قبل 8 سنوات من الآن، عشية الـ14 من شهر يناير/كانون الثاني 2011، نقلت وسائل إعلام عربية ودولية عن مصادرها الخاص في تونس وجود حركة غريبة في محيط مطار قرطاج الدولي بالتزامن مع ارتفاع حدة المظاهرات الشعبية في البلاد، ليتأكد بعد ذلك هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وشغور منصب الرئاسة في تونس وبداية تزعزع نظام ظل جاثما على الصدور، كاتمًا على الأنفاس لعقود عدة.
يومها امتزجت الدموع والدماء، وعلت الأصوات هاتفة “إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”، تحقق للتونسيين في ذلك اليوم ما أرادوا فقد أسقطوا النظام وأشعلوا فتيل الثورات العربية التي نسمع صداها اليوم في السودان بعد أن مرت بدول عدة، وبدأوا في بناء دولتهم التي يحلمون بها منذ زمن.
مجتمع مدني فاعل
“إن تم تغطية نظام الحكم الديكتاتوري في تونس بشعارات الديمقراطية الواهية وبأبواق الإعلام المدجن لخداع العالم لسنوات عدة، فإن سراديب وزارة الداخلية تشهد على كم العنف والعذاب الذي كان يعيشه سجناء الرأي في تونس”، تقول التونسية صفاء الدريدي.
وتضيف الدريدي في حديثها لنون بوست “كانت تونس من أشد الدول ديكتاتورية في العالم العربي، فقد مُنعت فيها كل أنواع الحريات الدينية والسياسية والنقابية وغيرها، ورغم كل هذا فجيل جديد كان قادرًا على الإطاحة بالديكتاتور الذي جثم على قلوب التونسيين لسنوات، واستطاع أن يثور في وجه الظلم والطغيان في البلاد ونقل هذه الثورة لكل الدول في العالم العربي”.
تصدرت تونس الدول العربية في مؤشر الديمقراطية، حسب أحدث تصنيف للديمقراطية في العالم
“نعم يحق لنا أن نفخر لأننا ببساطة رفعنا رؤوسنا عاليًا يوم طأطأ كل العالم رأسه، يحق لنا أن نفخر لأننا وضعنا بصمة في تاريخ الدول العظمى، فبعد سنوات من الثورة ورغم كل شيء يحق لنا أن نفخر لأن تونس لم تصبح حمام دم كغيرها بل أنقذها أبناؤها مرارًا من الفتن التي كانت تنتظرها”، وفق صفاء.
ليس هذا فقط الذي يدعو الفتاة التونسية للافتخار، بل أيضًا، صناعتهم لمجتمع مدني حقيقي، وتقول في هذا الشأن: “يحق لنا أن نفخر لأننا قمنا بحماية ثورتنا وما زلنا نحميها واخترنا الحرية على كل رفاهيات الحياة، يحق لنا أن نفخر لأننا صنعنا مجتمعًا مدنيًا حقيقيًا يوجه ويحاسب ويتظاهر وينقد ويُصلح”.
أهمية المجتمع المدني في تونس بعد الثورة، أشار إليها أيضًا الشاب التونسي سعيد عطية، ففي حديثه لنون بوست فقال: “فخر لنا أن نبني مجتمعًا مدنيًا يلعب دورًا كبيرًا في البلاد من خلال ممارسة دور الرقابة على الحياة السياسية وحتى على الإدارات والمؤسسات”.
بدورها تقول شذى الحاج مبارك لنون بوست: “ثورة الحرية والكرامة ستبقى لحظة فارقة في تاريخ تونس وإن لم يستوعبها بعض المتشبثين برواسب نظام المخلوع، يحق للتونسيين الذين عُذبوا طيلة عقود من الزمن أن يفخروا بثورة الكرامة، يحق للتونسيين الذين كُبلوا وصُودرت حرياتهم أن يفخروا بثورة أو هي انتفاضة أخرجت خفايا الاستبداد إلى النور وكشفت النظام على حقيقته دون لبس”.
وتضيف “الثورة التونسية ستبقى شمعة مضيئة ونبراسًا يقود كل الشعوب الراغبة في التحرر من نير الاستبداد والأنظمة القمعية، وقد قاد نجاحها في التخلص من إرث الاستبداد نحو بلورة نموذج يحتذى به في تكريس الديمقراطية والتحرر من قيود حكم قبع على كرسي الحكم ومارس كل أنواع الاضطهاد”.
انتقال ديمقراطي سلس
“اتحد الشعب والتحمت الأصوات وتوحدت المطالب، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات حتى فر المخلوع”، تسترجع ملاك القاطري أحداث الثورة التي تمر بين الفينة والأخرى أمام عينيها وتأبى النسيان، تضيف “كان لا بد لسنوات الظلم أن تزول، فالسجون في عهد بن علي كانت تعج بسجناء الرأي والكلمة والمعارضين السياسيين من كل الأطياف والفئات، كما أن المئات ماتوا ولا نعلم كيف قتلوا ولا حتى أين توجد الجثث”.
“ها نحن اليوم”، تقول القاطري “نحتفل بالذكرى الثامنة لثورة تونس المجيدة ونترحم على شهداء بفضل دمائهم نعيش هذا اليوم الأغر الذي ترتفع فيه أعلام تونس عاليًا بعد أن نكست لسنوات، بفضلهم نحن اليوم نتنعم بالديمقراطية ونتنفس الحرية”، وتضيف “من حقنا أن نفتخر بثورة مكنتنا من خوض غمار الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية بكل ديمقراطية ونزاهة وشفافية، ثورة قطعت مع التزوير وتزييف الحقائق وقلب الوقائع فالشعب هو من يختار ممثليه ولا أحد سواه”.
وتابعت “كيف لا نباهي بثورة أنتجت لنا دستورًا يضمن لنا حق التظاهر والاحتجاج السلمي والتعبير بكل حرية عن غضبنا تجاه بعض الإجراءات والقوانين، من حقنا أن نحتفل بمهد الثورات العربية، ونحتفى بنجاح التجربة التي بقيت رائدة مقارنة ببقية الثورات التي لم تصمد طويلاً”.
من جهتها قالت رحاب الجبالي لنون بوست: “تونس أول بلد عربي يثور على نظام استبدادي دام 23 سنة، لا بد أن يكون في ذلك فخر واعتزاز، فيوم 14 يناير هو زمن التحول والتغيير بالنسبة إلينا، فالثورة هي نتيجة شعب وقف ضد أعمال غير إنسانية، ضد العنف والديكتاتورية من أجل استرجاع كرامته ووطنيته، إذًا لا بد من الافتخار من أجل إحداث تغيير كان من الصعب جدًا بلوغه لولا وحدة شعب من أجل مطالب موحدة من أبرزها الديمقراطية”.
وتصدرت تونس الدول العربية في مؤشر الديمقراطية، حسب أحدث تصنيف للديمقراطية في العالم الصادر عن وحدة “ذي إيكونوميست إنتليجنس”، التابعة لمجموعة “ذي إيكونوميست” البريطانية، وجاءت تونس في المرتبة الـ63 دوليًا والأولى عربيًا، وحصلت على نقاط 6.41 (من صفر إلى 10)، وهو ما وضعها في قائمة الديمقراطيات المعيبة، ثاني قوائم التصنيف.
ويستند التقرير إلى 60 مؤشرًا ترتكز أساسًا على خمس فئات رئيسية، وهي: العملية الانتخابية والتعددية، والأداء الحكومي، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية، والحريات المدنية، ويصنف أنظمة الحكم على أساس أربعة أنواع وهي: أنظمة ذات ديمقراطية كاملة وأنظمة ذات ديمقراطية معيبة وأنظمة ذات ديمقراطية هجينة وأنظمة ذات ديمقراطية استبدادية.
قوة ضغط شعبية
افتخار التونسيون بثورتهم، لا يرجع لهذه الأسباب فقط، فيحق لهم أن يفتخروا بثورتهم أيضًا لأن من خلالها أصبحوا قوة ضغط كبيرة على صناع القرار وأصبح يحق لهم التعبير عن رفضهم لقرارات يمكن أن تمس كرامتهم.
في هذا الشأن تقول صفاء الخورشاني: “الثورة التونسية وإن ما زالت تتعثر في مسارها نحو استكمال أهدافها المتمثلة في تحقيق الكرامة الوطنية من خلال تنمية حقيقية وتشغيل الشباب بالإضافة إلى تفعيل العدالة والشفافية في كل مجالات الحياة إلا أنها نجحت في توفير مناخ طيب من الديمقراطية وحرية التعبير، فأضحى المواطن قادرًا على إبداء رأيه فيما يخص المستجدات والأحداث المتعلقة بحياته اليومية أو المتعلقة بالشأن العام والعالمي”.
ويتبين هذا مثلاً من خلال الرفض الشعبي لزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى تونس في شهر نوفمبر/تشرين الأول الماضي وما أحدثه ذلك من إحراج للأمير السعودي، وهو ما يدل على بروز قوة ضغط حقيقية قادرة على إرباك أصحاب النفوذ وصناع القرار، فقد أصبح للمواطن الحر الذي يؤمن بدوره وحقه في التعبير ألف حساب، وفق صفاء.
مثلت تونس شعلة الربيع العربي ومهد الثورات التي قامت في كل من ليبيا واليمن وسورية ومصر
ترى الخورشاني أن “هذا الأمر لم يكن ليحصل لولا الإحساس العالي بالحرية والقدرة على التنديد بما يمكن أن يمس منها أو يشوهها، لذلك يحق للتونسيين أن يفتخروا بثورتهم لما منحتهم من قدرة على أن يكونوا فاعلين في المشهد العام سواء من خلال دورهم في إرساء دعائم الحكم الذاتي، فالانتخابات البلدية وما أفرزته من نتائج دليل على بدء وضوح معالم المسار الديمقراطي التشاركي أو من خلال صوتهم الذي أصبح يدوي في وجه كل من يستخف بثوابت الحرية والكرامة الوطنية”.
“بالأمس اطلعت على صور وأسماء مختفين قسريًا في مصر، عائلاتهم لا تجرؤ حتى على السؤال عن مصيرهم إحياء كانوا أم أموات، منهم من مر عليه سنوات في الاحتجاز ومنهم من مر عليه أشهر، فتذكرت فورًا كيف أن التونسي أصبح له حق الامتناع عن الكلام في التحقيق إلا بحضور محاميه وكيف أن المسجونين معروفين بالاسم وكل منهم له حق التقاضي كاملاً فقلت في نفسي لو كان هذا فقط نتيجة للثورة فنعم الثورات هي”، تقول التونسية سوسن برينيس.
وفي فبراير/شباط 2016، اعتمد البرلمان التونسي قانونًا تاريخيًا عن حق الموقوفين لدى الشرطة في الاتصال بمحام، ونتيجة لذلك، صار الموقوفون اليوم أكثر حماية من سوء معاملة الشرطة والاعترافات القسرية، فالمساعدة التي يقدمها المحامي وقدرة هذا الأخير على القيام بمجموعة الأنشطة الضرورية لإعداد الدفاع، أمران أساسيان لضمان الحق في محاكمة عادلة والحماية من سوء المعاملة، وجاء هذا القانون نتيجة ضغط كبير مورس على السلطات التونسية لإقراره.
تعبيد الطريق للشعوب العربية
“لم تحد تونس، كباقي الدول التي طالتها شرارة الربيع العربي عن مسارها، فقد حافظت على سمات الثورة وحادت بها عن محاولات التشويه التي طالتها من أطراف ودول هدفها التخريب وإفشال كل مخطط تغيير نحو الأفضل”، تقول التونسية ماجدة عرام، وتضيف “صحيح أننا ما زلنا نعاني بعض المشاكل بعد قيام ثورتنا، لكن المهم هو أننا استأصلنا الداء الخبيث، وسترشد تونس بعده طريقها نحو الإصلاح الشامل على المستويات كافة، إذا وضع الشعب أهداف ثورته نصب عينه”.
وتقول عرام في حديثها لنون بوست: “على التونسيين أن يفتخروا بثورتهم، وفاء لمن دفع روحه في سبيل محاربة الاستبداد، ولما توصل له الشعب من حرية ولو نسبيًا في التعبير والكلمة، وأكثر من ذلك فالثورة التونسية عبدت الطريق لكل الشعوب العربية التي عاشت لأمد بعيد كابوس النظام الواحد والحزب الواحد، حتى تتحرك بغية التغيير”.
وكانت الثورة في تونس شعلة الربيع العربي ومهد الثورات التي قامت في كل من ليبيا التي عانى شعبها من بطش القذافي واليمن التي عانت من عبد الله صالح سورية ومصر اللذان يعانيان إلى الآن من بطش النظام، هذه الدول العربية التي رزحت سنين تحت يد الحاكم الواحد، تقول ماجدة: “كان لا بد لبلد عربي ما أن يأخذ بزمام المبادرة، ويوقظ نزعة الإرادة والتغيير لدى شعوبها وكانت تونس هي البلد الذي أخذ بهذه الزمام”.
بعد ثورة تونس انتقلت الشرارة للعديد من الدول العربية
“كل هذا طبعًا يدعو للفخر خاصة أن بقية الشعوب لم تكن تعرف عن تونس وعما يعانيه الشعب في ظل حكم بن علي، فالصحافة كانت بلون واحد والمشهد السياسي ثابت ولا يرى للعالم سوى محاسن مزعومة لبن علي، لكن لما قامت الثورة قلبت كل شيء وأعطت للشعب التونسي المثقف والواعي الحق في اختيار مصيره، وأعطت عبرة للعالم العربي والدولي بأن الشعوب إذا قامت لا تقعد إلا بإحداث التغيير وتحقيق الحرية المنشودة”، وفق قول ماجدة.
بدوره يرى الشاب التونسي حمزة الطرابلسي أن “الثورة التونسية هي نقطة الانتقال من الجاهلية السياسية إلى نور الديمقراطية والحرية، فنجاح أو فشل الوضع العام لتونس بعد الثورة له دور أساسي في تشكيل آراء الجماعات السياسية في العالم العربي، ونجاح ثورتنا يمثل بالنسبة لهم شحنة من الإلهام وقدوة تتبع خطاها”.
ما حصل في تونس عام 2011 أعطى إشارات عديدة، منها أن الشعب التونسي واعٍ بضرورة أن يحيا بكرامة مثل الشعوب الأخرى، وأن البلاد تزخر بشباب إذا أردوا أن يغيروا لهم أن يفعلوا ذلك رغم التشكيك الذي طالهم، ومنها أيضًا تأكيد وجود تيارات فكرية عدة يمكن أن تجتمع لمصلحة تونس إذا استبعدت الصراعات بينها، كل هذه الإشارات إن اجتمعت لها أن تحقق مطالب التونسيين وترتقي بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة.