل إهانة صادمة له، في وقت أطلق فيه المتحدث باسم وزارة الخارجية البولندية، تصريحات أيد فيها من جديد، سعي ترامب لإنهاء البرنامج النووي الإيراني وانسحابه الشهير من الاتفاق الأوروبي الأمريكي الذي أبرمه سلفه الرئيس أوباما وقادة أوروبا لإعادة إيران إلى العالم من خلال إجراءات تشجعها على الانفتاح لا التقوقع والسعي نحو العداء.
العلاقة الجديدة مع أمريكا، والموافقة بالطبع على دور منحته ظروف تاريخية لن تعوض، في ظل الخلاف المشتعل بين القوى الأوروبية الكبرى وترامب، عبر عنها وزير الخارجية البولندي جاسيك تشابوتوفيتش، عبر التقليل من رد الفعل المندفع من طهران تجاه بلاده
إشارة أخرى، تؤكد أن بولندا فرس الرهان لترامب في المستقبل، طلبها من الولايات المتحدة، إنشاء قاعدة عسكرية دائمة كحصن ضد روسيا، وعدم الاكتفاء بـ900 جندي، تتناوب أمريكا مع حلف الناتو على الدفع بهم لتأكيد الحماية الغربية للبلاد من أي مطمع روسي، وهي الإشارة التي تقبلها الرئيس الأمريكي بترحاب بالغ، وفي لغة مكايدة واضحة، أمر بمراجعة تكاليف القوات الأمريكية المتمركزة في ألمانيا لنقلها إلى بولندا، ليحول اهتمامه إلى دول أوروبا الشرقية.
العلاقة الجديدة مع أمريكا، والموافقة بالطبع على دور منحته ظروف تاريخية لن تعوض، في ظل الخلاف المشتعل بين القوى الأوروبية الكبرى وترامب، عبر عنها وزير الخارجية البولندي جاسيك تشابوتوفيتش، عبر التقليل من رد الفعل المندفع من طهران تجاه بلاده، واستدعاء القائم بالأعمال لديها، وتعليق أسبوع الأفلام البولندية، وبرر مسعى بلاده من إيران، مذكرًا أنهم أيدوا جهود الاتحاد الأوروبي للحفاظ على الاتفاق النووي، ولكنه لم يمنع إيران مما أسماها الأنشطة التي تزعزع استقرار المنطقة، وكشف في الوقت نفسه عن دعوة بولندا لـ70 دولة للمشاركة في المؤتمر، بما في ذلك جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي.
علاقات تاريخية بين إيران وبولندا
ربما تكون السطور السابقة كفيلة بتوضيح لماذا تسير بولندا خلف ترامب في إعلان العداء لإيران، ولكن اللافت تضحية وارسو بعلاقات تاريخية شديدة المتانة مع إيران، بدأت عام 1474، بين الملك البولندي كازيمير جاجيلونيان، وشاه إيران أوزون حسن، مرورًا بالتنسيق المشترك في معارضة الإمبراطورية العثمانية، وكانت تشكل قوة عظمى آنذاك، تهدد بلاد فارس عدوها اللدود، بجانب دول جنوب شرق أوروبا.
تجاوزت بولندا وإيران الاختلافات السياسية والاجتماعية من أجل تقويض نفوذ الدولة العثمانية، وخاصة في القرن السادس عشر الذي شهد تهديدًا متجددًا من جانب تركيا، ونجاحها في سلسلة من الغزوات بآسيا وإفريقيا في عهد السلطان سليمان الأول، فأرسل الفرس في عام 1516، مبعوثًا إلى بولندا وهو بيتروس دي مونتي ليبانو الراهب الماروني، وحمل رسائل من الشاه موجهة إلى الملوك الأوروبيين، ويقترح فيها صياغة معاهدات مناهضة لتركيا.
خصصت طهران نحو 2806 قبرًا بولنديًا، منهم 650 مقبرة عسكرية، يخلدون علاقة تاريخية بين بولندا وإيران، قضى عليها ترامب بمؤتمره المعادي لطهران
في عام 1927، عادت العلاقات بين البلدين لقوتها القديمة، إثر استقلال بولندا، وأسفرت محاولات التقارب عن إبرام معاهدة للصداقة بين البلدين، تبعها إنشاء مركزي بلاد فارس في وارسو، وبولندا في طهران، وانعسكت قوة العلاقات بينهما من جديد، خلال فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، فاستضافت طهران نحو 116 ألف لاجئ من الاتحاد السوفيتي عام 1942، نصفهم على الأقل كانوا من بولندا.
وبينما عبر جنود الجيش البولندي من إيران إلى العراق وفلسطين ليستقروا في إيطاليا خلال الأزمة، رفض المدنيون البولنديون الخروج من إيران، وقدروا آنذاك بنحو 25 ألف شخص، منهم 13 ألف طفل، جلهم من الأيتام، استضافتهم مدينة أصفهان الإيرانية، وأنشأت لهم نحو 20 مدرسة داخلية، لذا فضل بعضهم العيش فيها حتى انقضاء أجله، بسبب العلاقة الجيدة التي وجدوها في المنفى، في الحياة والممات، حيث خصصت طهران نحو 2806 قبرًا بولنديًا، منهم 650 مقبرة عسكرية، يخلدون علاقة تاريخية بين بولندا وإيران، قضى عليها ترامب بمؤتمره المعادي لطهران.