في بداية التسعينيات وبعد أنّ أعلنت مقدونيا استقلالها عن الاتحاد اليوغوسلافي الذي انهار في عام 1991، وقف الشعب المقدوني في الساحات والميادين يغنون نشيد بلادهم الوطني “اليوم فوق مقدونيا ولدت شمس جديدة للحرية”، استبشارًا باستقلالهم وتحرر بلادهم من أعباء الإرث اليوغوسلافي.
وعلى الرغم من انسحاب مقدونيا بشكل سلمي من الاتحاد دون الخوض في حروب دامية على العكس من الوحدات الفيدرالية الأخرى مثل سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفا، إلا أنها تصادمت بحربين أخريين، الأولى طائفية أهلية والثانية دبلوماسية مع اليونان، فما أسباب الحرب الثانية التي لا تزال تصدع رأس البلدين لأكثر من 3 عقود؟ وما علاقة الحرب الأهلية بذلك؟
كيف أزعج اسم مقدونيا الأقليات العرقية والسلطات اليونانية؟
يشكل السلاف الأرثوذكس نحو 65% من المقدونيين، بينما يمثل الألبان المسلمين حوالي 30% و99% منهم يتبعون السنة، والبقية هم من الأتراك والصرب والغجر، وما أوصل هذه الطوائف إلى الحرب الأهلية التي نتج عنها الأزمة الدبلوماسية مع اليونان أن الغالبية السلافية فرضت تعديل دستوري في عام 1989 ينص على أنّ “جمهورية مقدونيا هي الدولة القومية للشعب المقدوني”.
وذلك بالجانب إلى تعديل آخر في عام 1990 يعرف مقدونية كـ”جمهورية تهتم بوضع وحقوق أطراف الشعب المقدوني التي تعيش في الدول المجاورة”، بعد أن كان الدستور في عهد الرئيس الراحل، جوزيف بروز تيتو، يقر بأن مقدونيا “دولة القومية للشعب المقدوني والقوميتين: الألبانية والتركية”.
فرضت اليونان حصارًا اقتصاديًا على “جمهورية مقدونيا” حين سدت أبواب ومنافذ ميناء سالونيك إلى أن تم التوصل إلى حل مؤقت في عام 1993 يلزم “جمهورية مقدونيا” بقبول اسم “جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة”
ولا شك أن التعديل الأول أشعل نيران الحرب الأهلية التي انتهت في عام 2001 بعد التوصل إلى اتفاق “أوهريد” ومع تدخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية باقتراحات جديدة تصيغ مفهوم جديدة للدولة والمواطنة. أما فيما يتعلق بالتعديل الثاني، فلقد أنقض مضجع اليونان ودفعها إلى الاعتراض على استقلال الجمهورية وتسميتها بـ”جمهورية مقدونيا”، وذلك لوجود مقاطعة يونانية تحمل الاسم ذاته وهذا يعتبر اعتداء على التراث القومي اليوناني، ونتيجة لهذا رفضت اليونان الاعتراف بالأقلية السلافية في القسم اليوناني في الشمال من مقدونيا التاريخية.
إضافة إلى ذلك، فرضت اليونان حصارًا اقتصاديًا على “جمهورية مقدونيا” حين سدت أبواب ومنافذ ميناء سالونيك إلى أن تم التوصل إلى حل مؤقت في عام 1993 يلزم “جمهورية مقدونيا” بقبول اسم “جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة” في وثائق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، والذي يترجم بالإنجليزية إلى “فيروم” اختصارًا للاسم السابق.
مسار المفاوضات ما بين الجمود والاتفاق
لم تشهد علاقة البلدين أي مفاوضات أو تطورات بخصوص هذا الجانب بسبب التحولات السياسية والاقتصادية التي تعرض لها الطرفين على مر السنوات الأخيرة، ما أبقى فرصة “جمهورية مقدونيا” في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي ضئيلة جدًا، كما أثر هذا الجمود على منطقة الإقليم، فقد قال رئيس وزراء جمهورية سلوفينيا، بوروت باهور ذات مرة “إن السلام في البلقان يتهدده عدم حل الخلاف بين مقدونيا واليونان، وبين صربيا وكوسوفا وعدم حل المسائل الحساسة في البوسنة”.
فعلى الرغم من الجهود الدولية الدؤوبة في إيجاد حل دائم ومرضي لطرفين، إلا أن جميع المحادثات والتدخلات فشلت، فعلى سبيل المثال رفضت اليونان اسم “جمهورية مقدونيا الشمالية” لأنه يعني تقسيم مقدونيا التي تعتبرها اليونان كيانًا موحدًا وجزءًا من تاريخها القومي وحضارتها القديمة، فإن هذه المنطقة تحمل هذا الاسم منذ عصر الإسكندر الأكبر الذي ولد فيها والتصق وجوده بالمفهوم القومي والوطني لدى اليونانيين، كما أن السلطات اليونانية تتخوف من أن منح هذا الاسم لمقدونيا قد يحفزها على المطالبة بأجزاء إقليمية من شمال اليونان.
رفض الألبان اسم “جمهورية مقدونيا السلافية” على أساس أنه يناقض الدستور الذي ينص على المعايشة والمشاركة وينفي هويتهم ويعطي البلاد ملامح سلافية خالصة
وفي المقابل رفض الألبان اسم “جمهورية مقدونيا السلافية” على أساس أنه يناقض الدستور الذي ينص على المعايشة والمشاركة وينفي هويتهم ويعطي البلاد ملامح سلافية خالصة، إذ يحاول الطرفان التمسك بهويتهم التاريخية على الرغم من التطورات الجارية.
ونظرًا لهذه المواقف، فإن المشكلة الدائرة بين الجبهتين لا تتعلق بمشكلة الاسم فقط بل تمتد إلى أبعد من ذلك، فعلى مر السنوات الماضية تم إجراء استفتاءات عديدة حول تغيير الاسم وتم إسقاط رؤساء بسبب هذا الأمر مثل رئيس الوزراء كونستانتين في عام 1993، ومؤخرًا أعلن وزير الدفاع اليوناني، بانوس كامينوس، استقالته من منصبه احتجاجًا على اتفاق الحكومة مع مقدونيا بشأن اسمها، بالإضافة إلى سحب 6 وزراء آخرين من حزبه من ضمن الحكومة الحالية.
اتفقت حكومة سكوبيا مع اليونان في 6 يونيو/حزيران من العام الماضي على إنهاء هذا الخلاف مقابل الحصول على تأييد عضويتها في الاتحاد الأوروبي والناتو، وبذلك يقتضي تغيير اسم جمهورية مقدونيا إلى جمهورية مقدونيا الشمالية
فقد اتفقت حكومة سكوبيا مع اليونان في 6 يونيو/حزيران من العام الماضي على إنهاء هذا الخلاف مقابل الحصول على تأييد عضويتها في الاتحاد الأوروبي والناتو، وبذلك يقتضي تغيير اسم جمهورية مقدونيا إلى جمهورية مقدونيا الشمالية واستخدامه إقليميًا ودوليًا، وذلك بعد سنوات طويلة من التفاوض على الأسماء المقترحة مثل مقدونيا العليا ومقدونيا الجديدة.
جدير بالذكر أن هذه الأحداث عرقلت العجلة الاقتصادية في مقدونيا وزعزعت استقرارها ومنحتها عزلة دولية بالرغم من اعتراف 137 دولة باسمها إلا أن اليونان لم تقبل انضمامها للهيئات الدولية دون أن تنسحب مقدونيا من مفاوضات التسمية وتقبل بالتعديل، ما جعل التوقعات الحالية لمستقبلها أمرًا معقدًا وغامضًا، ولا سيما أن أساس مشكلتها وصراعها لا يتوقف فقط على علاقة دولية خارجية وإنما يتحكم بها أطراف مختلفون الطباع والهوية والخلفية الدينية من داخل البلاد.