ترجمة وتحرير نون بوست
اتسم الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، يوم الخميس، في الجامعة الأمريكية في القاهرة بالكذب والنفاق والسخف، إذ أشار إلى مجموعة من الملوك والمستبدين، الذين يمثلون حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط حيث تلتزم الإمبريالية الأمريكية بتصعيد الحرب، وخاصة ضد إيران. كما أصر بومبيو على أنه رغم إعلان دونالد ترامب في 19 كانون الأول/ ديسمبر عن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا، إلا أنه لن يكون هناك “تغيير في المهمة”.
أضاف بومبيو أن “الولايات المتحدة ستستمر في شن الغارات الجوية في المنطقة طالما أن هناك أطرافا مستهدفة. كما ستواصل العمل مع شركائها في الائتلاف لهزيمة تنظيم الدولة وتعقّب الإرهابيين الذين يبحثون عن ملاذ آمن في كل من ليبيا واليمن”. إلى جانب ذلك، تعهد بومبيو بأن الولايات المتحدة ستواصل تدخلها في سوريا “لطرد جميع الإيرانيين” من البلاد، وقدم برنامجا صارما يهدف لتغيير النظام في كل من دمشق وطهران.
في إشارة إلى أولويات الإمبريالية الأمريكية في المنطقة، تطرق بومبيو إلى ذكر إيران 25 مرة ضمن خطابه، بينما ذكر ما لا يتجاوز 12 إشارة عن “الإرهاب”. وقد وُصف خطاب بومبيو عالميًا بأنه خطاب “أساسي”، إذ كان صريحا وخبيثًا مثله تماما. وحمل هذا الخطاب عنوان “قوة من أجل الخير: أميركا التي أعيد إحياؤها في الشرق الأوسط”، الذي يمثل احتفالا علنيا بمرور عقود على التدخلات العسكرية الأمريكية، وعمليات الاحتلال والتفجيرات التي أهلكت مجتمعات بأكملها.
من خلال هذا الخطاب، ينوب بومبيو واشنطن في تعزيز مبدأ “الخير” في الشرق الأوسط، مشيراً في ملاحظاته الافتتاحية إلى أن زيارته لمصر كانت “ذات مغزى خاص بالنسبة له كمسيحي من الكنيسة الإنجيلية”. كما شارك جمهوره أنه “يحتفظ في مكتبه بالكتاب المقدس مفتوحا على طاولة المكتب ليذكره بالله وكلمته وبالحقيقة”. وواصل كلامه بإصرار قائلا: “لأنني رجل ذو خلفية عسكرية، سأكون صريحًا ومباشرًا اليوم: إن الولايات المتحدة هي قوة للخير في الشرق الأوسط”.
مع أخذ هذه الصفات الذاتية معًا بعين الاعتبار، بدا وكأن بومبيو قد خط ملاحظاته حسب آراء المسلمين التي تفيد بأن الولايات المتحدة هي قائدة “الحملات الصليبية” في الشرق الأوسط. وحتى أمام جمهور متكون من موظفين مختارين بعناية، ورجال الأعمال، وأطراف النظام الديكتاتوري المصري، لم يحظ العرض الوهمي لبومبيو بالتصفيق إلا مرة واحدة، عندما شكر الدكتاتور المصري عبد الفتاح السيسي على “شجاعته”. وفي أفضل الأحوال، يمكن وصف استجابة الجمهور بأنها باردة نسبيا.
في الحقيقة، يتناقض هذا الخطاب، الذي يصف الولايات المتحدة بأنها “قوة للخير”، مع الواقع الذي يتمثل في ربع قرن من الحروب الأمريكية التي لا تنتهي في المنطقة، وهو أمر لم يقبله مثل هذا الجمهور. فعلى سبيل المثال، انطلقت الحرب في العراق خلال الغزو الإجرامي سنة 2003، على أساس أكاذيب تتعلق بوجود أسلحة الدمار الشامل. وقد أودت هذه الحرب بحياة أكثر من مليون شخص، وأغرقت المجتمع في حالة من الفوضى بسبب الانقسامات الطائفية، وسببت مذابح في الفلوجة وبعض المدن الأخرى، وفضيحة التعذيب المهين في سجن أبو غريب.
أما في سوريا، فقد تسببت محاولة الولايات المتحدة وحلفائها لتغيير النظام من خلال التمرد الذي نظمته وكالة الاستخبارات المركزية من قبل الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة، في قتل مئات الآلاف من الأشخاص وتحويل ملايين آخرين إلى لاجئين. من جهة أخرى، تركت الحرب بين الولايات المتحدة ودول حلف الناتو التي تهدف إلى تغيير النظام في ليبيا، البلاد في حالة من الفوضى، مع استمرار القتال بين الميليشيات المتناحرة، وفي ظل حكومة غير فعالة وجحيم على الأرض يعيشه المهاجرون المحاصرون بين السجون وأسواق العبيد.
في هذه الأثناء في اليمن، يواصل البنتاغون تسليح الحرب الشبيهة بالإبادة الجماعية التي تقودها السعودية، والتي أودت بحياة أكثر من 60 ألف شخص، ودفعت 20 مليون شخص إلى أقصى مستويات المجاعة، فيما وصفته الأمم المتحدة بأنه أسوأ كارثة إنسانية في العالم. لكن أن توصف مثل هذه المذبحة والمعاناة الجماعية بأنها “قوة للخير” لهو عمل دنيء حقا.
مثّل هذا الخطاب محاولة فظيعة أقدم عليها بومبيو ليخلق تناقضا مع الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، قبل عشر سنوات من ذات المنبر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ولم يذكر بومبيو الرئيس السابق بالاسم بل أشار إليه فقط “بالأمريكي الآخر الذي وقف أمامكم” سنة 2009. كما انتقده بسبب اعتذاراته عن الجرائم التي ارتكبتها الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط. وادّعى بومبيو أن هذه الرسالة التي قدمها أوباما قد جعلت الولايات المتحدة تتسم “بالجبن وتفتقر للثقة” مما “قوّض نفوذها”. في الواقع، يتشابه الخطاب الذي ألقاه بومبيو هذا الأسبوع والخطاب الذي ألقاه أوباما قبل عشر سنوات في عديد النقاط. وكما ذكر موقع “وورلد سوشيليست واب سايت” في تلك الفترة، فقد كان أوباما وخطابه مجرد وسيلة لتقديم الإمبريالية في وجه جديد.
فعلى الرغم من أن أوباما أعرب عن دعمه “للديمقراطية” و”حقوق الإنسان”، إلا أنه لم يتحدث مطلقا عن الظروف التي كانت تمر بها مصر تحت حكم الدكتاتور المدعوم من قبل الولايات المتحدة، حسني مبارك، أو عن المملكة العربية السعودية التي كان قد زارها لتوه والتي تخضع لحكم بيت آل سعود الاستبدادي. لقد دافع أوباما عن حروب الولايات المتحدة الدائرة في العراق وأفغانستان ولم ينبس ببنت شفة بشأن المجزرة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة.
ذكر موقع “وورلد سوشاليست ويب سايت” أن “الخطاب الغامض والمنمق، والثناء اللفظي على الثقافة الإسلامية والمساواة في الحقوق بين الأمم، يمثل تعديلاً للهجة المستخدمة من أجل إخفاء سياسة الإمبريالية الأمريكية، وليس تغييرا جوهريا”. وأضاف الموقع أن “أوباما لم يقدم اقتراحا واحدا محددا لإيجاد حل لمظالم الشعوب المضطهدة في الشرق الأوسط. ويعود السبب في ذلك إلى أن المصدر الأساسي لهذا الاضطهاد هو نظام الربح وهيمنة الإمبريالية على العالم، حيث تعتبر الإمبريالية الأمريكية أكثرها قسوة”.
في المقابل، تخلى بومبيو عن الخطاب المنمق في الوقت الذي تتبع فيه واشنطن سياسة عدوانية عارية ضد إيران وتشيطنها. لقد تفاخر بومبيو بتخلي ترامب عن الاتفاق النووي الإيراني والعقوبات الاقتصادية المتصاعدة باستمرار التي فُرضت على البلاد وهي عقوبة تشبه عمل حرب. كما تعهد بومبيو بأن العقوبات الأمريكية “لن تكون سوى أشد قسوة إلى أن تبدأ إيران في التصرف كدولة عادية”. من جهته، رد وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، على تويتر حيث كتب: “في اليوم الذي تُقلد فيه إيران عملاء الولايات المتحدة كي تصبح دولة “عادية” سيكون اليوم الذي يتجمد فيه الجحيم. من الأفضل للولايات المتحدة أن تتجاوز مسألة خسارة إيران”.
مع ملاحظة أن أوباما كان قد أعلن عن أن العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط تحتاج إلى “بداية جديدة”، أصر بومبيو على أنه مع صعود ترامب فقط أصبحت “البداية الجديدة الحقيقية” ممكنة. كدليل على ذلك، أشار بومبيو إلى الهجوميْن الصاروخييْن الأمركييْن على سوريا، مؤكدا أن واشنطن “مستعدة للقيام بذلك مجددا”. وقد استشهد بالضربات الجوية التي استهدفت الموصل في العراق والرقة في سوريا والعلاقات غير المقيدة مع المماليك الدكتاتورية في الخليج الفارسي ونظام الدولة البوليسي للسيسي في مصر.
في السياق ذاته، صرح بومبيو أن “الأخبار السارة تتمثل في أن عصر الخزي الذي تسببه الولايات المتحدة لنفسها قد ولّى. بالنسبة لأولئك الذين يتضايقون من استخدام القوة الأمريكية، تذكروا الآتي: أمريكا لطالما كانت، وستظل دائما، قوة مُحررة وليست قوة احتلال. نحن لم نحلم مطلقا بالهيمنة على الشرق الأوسط”.
بطريقة ما، كتم المُنصتون لبومبيو ضحكاتهم. لقد مثلت سيطرة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط وثروته النفطية حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأمريكية لأكثر من 70 سنة. ولطالما كانت الإمبريالية الأمريكية تخفي مصالحها الضارة تحت غطاء أسطورة “التحرير”. وكما كتب ليون تروتسكي ساخرا في سنة 1924، “أمريكا دائما ما تحرر أحدا. هذه هي وظيفتها”.
من جانبه، وصل الأمر بوزير الخارجية الأمريكي إلى حد التباهي بالدور الذي يلعبه البنتاغون في مذبحة الشعب اليمني، معلنا عن أنه “في اليمن، ساعدنا شركائنا في الائتلاف عندما بادروا بمنع التوسع الإيراني”. لقد كانت الضربة الرئيسية التي أراد توجيهها من خطابه تتمثل في الدعوة إلى إقامة ائتلاف معاد لإيران الذي أشار إليه على أنه تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي الذي يضم أساسا المماليك النفطية السنية، والدكتاتورية المصرية، وإسرائيل.
لهذه الغاية، أشاد بومبيو بنظام السيسي، قائد الجيش السابق الذي وصل إلى السلطة من خلال انقلاب ضد أول رئيس مصري مُنتخب، محمد مرسي، الذي شهد على مذبحة راح ضحيتها حوالي 1600 من أتباعه والسجن لاحقا لما يقدر بنحو 60 ألف مصري لأسباب سياسية في سجون يعتبر فيها التعذيب روتينيا. وقد قدّم بومبيو نظام السيسي على أنه منارة للتسامح والحرية في الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي تقبّل فيه السيسي بحماس حرب واشنطن على الإرهاب، واصفا جميع معارضيها بالإرهابيين، يبدو من غير الواضح إن كانت القاهرة متلهفة للانخراط في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على إيران.
لم يقدم خطاب بومبيو سوى إلى التأكيد على الدور الكارثي المتواصل الذي تلعبه الإمبريالية الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط والتهديد من أن حربا جديدة وأكثر دموية يتم تحضيرها في إطار الهيمنة الأمريكية على المنطقة.
المصدر: وورلد سوشاليست ويب سايت