عاد الجدل في بلاد شنقيط مجددًا، بشأن مسألة بقاء الرئيس محمد ولد عبد العزيز في السلطة لخمس سنوات أخرى، بعد تعالي أصوات الداعمين له من رجال أعمال وسياسيين وزعماء قبائل لتعديل الدستور وكسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس لمأمورية ثالثة، الأمر الذي ترفضه المعارضة الموريتانية وتعتبره بمثابة التهديد الجدي لاستقرار ومستقبل البلاد.
تعديل الدستور
في الفترة الأخيرة، تواترت المبادرات المؤيدة لبقاء الرئيس ولد عبد العزيز الذي جاء إثر انقلاب عسكري سنة 2008 في السلطة، رغم نص دستور البلاد المعدل منذ أقل من سنتين على منع الولاية الثالثة للرئيس.
آخر هذه المبادرات ما جاء من بعض نواب الأغلبية، حيث عقدت مجموعةٌ من نواب حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم اجتماعًا، الجمعة، وأعلنوا أنَهم شرعوا في جمع التوقيعات لعريضةٍ تنادي بكتابة دستورٍ جديد للبلاد، ولم يتردد بعضهم – مثل النائب عن مقاطعة المذرذرة، الداه صهيب – في التصريح بأن الهدف من التعديل هو كسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس لمأمورية ثالثة.
ويمنع الدستور الموريتاني الصادر في 20 من يوليو/تموز 1991 بأن يحكم الرئيس أكثر من ولايتين رئاستين متتاليتين، طبقًا للمادتين 26 و28 (تم إقرارهما في تعديل سنة 2006) اللتين تم تحصينهما بالمادة 99 من أي تعديل، وبمقتضاهما تم تقليص الفترة الرئاسية في البلاد من سبع إلى خمس سنوات، وتحديد مدة الرئاسة بمأموريتين.
هذه المبادرات المتتالية تتم بمباركة نظام محمد ولد عبد العزيز أو على الأقل سكوته
قبل ذلك، دعت مبادرة أطر محافظة الترارزة الواقعة في منطقة الكبلة بالجنوب الغربي من موريتانيا إلى تعديل الدستور بما يسمح للرئيس محمد ولد عبد العزيز بمأمورية رئاسية ثالثة، ولحقهم في ذلك أطر مدينة نواذيبو الذين دعوا إلى التمسك بالرئيس واستمرار النهج معه لما حققه من إنجازات شملت كل المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية حسب قولهم.
وسبق أن صرح الرئيس محمد ولد عبد العزيز في مناسبات عديدة بأنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة تماشيًا مع أحكام الدستور التي لا تسمح له إلا بمأموريتين، وأكد أنه لا ينوي إجراء أي تعديل على تلك الأحكام محترمًا بذلك مقتضيات الدستور.
في نفس الإطار، تعتزم مجموعة من رجال الأعمال والفاعلين الاقتصاديين في موريتانيا تنظيم حراك سياسي يهدف إلى دعم المبادرات الداعية إلى انتخاب ولد عبد العزيز لمأمورية ثالثة، محاولة منهم لرد الجميل لما أسداه الرئيس من إنجازات عظيمة لموريتانيا، وفق نص بيان صادر عنهم.
التقاء أصحاب المصالح والامتيازات والنظام
ويتبين من هنا، أن المطالبين بمأمورية ثالثة للرئيس ولد عبد العزيز، هم أصحاب المصالح والامتيازات، لضمان مصالحهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية، فهم يخشون أن أي تغير أو تغيير سيكون على حساب تلك المصالح والامتيازات التي يتمتعون بها منذ سنوات طويلة.
ومن الواضح حسب العديد من المؤشرات الراهنة، أن هذه المبادرات المتتالية تتم بمباركة النظام أو على الأقل سكوته، إذ لم يُمنع الترخيص عن أي نشاط سياسي يصب في هذا الاتجاه، وبالمقابل مُنع نشاط واحد على الأقل يدعو إلى احترام الدستور وعدم المس بالمواد المقيَدة لعدد ومدة المأموريات الرئاسية.
ووفقًا لبعض المصادر في موريتانيا، فإن الرئيس أوكل للمقربين منه، مهمة إيجاد خطة لتمرير مسألة الولاية الثالثة بشرط ألا يكون هو في الواجهة، فهو يسعى إلى أن ينأى بنفسه عن هذا الجدل المحتدم منذ بداية فترة ولايته الأولى.
تستفيد أطراف موريتانية واسعة من النظام
يسعى القائمون على هذه الخطة، إلى تنظيم فعاليات وحملات في بعض المحافظات والمقاطعات الموريتانية، داعية لتعديل الدستور للإبقاء على الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بحجة استكمال المشاريع التنموية وضرورة احترام رأي غالبية الشعب الموريتاني.
ويوجد حاليًّا، وفقًا لمصادر نون بوست، حراك جدي في البرلمان الموريتاني لاقتراح تعديل دستوري للسماح للرئيس بولاية ثالثة، ويتم هذا الحراك بدعم من الرئاسة عن طريق مستشار الرئيس أحميده ورئيس الحزب الحاكم (وزير الثقافة الناطق باسم الحكومة).
الانقلاب على الشرعية الدستورية
قوى المعارضة الموريتانية، قابلت هذه التحركات باستنكار كبير، حيث جددت رفضها لكل الدعوات التي تنادي ببقاء الرئيس في ولاية ثالثة، باعتبارها انتهاكًا صارخًا للدستور ودعوة للقضاء على مسار الديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة.
وحمل المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، أكبر تجمع لأحزاب المعارضة الموريتانية، أمس الأحد، الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، مسؤولية استمرار محاولات “وأد المسار الديمقراطي”، بوصفه المسؤول عن حماية الدستور، ولكونه المتحكم في جماعته المقربة التي تحاول زعزعة النظام الدستوري.
سبق أن تعهد محمد ولد عبد العزيز في أكثر من مرة بعدم الترشح لولاية رئاسية ثالثة، وترك الموريتانيين يختارون بشكل حر دون ضغوطات
وأكد المنتدى في بيان له عزمه التصدي لكل المحاولات الرامية إلى ما أسماه “الانقلاب على الشرعية والوقوف في وجه تطلعات الشعب الموريتاني إلى بناء نظام ديمقراطي”، وفق نص البيان، ودعت المعارضة الموريتانيين الغيورين على مستقبل البلاد إلى الوقوف صفًا واحدًا إلى جانب الشرعية الدستورية والعمل على خلق الظروف الملائمة لتحقيق تناوب حقيقي على السلطة.
وقال بيان المعارضة إنه مع اقتراب الاستحقاق الحاسم المتمثل في رئاسيات 2019، ظهرت من داخل السلطة إرادة واضحة في عرقلة مساره والتشويش عليه، بل وإجهاضه، حسب البيان، وأضاف أن هذه التصرفات، مجرمة قانونيًا ومدانة سياسيًا وأخلاقيًا، وتعبر عن نية مبيتة للتلاعب بمستقبل البلد، وتحويل الرهان الأسمى بشأن مصلحة الأمة وأمنها واستقرارها إلى رهان بشأن مصالح شخص أو جماعة ضيقة طالما ارتهنت البلد وتفردت بحكمه واستأثرت بخيراته.
أمن واستقرار البلاد في خطر
فضلاً عن تهديد الاستحقاق الانتخابي القادم، يرى العديد من الموريتانيين أن تعديل الدستور من شأنه أن يهدد أمن واستقرار البلاد، وفي هذا الشأن يقول الناشط السياسي الموريتاني حسين حمود: “المأمورية الثالثة أو مجرد الشروع في محاولة تمريرها هو بحد ذاته خطر كبير على أمن واستقرار البلاد، إذ إنها تتمتع برفض غالبية الموريتانيين وغير مقبولة في أوساط القوة الصلبة التي هي المؤسسة العسكرية”.
ويضيف حمود في تصريحه لنون بوست “الغرب والشركاء الدوليون أيضًا، يرفضونها ولا أدل على ذلك من الموقف الأمريكي الفرنسي المشترك سابقًا إذ أقل ما ستنتجه محاولة تمرير المأمورية غير الشرعية هو عزلة دولية لموريتانيا وربما عقوبات اقتصادية في ظرفية غير مريحة لها اقتصاديًا كما أن الوضع الأمني سيهتز بشكل كبير في الشارع”.
ويؤكد الناشط السياسي الموريتاني، أن من تأثيرات المأمورية الثالثة المحتملة أيضًا إعادة موريتانيا إلى المربع صفر واجترار انقلاب عسكري آخر قد تنتجه وضعية غير دستورية يحاول ولد عبد العزيز فرضها عبر تعديل الدستور.
يخشى الموريتانيون من إقدام النظام على تعديل الدستور
ويرى حسين حمود في ختام حديثه لنون، أن الشروع في تعديل الدستور وترشح ولد عبد العزيز لمأمورية ثالثة “يمثل استخفافًا بالشعب واحتقارًا لإرادة التناوب ودفنًا لأمل التغيير الذي لم يعد الشباب الموريتاني يملك غيره ليعيش عليه”.
من جهته أكد موريتاني يدعى محمد الكوري، رفضه للمأمورية الثالثة، وقال في تصريح لنون بوست: “موقفي من فكرة تعديل الدستور لصالح شخص ما، هو موقف الرئيس محمد ولد عبد العزيز نفسه الذي أكد في أكثر من مرة إنها ليست في صالح البلد أو استقراره”.
وسبق أن تعهد محمد ولد عبد العزيز في أكثر من مرة بعدم الترشح لولاية رئاسية ثالثة، وترك الموريتانيين يختارون بشكل حر دون ضغوطات، مرشحهم المفضل لحكم البلاد في السنوات الخمسة القادمة وقيادتها نحو التقدم والتطور، باعتبار أن تعديل الدستور سيمس باستقرار البلاد.
مخاوف كبيرة على السلم الاجتماعي للبلاد
بدوره، قال الإعلامي الموريتاني الشيخ محمد المختار دي: “كل ما يحدث اليوم في موريتانيا هو تمهيد للمأمورية الثالثة للجنرال محمد ولد عبد العزيز، وهو أمر لو حدث فإن ذلك يعني نهاية حلم التداول السلمي على السلطة الذي وعد به الجنرال كما يعني نهاية أي حلم بأن تقوم دولة ديمقراطية في البلاد”.
وأضاف الشيخ محمد المختار دي “ما يحصل يؤكد أن الجنرال الذي جاء بانقلاب عسكري سنة 2008 لن يرحل إلا بانقلاب عسكري كما هو حال الجنرالات والسلطة في بلادي وهو أمر خطير جدًا فسنة 2019 ليست سنة 2008، فهناك تغييرات اجتماعية طرأت وجيل جديد كبر ورأى العالم وعاصر التكنولوجيا والعولمة ولن يقبل بعودة البلاد إلى نقطة الصفر”.
بدا اهتمام الموريتانيين في الأيام القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي منكبًا على المبادرات الداعية للمأمورية الثالثة لولد عبد العزيز
يؤكد الإعلامي الموريتاني في حديثه لنون بوست، أن هذا الأمر إن حصل “سيؤثر على البلاد أولاً سياسيًا من ناحية التظاهرات والاحتجاجات فلن يحدث هدوء لفترة طويلة مما قد يؤثر على أمن واستقرار البلاد، كما سيؤثر عليها من الناحية الاقتصادية، حيث لن يحدث هناك استقرار ولا استثمارات فستتوقف عجلة الاقتصاد الذي بدأ في النمو مؤخرًا بحسب البنك الدولي”.
وكشف تقرير البنك الدولي عن توقعات الاقتصاد العالمي لسنة 2019 ريادة موريتانيا نمو الاقتصاد في المنطقة المغاربية، رغم أنها تصنف أفقر دولة في المغرب العربي، وبين التقرير أن موريتانيا ستتربع على النمو الاقتصادي في المنطقة المغاربية، بنسبة نمو تصل إلى 4.9% في السنة الحاليّة، بعدما حققت نسبة نمو بلغت 3% في سنة 2018.
فضلاً عن التأثير السياسي والاقتصادي، يرى الشيخ محمد المختار دي، أن هذه التعديلات سيكون لها تأثيرات اجتماعية كبيرة على البلاد، حيث “سيلعب العسكر لعبة الصراعات العرقية والقبلية إما معسكر الجنرال للإبقاء عليه في السلطة والتجديد له أو المعسكر الذي يريد الإطاحة بالجنرال داخل الجيش وهي لعبة اعتدناها كلما كان هناك تغيير في سدة السلطة وأعلى هرمها”، وفق قوله.
مواقع التواصل الاجتماعي تتفاعل
هذا الجدل انتقل لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث بدا اهتمام الموريتانيين في الأيام القليلة الماضية منكبًا على المبادرات الداعية للمأمورية الثالثة لولد عبد العزيز، وعرفت صفحات الموريتانيين وحساباتهم الخاصة تسابقًا للسخرية من هذه المبادرات والقائمين عليها، وتأكيد رفضهم لها.
في هذا الشأن كتب النائب عن مقاطعة تامشكط عن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم بموريتانيا محمد عبد الرحمن ولد الصبار في حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”: “المأمورية الثالثة الرئيس لا يريدها ونحن لا نريد ما لا يريده الرئيس”.
من جهته كتب الناشط السياسي الموريتاني محمد أمين، على حسابه الخاص على “توتير” تدوينة وجهها إلى من وصفهم بـ”بيادق المأمورية الثالثة”، جاء فيها: “لقد استدبرت أيام صاحبكم وولى عهده وأفل نجمه وما هي إلا أسابيع حتى يعتلي عرشه غيره وسيبدأ حتمًا بتغيير البرلمان والخارطة السياسية، والسابقون السابقون أولئك المقربون”.
بيادق المأمورية الثالثة في #موريتانيا
لقد استدبرت أيام صاحبكم وولى عهده وأفل نجمه وما هي إلا أسابيع حتى يعتلي عرشه غيره وسيبدأ حتما بتغيير البرلمان والخارطة السياسية، والسابقون السابقون أولئك المقربون.
وفي الأخير أهدي الأغنية المبرمجة الى التي تعرف نفسها جيدا— Med Lemine Echvagha (@eddennine) January 12, 2019
بدوره انتقد الإعلامي الموريتاني محمد حيدرة مياه، دعاة المأمورية الثالثة، وكتب في تدوينة له: “الحديث عن المأمورية الثالثة، زعزعة لاستقرار موريتانيا، وزعزعة الاستقرار تعني تبخر أحلام الغاز والثراء، وقدوم المستثمرين”.
الحديث عن المأمورية الثالثة، زعزعة لاستقرار موريتانيا، وزعزعة الاستقرار تعني تبخر أحلام الغاز والثراء، وقدوم المستثمرين، وبدون شك: لا الأطراف الخارجية ترغب في نظام موريتاني فاقد الشرعية، ولا الوضع الداخلي يرغب أو يسمح بذلك.
احترام التناوب ضمان للأمن والأمان، وغير ذلك تهديد للوطن.— أبو عمر mohamed (@meyah94) December 22, 2018
هذا الجدل يأتي قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية المقرّر اجراؤها في شهر مايو/أيار المقبل، وإن لم يتم تعديل الدستور فستكون أول انتخابات رئاسية في موريتانيا يشرف عليها رئيس ممنوع من الترشح بنص الدستور بعد إكماله لعهدته الثانية الأخيرة دستوريا، غير أن المتابع لما يجري في البلاد يتقين صعوبة اجراء هذه الانتخابات بالطريقة التي يأمل فيها الموريتانيين، فكيف سيكون موقف القوى الغربية والإقليمية من ذلك؟