ترجمة حفصة جودة
تلعب أنامل مهدي خاكيان على البيانو بخفة فتخلق الموسيقى جوًا من الدفء في المقهى، يدير سالار محمدي طلبات الزبائن ويجهزها خلف حانة المقهى بينما يقدم آريا آزاد أكواب الشاي لطاولة زبائن بابتسامة مشرقة، من المشهد الخارجي يبدو المقهى نموذجًا للمقاهي في شمال طهران الراقي، لكن مقهى “داونتزم” أبعد ما يكون عن ذلك.
يقع “داونتزم” في مركز تجاري هادئ في منطقة فاناك شمال العاصمة وقد فتح أبوابه لأول مرة في مايو 2018، وفي وقت قصير جذب عقول وقلوب العديد من الإيرانيين، كما يوحي اسمه فهذا المقهى يعمل به حصريًا شباب من ذوى الاحتياجات الخاصة مثل التوحد ومتلازمة داون، يستلم هؤلاء الشباب الطلبات من الزبائن ثم يقدموها إليهم ويعزفوا الموسيقى على البيانو.
وتختلف الرواتب من شهر لشهر في المكان، حيث يتم جمع المال لشهر ودفع الفواتير والإيجار وأي تكاليف ثابتة ثم يقسم الربح بالتساوي على الموظفين، ومعظم هؤلاء الموظفين تدعمهم عائلاتهم.
مواهب خفية
تبادرت الفكرة بشكل أولي لذهب أيلان أغاي – 37 عامًا – معلمة الموسيقى التي عملت لمدة 17 عامًا مع أشخاص مصابين بالتوحد ومتلازمة داون، وفي عملها كمعلمة موسيقى خاصة للأطفال والشباب، كانت أغاي تشجع تلاميذها دومًا على المشاركة في الحفلات الاحترافية والمسابقات، لكنها لاحظت أنهم يصابون بالتوتر في الفترة التي تسبق العرض.
مهدي خاكيان يعزف على البيانو في مقهى داونتزم
لقد كانوا يخشون عدم الصعود للعرض القادم ولم يكن يتعلق الأمر بالموسيقى نفسها والفوز والخسارة، كان تفاعلهم مع الناس ما يجعلهم سعداء، لقد كانوا يستمتعون بالتشجيع وهتاف الناس، لذا فكرت أغاي في أن تقدم لهم شيئًا.
وفقًا للأرقام ففي عام 2017 من بين كل 150 مولودًا هناك طفل مصاب بالتوحد في إيران، ورغم أن الرقم ليس كبيرًا بالنسبة للدول الأخرى فإنهم بحاجة حقيقية لمؤسسات مثل هذا المقهى تلبي احتياجاتهم.
في يناير الماضي أعلن وزير الصحة الإيراني حسن هاشمي أن هناك 300 ألف طفل مولود بمتلازمة داون من بين 1.5 مليون مولود، أي 1 من كل 50 طفلاً، وفي يونيو نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرًاعن أوضاع ذوي الاحتياجات في إيران ووجدت أنهم يواجهون تمييزًا ووصمة عار من موظفي الحكومة الاجتماعيين وموظفي الصحة وغيرهم، وتبلغ نسبة البطالة بينهم 60%.
لذا لا تكمن أهمية المقهى في الدعم المالي فقط والتوظيف، لكن المقهى يكافح التمييز والعنصرية ويمنح ذوي الاحتياجات الخاصة فرصة لتقديم مواهبهم والتفاعل مع المجتمع.
هؤلاء الأشخاص يتعلمون سريعًا
يدير محمدي المقهى بالإضافة إلى تدريب الموظفين على القيام بكل شيء بداية من صنع القهوة والشاي إلى استقبال الزبائن وتقديم المشروبات وتنظيف الطاولات وإعداد الفواتير، وينقسم اليوم إلى نوبات صباحية ومسائية وفي اليوم الواحد يعمل نحو 10 إلى 12 شخصًا من إجمالي 38 شخصًا يعملون في المكان.
واجهة مقهى داونتزم في طهران
تم تشخيص مهدي – 31 عامًا – بالتوحد في عمر 3 سنوات وآريا – 19 عامًا – في عمر 4 سنوات، يتسم كلا الرجلين بالذكاء والحيوية والأدب ويعملان بجد وعاطفة، يقول محمدي: “هؤلاء الرجال يتعلمون سريعًا، إنهم يساعدونني كثيرًا، إنهم موهوبون للغاية ويرغبون في التعلم”، ابتهج آريا بالملاحظة وقال: “إنني أتعلم أشياء جديدة مثل غسيل الأطباق وتنظيف الأبواب”.
إخفاقات وتحديات
تقول أغاي إن الصعوبات المالية أسوأ ما واجه المقهى منذ ظهور الفكرة، فقد تكلف بدء المكان نحو 70 مليون ريال (1668 دولار) بما في ذلك إيجار المكان والأثاث والمعدات، وما زال المقهى بانتظار منحة منظمة الرعاية الاجتماعية الإيرانية، هذه المنظمة هي الوكالة الحكومية المسؤولة عن تقديم الخدمات للمعاقين، ويقول تقرير هيون رايتس ووتش إن موظفي الوكالة لم يقدموا المعلومات الأساسية عن الخدمات المتاحة للمعاقين والإجراءات طويلة ومعقدة.
تضيف أغاي “عندما أرسلت خطة العمل للمنظمة وأخبرتهم عن حاجتي للدعم المادي وافقوا بشرط أن أتحدث عن دعمهم، لكن حتى الآن لم يقدموا أي مساعدة”، بدلاً من ذلك دعمت أغاي جزءًا كبيرًا من المشروع بأموالها الخاصة واقترضت من أسر الأطفال الذي كانت تعلمهم الموسيقى، كانت الأسر داعمة بشكل كبير وتأمل بأن يكون المقهى ذا فائدة لأطفالهم وجميع الشباب من ذوي الإعاقة.
يقف مهدي خلف اثنين من زبائن المقهى
أدى الانخفاض المفاجئ في سعر الريال نتيجة العقوبات الأمريكية إلى انخفاض دخل الإيرانيين مما يعني أن عدد قليل لديه رفاهية الذهاب إلى المقاهي، إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الخام لصنع المشروبات وارتفاع الإيجار.
هناك عقبة أخرى تواجه المقهى وهو أنه يقع في الطابق العلوي لمركز تجاري مهجور، وعلى عكس بقية المقاهي التي تفتح حتى منتصف الليل، يضطر “داونتزم” إلى الإغلاق قبل الـ9 مساءً قبل أن يغلق المركز أبوابه مما يحد من عدد الزبائن، كما أنهم منعوهم من الإعلان عن المقهى في مدخل المركز مما يجعل من الصعب عليهم جذب زبائن جدد إلا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو التحدث عنه بين الناس.
ردود فعل الزبائن
كما هو الحال في المدن الكبرى ومع المدنية الحديثة، هناك القليل من التواصل بين الموظفين والزبائن في المقاهي والمطاعم، لكن في مقهى “داونتزم” يحرص الموظفون على التواصل مع الزبائن لضمان سعادتهم في المقهى، ويقول محمدي “الزبائن داعمون للغاية ويقدرون المكان، كما أنهم يتحملون إذا تأخرت الخدمة أو قلت الجودة، فهم يتفهمون الظروف ويدعموننا”.
وبالإضافة إلى تقديم المشروبات والوجبات الخفيفة، هناك مساحة لعرض مواهب ومهارات الموظفين، حيث يلعب مهدي البيانو في أوقات الفراغ وكذلك البقية، وهناك مجموعة من الأعمال الفنية التي رسمها الموظفون على جدران المقهى.
المجوهرات والصور التي صنعها الموظفون وتباع لتمويل المقهى
يوجد أيضًا أعمال يدوية مثل المجوهرات المزخرفة والستائر المعلقة وهي متاحة للبيع ويذهب ربحها لدفع تكاليف تشغيل المقهى، وتشكل الموسيقى جزءًا مهمًا من المقهى بسبب أغاي ومواهب العديد من الموظفين، وبالإضافة إلى البيانو يلعب بعضهم الأرغن والكاسور (طبلة إيرانية تقليدية)، ولسوء الحظ لا تتوافر جميع الأدوات التي يستطيع الموظفون استخدامها بسبب القيود على الميزانية، لكنهم يأملون يومًا ما أن تتاح لهم الفرصة لإظهار جميع مواهبهم للعالم.
آمال المستقبل
يأمل الفريق في المستقبل أن يجد مكانًا أكبر ومرافق أكثر لتزيد قدرته على خدمة المزيد من الزبائن، من الناحية المالية الآن فهذا الحلم بعيد المنال، يقول محمدي: “نرغب أن يأتي يوم نفتتح فيه فروعًا في جميع أنحاء طهران وفي مدن أخرى، حتى يكون هؤلاء الشباب قادرين على الاكتفاء ذاتيًا في المستقبل”.
ويقول محمدي وأغاي إن ذوي الاحتياجات الخاصة في إيران عادة ما ينعزلون عن المجتمع لأن عائلاتهم تخشى أن يسيء الناس معاملتهم، ومع ذلك فتلك العزلة تزيد من العنصرية ضدهم، لذا يرغب المقهى في مكافحة هذه العزلة والقضاء عليها.
يشعر مهدي بالحماس للعمل هناك ويسعى نحو الحصول على مزيد من الخبرة في المستقبل، حيث يقول: “أتمنى أن يدعمنا الناس في طهران وإيران وجميع أنحاء العالم وأن يأتوا لمشاهدتنا ونحن نعمل”.
ورغم الصعاب الذي يواجهها هذا المقهى الصغير فإن الفريق ما زال يعمل بجد ويقدم الخدمات للزبائن بكثير من الاهتمام والعناية، إنهم يرغبون أن يرى العالم أنهم قادرون على تقديم شيء فريد ومميز لمجتمعهم.
المصدر: ميدل إيست آي