تذهب الكثير من وسائل الإعلام ومراكز الدراسات في تشخيصها للأزمة بين الدولة التركية والأكراد إلى أن الخلاف بين دولة وعرق بأكمله، وأن الحرب التي تشنها أنقرة ضد الجماعات المسلحة التي تهدد أمنها القومي تستهدف كل من ينتسب للجنس الكردي البالغ عددهم قرابة 38 مليون نسمة حول العالم.
القارئ الجيد للعلاقة بين تركيا والأقليات الكردية سواء داخل البلاد أم خارجها يرى أن هناك انفصامًا كبيرًا بين التغطية الإعلامية التي تتبناها بعض الوسائل سواء بقصد تحقيق مآرب وأجندات محددة أو بجهالة لطبيعة الوضع ميدانيًا، فالمؤشرات على أرض الواقع تقود إلى عكس ذلك تمامًا.
العداء البين التي تبديه السلطات التركية تجاه ثلة من الأكراد يقتصر على تلك الجماعات المسلحة التي تستهدف تقويض الدولة وتهدد استقرارها وأمنها وتسعى إلى تدشين دولة داخل الدولة أو على حدودها الخارجية، وهو ما يعرض حياة الملايين من الشعب التركي للخطر.
الأكراد في تركيا
تعيش النسبة الأكبر من أكراد العالم في تركيا، إذ يحتلون نصيب الأسد في قائمة الأقليات بداخلها، يزيد عددهم على 14 مليون نسمة بمعدل يصل إلى 20% من إجمالي الأتراك، منتشرين في معظم محافظات البلاد غير أنّ النسبة الكبرى منهم تعيش في الركنين الشرقي والجنوبي الشرقي من تركيا.
الأزمة بين الأكراد والدولة التركية قديمة، تعود إلى عقود مضت تحديدًا مع إعلان قيام الجمهورية التركية وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك أول رئيس لها في 1923، حيث تبنت تركيا حينها النهج القومي في سياساتها العامة ما يعني إنكار شامل للهوية الكردية وهو ما تكشفه الشعارات التي رفعت حينها على شاكلة: “أيها المواطن، تكلم التركية” و”هنيئًا لمن يقول أنا تركي”.
هذا النهج المتنكر للهوية قوبل برفض شديد من الأكراد ما تسبب في وقوع ما يقرب من 17 انتفاضة بين الحكومة والأكراد ما بين عامي 1925-1938، واستمر حتى بعد وفاة أتاتورك، ولم يشهد الموقف تحركًا فعليًا تجاه حل حقيقي للأزمة إلا مع بزوغ فجر حزب العدالة والتنمية.
مع وصول الحزب سدة الحكم اعترف بالمظلومية الكردية في أول تحرك حقيقي نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات، ولعل الخطاب الشهير لرئيس الوزراء – آنذاك – رجب طيب أردوغان في معقل الأكراد في تركيا بمدينة ديار بكر أغسطس 2005 كان البداية الحقيقية نحو تدشين مرحلة جديدة في بناء الدولة القانونية والاجتماعية على أساس المساواة.
يكفي أنه في عهد الرئيس أردوغان، نجح حزب الشعوب الديموقراطي”الكردي” في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وتخطى حاجز 10% ودخوله البرلمان
حينها اعترف أردوغان بالمشكلة الكردية لأول مرة في تاريخ الدولة، مضيفًا “وأقول لمن يسألني عن المشكلة الكردية إنها مشكلتي أنا وعليّ حلها”، خطاب وُصف بـ”التاريخي” من الأوساط الكردية التي نعتته بـ”الشجاع”، مطالبة إياه بالعمل على ترجمة هذا الكلام إلى ممارسات واقعية.
وبعد سنوات من الشد والجذب انطلقت مسيرة السلام الداخلي أو ما يعرف بـ”عملية السلام” مع بداية عام 2013، وذلك عن طريق مفاوضات غير مباشرة جرت بين الحكومة التركية وعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المسجون في جزيرة “إمرالي” ببحر مرمرة منذ عام 1999، وذلك بوساطة حزب الشعوب الديمقراطي “كردي” وبحضور ممثلين عن جهاز الاستخبارات التركي.
المسيرة اشتملت على 3 مراحل رئيسية: الأولى وقف عمليات الحزب المنظمة وانسحاب عناصره خارج الحدود التركية، الثانية: تضمنت عددًا من الخطوات الرامية لتعزيز الديمقراطية في البلاد، وصولاً إلى مرحلة مساعدة أعضاء الحزب الراغبين بالعودة الذين لم يتورطوا في جرائم ملموسة والانخراط في المجتمع، الثالثة: بعد وصول أردوغان لسدة الحكم، التي تعمل على نزع السلاح وتوسيع دائرة العمل السياسي، وكسب الحزب الحاكم تأييد الأكراد عندما عاملهم من أبناء الوطن وأعطاهم حقوقهم.
العديد من المظاهر التي جسدت حجم الاندماج بين الأكراد والأتراك خلال السنوات الأخيرة منها على سبيل المثال أن نحو 4 آلاف طالب كردي، في ولاية “سيعرت” شرقي تركيا، بدأوا في تعلّم لغتهم الأم المدرجة ضمن الدروس الاختيارية، خلال العام الدراسي 2015-2016، ويتعلّم 4 آلاف و39 طالبًا أغلبهم من الأكراد، اللهجة الكرمانجية – إحدى اللهجات الكردية -، في إطار مقرر “اللغات واللهجات الحية” الذي أطلقته وزارة التعليم والتربية التركية.
ويكفي أنه في عهد الرئيس أردوغان، نجح حزب الشعوب الديموقراطي “الكردي” في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وتخطى حاجز 10% ودخوله البرلمان ومن ثم المنافسه السياسية بشكل كبير وواضح، وبات للأكراد حزب بالبرلمان قد يؤهلهم لتحقيق مكاسب سياسية مستقبلية.
لكن وفي المقابل، خرجت بعض العناصر الكردية، سواء داخل الدولة أم خارجها، عن الخط المرسوم وفق الدستور الذي لا يسمح بأي تحركات انفصالية تهدد مستقبل الدولة التركية، وهو ما استنفر الدولة بكل إمكاناتها لوقف مثل هذه الخروقات، وعليه كانت المواجهات مع تلك الجماعات.
الرئيس التركي وقادة إقليم كردستان العراق
الجماعات الكردية المسلحة
تنبثق معظم الجماعات الكردية التي أخذت طابعها المسلح من رحم حزب العمال الكردستاني (Pkk) الذي يعد الأب الروحي للأحزاب والكيانات التي تهدف إلى إقامة دولة كردية مستقلة حتى لو كان ذلك على حساب مستقبل شعب بأكمله، وهو ما قوبل بتصد حازم من النظام التركي.
حزب العمال الكردستاني (Pkk): تأسس عام 1978 على يد عبد الله أوجلان، داعيًا إلى دولة مستقلة داخل تركيا، الحزب نشأ في جنوب شرق تركيا كحركة انفصالية بمزيج فكري بين القومية الكردية والثورية الاشتراكية تسعى لإقامة دولة “كردستان” كردية ماركسية لينينية.
الحزب في عقيدته يتبع عددًا من الأحزاب المشابهة له في بعض دول المنطقة على رأسها حزب الحياة الحرة الكردستاني في كردستان إيران وحزب الاتحاد الديمقراطي في كردستان السورية وحزب الحل الديمقراطي الكردستاني في كردستان العراق، كما يصنف على أنه منظمة إرهابية في عدد من الدول منها أمريكا والاتحاد الأوروبي وأستراليا.
بداية الأزمة كانت عام 1984، حين أطلق حزب العمال الكردستاني كفاحًا مسلحًا ضد الدولة التركية، مما أدى في النهاية إلى مقتل ما بين 30.000 و40.000 شخص وتشريد مئات الآلاف، وفقًا لمجموعة الأزمات الدولية، كما شن هجمات ضد ممتلكات الحكومة والمسؤولين الأتراك المقمين في عدد من المناطق الكردية.
وبعد سنوات من النزاع بدأت محادثات السلام بين الحكومة والحزب تحديدًا في 2012 وبعدها بعام واحد فقط تم الاتفاق على وقف إطلاق النار الذي انهار في يوليو/تموز 2015، بعد أيام قليلة من التفجير الانتحاري الذي ألقي باللوم فيه على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في مقتل ما لا يقل عن 33 ناشطًا شابًا في مدينة سوروك ذات الأغلبية الكردية بالقرب من الحدود السورية.
العمال الكردستاني فقد جزءًا مهمًا من حاضنته الشعبية خاصة بعد التصعيد العسكري غير المبرر وتحديدًا داخل المدن والأحياء ذات الكثافة السكانية العالية بما رفع كلفة المواجهة البشرية والاقتصادية بعد سنوات الرخاء
وقتها شن الحزب وميليشياته المسلحة هجمات ضد قوات الأمن التركية ما دفع الحكومة حينها لإطلاق ما اسمته “حرب متزامنة على الإرهاب” ضد العمال الكردي وداعش في نفس الوقت والمستمرة حتى كتابة هذه السطور في ظل استمرار الحزب في نهجه العدائي للدولة التركية.
الكاتب المتخصص في الشأن التركي سعيد الحاج، كشف أن الحزب الذي حظي ويحظى بدعم سياسي وعسكري من عدة دول إقليمية وعالمية مثل روسيا وألمانيا وإيران وسوريا و”إسرائيل”، يبدو أنه يتداول إمكانية نكوصه عن العملية السياسية كحل للمشكلة الكردية في تركيا تحت سقف الدولة وسياق المواطنة الكاملة المتساوية، نحو مشاريع الإدارات الذاتية والحكم الذاتي وربما الانفصال على المدى الإستراتيجي.
وأضاف في مقاله له على “الجزيرة نت” أن مثل هذه التحركات تكشف عدم حرص الحزب على وضعه القانوني كحزب سياسي كبير يعمل دستوريًا تحت قبة البرلمان التركي، بما يوحي بأن هناك تعمدًا لهذا التناقض مع الدستور رغبة في العقاب والحظر بما يعيد تغذية سردية المظلومية الكردية في تركيا، ولذلك أسبابه وأهدافه التي يتوخاها.
الحاج اختتم مقاله بأن الحزب فقد جزءًا مهما من حاضنته الشعبية خاصة بعد التصعيد العسكري غير المبرر وتحديدًا داخل المدن والأحياء ذات الكثافة السكانية العالية بما رفع كلفة المواجهة البشرية والاقتصادية بعد سنوات الرخاء، مستشهدًا على كلامه بعدد من الشواهد أهمها ترك الكثيرين من الأكراد لأماكن سكنهم، وتعاونهم مع القوى الأمنية التركية، ورفضهم المشاركة في المظاهرات التي دعا لها حزب الشعوب الديمقراطي، فضلاً عن تراجع شعبية الأخير في استطلاعات الرأي الأخيرة.
مسيرة بالأعلام لعناصر الـ(Pkk)
حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD): تأسس عام 2003 على أيدي القوميين الأكراد، ورغم ما يثار بأن الحزب نشأ في منطقة “الحسكة” السورية غير أن آخرين ذهبوا إلى أنه تأسس في جبل قنديل بالعراق، ويعتبر الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني.
بعض المصادر تشير إلى أن الحزب بعد أن مكّن قدميه في منطقة “روجوفا” بقوة السلاح، قام بتهجير الأكراد الموالين لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني، هذا بخلاف التورط في اغتيال أسر العديد من المفكرين وأصحاب العقول الراجحة ووجهاء الأعيان المقربين من البرزاني أو المناصرين له.
الحزب يتحرك وفق إدارة ذاتية مشكلة من عدة أحزاب في الشمال السوري، ورغم أن في صفوفه عناصر سورية، فإن هذه العناصر تتبع إيديولوجيًا وفكريًا لتنظيم (PKK)، كما أن له جناح عسكري مسلح وهو وحدات حماية الشعب المكلفة بحماية المناطق التابعة لها.
وحدات حماية الشعب الكردي (YPG): تأسست عام 2004، وهي عبارة عن مليشيا كردية سورية، تعرف محليًا باسم الأبوجية أو البككة، وتنتشر في مناطق الأكراد بسوريا، وتحديدًا في شمال وشمال شرق البلاد، وينظر إليها على أنها الفرع العسكري لحزب الاتحاد، وتتبع فكرًيا حزب العمال الذي كان له الفضل في إنشائها حين أرسل ألفًا من مقاتليه إلى شمال سوريا لتدريب هذه الوحدات، وضمت في البداية نحو 45 ألفًا منتشرين في مناطق القامشلي وعين العرب (كوباني) وعفرين.
تنتهج وحدات حماية الشعب الفكر اليساري، وتنقسم قواتها إلى ثلاثة أنواع أساسية: القوات المحترفة والوحدات المقاومة والقوات المحلية، ولها قيادة عامة وقيادات فرعية في منطقة الجزيرة وعين العرب (كوباني) وعفرين.
أفراد من ميليشيا (YPG)
حزب الشعوب الديمقراطي
تأسس هذا الحزب في أكتوبر 2012، ورغم أنه يمثل الأكراد ويدافع عن هويتهم كونه نسخة مكررة لحزبي العمال والديمقراطية الكرديين غير أن زعماءه يؤكدون أنه يمثل كل الأتراك وليس الهوية الكردية وحدها.
الوليد السياسي الحديث حظي بمباركة قوية من زعيم العمال عبد الله أوجلان، وهو الذي أرسل برقية إلى مؤتمر الحزب الأول الذي أقيم يوم 27 من أكتوبر/تشرين الأول 2013، وجاء فيها أن “الحزب الجديد يمثل محطة تاريخية مهمة في النضال من أجل الديمقراطية في تركيا”، معتبرًا أن بإمكانه الوصول إلى فئات كبيرة من الأكراد والأتراك لم يستطع حزب السلام والديمقراطية أن يخاطبها.
حالة العداء والخصومة الشديدة التي تبديها الدولة التركية تجاه الأكراد هي في الأساس موجهة ضد الجماعات المسلحة التي تهدف إلى ضرب حالة الاستقرار وتهديد مستقبل وأمن البلاد
بحسب الخبراء فإن هذا الحزب ما كان له أن يرى النور دون دعم الـ(Pkk)، ووفقًا للحكومة التركية فإنه المتهم الأول بالتحريض على الاحتجاجات وأعمال العنف التي شهدتها شوارع العديد من المدن التركية في سبتمبر وأكتوبر 2014، التي عرفت باحتجاجات عين العرب (كوباني)، التي ألقى فيها المحتجون اللوم على الحكومة لسقوط المدينة بيد “داعش”.
وفي المجمل.. فإن حالة العداء والخصومة الشديدة التي تبديها الدولة التركية تجاه الأكراد هي في الأساس موجهة ضد الجماعات المسلحة التي تهدف إلى ضرب حالة الاستقرار وتهديد مستقبل وأمن البلاد، تساوى في ذلك انتماء تلك العناصر لكيانات كردية أو غيرها من العرقيات الأخرى، أما علاقة الدولة بالأكراد كأقلية فهي علاقة جيدة وفق دستور لم يميز بين مواطني الدولة.