يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: “رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب بل في وعي الناس”، استشهدنا بمقولة روسو كمستهلٍ للحديث عن ثورة الوعي التي انتظمت في القارة السمراء تدريجيًا خلال العشر سنوات الأخيرة، إذ شهدت منطقة القرن الإفريقي تحولات ديمقراطية في هذه الفترة عدا إريتريا التي ما زال يحكمها أسياس أفورقي بقبضته الحديدة منذ استقلال البلاد عام 1991، والسودان الذي يسيطر عليه عمر البشير منذ 30 عامًا بآلة قمع أخرى وإن كانت أخف وطأة من إريتريا.
وكانت أبرز ملامح هذا التحول الإفريقي إجراء الانتخابات الرئاسية في كينيا عام 2005 التي تم بموجبها انتقال السلطة من الرئيس الأسبق دانيال آرب موي إلى الرئيس المنتخب موي كيباكي وذلك عبر عملية انتخابية ديمقراطية لم تشهد أي أحداث عنف.
كانت جيبوتي قد سبقت كينيا وكل دول القرن الإفريقي في عملية انتقال السلطة سلميًا ودون انقلاب عسكري أو أحداث عنف، ذلك في مايو/أيار 1999 عندما أُجريت الانتخابات الرئاسية وفاز فيها الرئيس الحاليّ إسماعيل عمر قيلي بعد تغلبه على منافسه زعيم المعارضة موسى أحمد، وحينها سلّم الرئيس الجيبوتي السابق حسن قوليت مقاليد الحكم للرئيس إسماعيل عمر قيلي طواعيةً في مشهد نادر الحدوث بالقارة السمراء، كما سبق الانتخابات الرئاسية بعامٍ واحد، الانتخابات البرلمانية التي مهّدت لانتخابات الرئاسة.
وإثيوبيا كانت في ذلك التوقيت تشهد عملية انتخابية ديمقراطية تم بموجبها انتخاب الرئيس الإثيوبي الأسبق قيرما ولد جورجيس الذي خلف الرئيس نقاسو قدادا، الذي كان أول رئيس إثيوبي بعد سقوط نظام الديكتاتور منجستو هايلي مريام.
ديمقراطية الصومال منذ الستينيات
على عكس ما يتوقع كثيرون، كان الصومال من أوائل الدول التي بدأت التحول الديمقراطي واحتكام الساسة إلى صناديق الاقتراع، حيث أقيمت فيه الانتخابات الرئاسية بعد 7 أعوام من الاستقلال أي عام 1967، وتنافَسَ على رئاسة الجمهورية آنذاك، الرئيس آدم محمد عثمان عبدلي ورئيس وزرائه السابق عبد الرشيد علي شرماركي، وتمكن شرماركي من التفوق على آدم عبدلي فما كان من آدم عثمان إلا أن قبل بنتيجة الانتخابات، وأقر بهزيمته وأصبح من أوائل القادة الأفارقة الذين سلموا السلطة دون اعتراضات وتزييف للانتخابات مما أدخله التاريخ من أوسع أبوابه.
في التاريخ الحديث، شهد الصومال حدثٌ ديمقراطيٌ جديد في العام 2004 بانتقال السلطة من الرئيس الأسبق عبد القاسم صلاد حسن إلى عبد الله يوسف، وانطلاقًا من اهتمام المجتمع الدولي بالصومال، قام وفد أوروبي معني بالتحول الديمقراطي وعملية المصالحة في الصومال بجولة شملت عددًا من المدن الصومالية وهي كل من مقديشو العاصمة وهرجيسا وجوهر أجرى خلالها الوفد عددًا من اللقاءات تركزت حول عملية التحول الديمقراطي في الصومال خاصة ودول القرن الإفريقي بصورة عامة.
وفي العام قبل الماضي، بدت أكثر مشاهد الديمقراطية إشراقًا في الصومال، حينما انتخب النواب الصوماليون رئيس الوزراء السابق محمد عبد الله فرماجو ليكون رئيسًا للجمهورية في انتخابات تنافس فيها أكثر من 20 مرشحًا، وأدّى فرماجو الذي درس في الولايات المتحدة اليمين القانونية رئيسًا جديدًا للصومال بعدما حقق تقدمًا مريحًا في الجولة الثانية من تصويت النواب في الانتخابات التي جرت في مجمع مطار مقديشو الذي يخضع لإجراءات أمن مشددة.
فرماجو.. الدبلوماسي الذي يقود بلاده نحو الاستقرار
ولم يكن الدبلوماسي محمد عبد الله فرماجو ـ الذي عمل من قبل في السفارة الصومالية بالولايات المتحدة ـ معروفًا في الأوساط السياسية على نطاق واسع، قبل استدعائه من الرئيس الصومالي الأسبق شريف شيخ أحمد ليتولّى رئاسة الحكومة الانتقالية، المنصب الذي استقال منه بعد سبعة شهور فقط بموجب اتفاقية كمبالا الموقعة في الـ9 من شهر يونيو/حزيران 2011، وأنهت الخلاف بين الرئيس الصومالي ورئيس البرلمان وقتذاك شريف حسن شيخ آدم، وكان من بين بنودها تمديد ولايتهما لمدة عام، وأن يستقيل رئيس الوزراء من منصبه.
وقد حظي الرئيس فرماجو بتأييد معظم مكونات الشعب الصومالي الذي يعلق عليه آمالًا كبيرة لتطلعهم بسجلات الرئيس السابقة ونزاهته، وكسب على الفور جانب أفراد الجيش الصومالي، نتيجة توفيره لهم الرواتب الشهرية باستمرار وانتصاراته المتلاحقة على مقاتلي حركة الشباب الإرهابية خلال فترة وجيزة من أيام رئاسة وزرائه في عهد حكومة شريف شيخ أحمد الانتقالية.
إذ يحفظ له مؤيدوه أنه نَقَل عناصر من الجيش الصومالي إلى قواعد عسكرية في المناطق المجاورة ليختفي بذلك مظهر السلاح العشوائي في العاصمة مقديشو، كما أصدر أمرًا يفرض الحظر على حمل الأسلحة الثقيلة في العاصمة، بحيث لا يسمح لحرس مسؤولي الحكومة الصومالية أكبر من بندقية كلاشينكوف الروسية الأصل، وقام بتهيئة قوّة مشتركة من القوات المسلحة الصومالية بقيادة موحدة مكلفة لتثبيت أمن العاصمة مقديشو.
أبلت حكومة فرماجو بلاءً حسنًا في مجابهة حركة الشباب، مستعينةً بحكومات الولايات الفيدرالية التي تأسَّست وفقًا لدستور 2012 الانتقالي، وقامت الحكومة بإصلاحات مهمَّة ومبادرات في هذا الخصوص
هذا فيما يتعلق بالجانب الأمني، ومن المعروف للقاصي والداني أن الصومال بلدٌ أنهكته الحرب الأهلية، ذات الجذور القَبَلِيَّة والسياسيَّة والدينية، وتُمثّل حركة الشباب الإرهابية المتحالفة مع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، التحدي الأمني الأكبر، ولكن القوات الصومالية المدعومة من قوات الاتحاد الإفريقي (أميصوم)، نجحت في دحرها خارج العاصمة والمدن الرئيسية لكن لا يزال لديها وجود في بعض المناطق، فتلجأ إلى تفجير الأماكن العامة، واغتيال المسؤولين الحكوميين، وملاحقتهم.
وقد أبلت حكومة فرماجو بلاءً حسنًا في مجابهة حركة الشباب، مستعينةً بحكومات الولايات الفيدرالية التي تأسَّست وفقًا لدستور 2012 الانتقالي، وقامت الحكومة بإصلاحات مهمَّة ومبادرات في هذا الخصوص.
على الصعيد الاقتصادي، تحسَّن الوضع المالي للصومال في عهد فرماجو ورئيس وزرائه حسن علي خيري، بشهادة المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويرى فرماجو أن حكومته تتعرَّض لهجوم من معارضين غاضبين فيما يخص إدارة حكومته للملف المالي، وأنهم يسعون لزعزعة ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على النهوض باقتصاد الدولة، وبالفعل يظهر تحسن الأوضاع الاقتصادية للصومال في أن الحكومة تمكَّنَتْ من دفع رواتب الموظفين منذ توليها الحكم، وتحقيق مشروعات تنموية واضحة على صعيد البنية التحتية رغم الأزمات الأمنية ومناخ الاستقطاب الحاد الذي تشهده المنطقة.
كل ذلك نتيجة لنزاهة المسؤولين عن هذا الملف، خاصة وزير المالية عبد الرحمن دعالي بيلي الذي يتولى إدارة الملف المالي بكفاءة منقطعة النظير، كما ارتفع دخل الدولة من الموانئ ومختلف الأوعية الضريبية إلى 360 مليون دولار، وهو رقم قياسي لم يَسْبق أن يُسَجَّل منذ سقوط الحكم المركزي.
ورغم أن الرئيس الصومالي فرماجو لم يمضِ على ولايته سوى عامين من 4 أعوام هي عمر فترته الرئاسية، فإنه يواجه حملة شرسة في أكثر من اتجاه، ففي الشهر الماضي تسلّم رئيس مجلس الشعب الصومالي محمد مرسل شيخ عبد الرحمن مذكرة لسحب الثقة عن الرئيس محمد عبد الله فرماجو.
ولاحقًا جرى إلغاء مشروع حجب الثقة عن الرئيس الصومالي، عقب نفي 14 نائبًا رضاهم عن مذكرة حجب الثقة، معتبرين أن أسماءهم وُضعت بقائمة النواب المؤيدين دون علمهم، الأمر الذي فسّره مؤيدو فرماجو بأن سياسة الحياد والاستقلالية المطلقة في القرار التي يتبنّاها الرئيس وترتكز أيضًا على إصلاح العلاقات مع دول الجوار والبحث عن مصلحة الصومال دون الإضرار بالآخرين، أو جعل الآخرين يوظفون الصومال في خدمة أجندتهم أزعج أعداء فرماجو الإقليميين ووكلائهم في الداخل الصومالي.
وينظر بالدرجة الأولى إلى دولة الإمارات التي تناصب الحكومة الصومالية العداء بصورة سافرة وواضحة منذ رفض مقديشو الانضمام إلى محور حصار قطر، إضافة إلى تعامل حكومة فرماجو بحسمٍ مع أبو ظبي، إذ اعترض الصومال على اتفاقيةٍ وقعتها شركة موانئ دبي مع جمهورية أرض الصومال (غير المعترف بها عالميًا)، وبالطبع لعبت علاقات محمد فرماجو الوثيقة مع الرئيس التركي أردوغان دورًا كبيرًا في السخط الإماراتي عليه.
والمتتبع لوسائل الإعلام الإماراتية يجدها تشن هجومًا إعلاميًا كاسحًا على الحكومة الصومالية والرئيس محمد عبد الله فرماجو وتتهمه شخصيًا بالفشل في إدارة الدولة ورعاية المنظمات الإرهابية “رغم أنه رئيس الجمهورية”، ولذلك لا يخفي صوماليون كُثُر شكوكهم في تورط أبو ظبي بما تشهده بلادهم من هجمات إرهابية كبيرة بعدما امتنعت حكومة الرئيس فرماجو عن الاستجابة لطلب طرد قطر وتركيا من الصومال، بعدما فشلت أبو ظبي في جهودها لإسقاط الحكومة مرتين، إلى جانب فشل الحملة الإعلامية الشرسة وصمود الصومال أمام سياسة التخريب الإماراتية.
انتخابات بونتلاند.. انتصار جديد على مخططات تقويض الديمقراطية
إلى جانب المحاولات التي تقودها أبو ظبي إلى الإطاحة بفرماجو وبالتالي تقويض الديمقراطية الصاعدة بالصومال، فإن الرئيس كان يواجه تحديًا آخر لا يقل خطورة هو الخلافات الداخلية بينه وبين رؤساء الأقاليم وبعض من نواب البرلمان.
والأيام الماضية تنفّس الرئيس الصومالي ومؤيدوه الصعداء بعد أن خلصت انتخابات إقليم بونتلاند الواقع شمال شرق البلاد، إلى انتخاب سعيد عبد الله دني رئيسًا للإقليم ليكون خلفًا للرئيس المنتهية ولايته عبد الولي غاس، وفاز سعيد دني بحصوله في الجولة الثالثة والأخيرة على 35 صوتًا مقابل 31 لمنافسه الجنرال أسد عثمان عبد الله ديانو، فيما لم يتمكن الرئيس السابق عبد الولي غاس من الوصول إلى الجولة الأخيرة.
ولذلك يُنظر إلى انتخاب دني رئيسًا لبونتلاند بأنه انتصار آخر لفرماجو ومؤيديه، لأن غاس الرئيس السابق للإقليم كان معروفًا بمواقفه المعارِضة لسلطة مقديشو، والانتصار الأول للحكومة الفيدرالية في مقديشو تمثل في نتيجة انتخابات إقليم جنوب غرب الصومال التي جرت نهاية الشهر الماضي وأسفرت عن فوز وزير الطاقة والمياه السابق عبد العزيز لفتاغرين رئيسًا للولاية بعد حصوله على 101 صوتًا من أصل 147 نائبًا.
الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها أن ثمة تحول قادم في المشهد السياسي الصومالي، وتغُّير في موازين القوى والخريطة السياسية في البلاد، مما سيفتح الباب أمام عهد جديد للنظام السياسي الذي ظلّ سائدًا في الصومال لنحو عقدين من الزمان عقدين، وذلك للتداعيات الكبيرة لهذين الحدثين على الانتخابات الأخرى المزمع اجراؤها في ولاياتي جوبالاند، وجلمدغ.
بعد نجاح التمرين الديمقراطي في بونتلاند وجنوب غرب الصومال، يبقى التحدي الأكبر للجميع.. الحكومة الفيدرالية في مقديشو وفي حكومات الأقاليم هو كيفية بسط الاستقرار
على أسوأ الفروض حتى لو لم يحدث تغيير في إقليمي جوبالاند وجلمدغ فإنه من المؤكد أن الرئيس محمد عبد الله فرماجو ومناصريه تنفسوا الصعداء بعد إطاحة 2 من حكام الأقاليم اللذين كانا يعارضان سياسات الحكومة الفيدرالية، ولكن يبقى التحدي قائمًا.. هل سيعمل حكام جنوب غرب الصومال وبونتلاند إلى جانب حكومة فرماجو وحسن خيري أم أن التشاكس سيظل مستمرًا؟
نعتقد أن بمقدور الحكومة الفيدرالية ضمان حيادية ـ حسن محمد لفتاغرين وسعيد دني ـ على الأقل، ووزير الطاقة السابق (حاكم جنوب غرب الصومال المنتخب) لفتاغرين، يُنظر إلى أنه مقرب من الرئيس فراماجو، فيما كان الحكام السابقين لولاياتي جنوب غرب وببونتلاند أكثر ميلًا لمخططات أبو ظبي التي كانت تهدف إلى تقويض الديمقراطية الصاعدة في هذا البلد الإفريقي الذي عانى من الحروب والصراعات الأهلية، والهجوم الإعلامي المكثف على الحكومة الصومالية خير دليل على ذلك.
بعد نجاح التمرين الديمقراطي في بونتلاند وجنوب غرب الصومال، يبقى التحدي الأكبر للجميع.. الحكومة الفيدرالية في مقديشو وحكومات الأقاليم هو كيفية بسط الاستقرار وإكمال خطط التعافي الأمني والسياسي والقضاء على الفساد الذي بات صفة العار لدول شرق إفريقيا القابعة في صدارة الدول الأكثر فسادًا على مستوى العالم.