خلال وقت قصير سيصبح من حق الجيش الروسي إطلاق النار على أي طائرة مدنية تتعرض للاختطاف من جماعات إرهابية وترفض الانصياع لأوامر الهبوط، وترى وزارة الدفاع الروسية التي قدمت مشروع قانون مثير للجدل بهذه القضية، أن هلاك ركاب طائرة مدنية سيئة الحظ، سيكون أفضل كثيرًا، من تعريض أعداد كبيرة لكارثة أكبر، حال عدم التحكم في مصيرها وتوجيهها إلى تدمير بنى تحتية أو عسكرية بواسطة الخاطفين، لكن مشروع القانون الجديد، إذا ما تحول إلى سباق عالمي، لا يلتزم بضوابط الاتفاقيات الدولية في التعامل مع الطائرات المدنية المخالفة، فقد ندخل سردابًا موازيًا للأسلحة النووية، ولن تعرف البشرية كيفية للخروج منه!
روسيا.. لماذا الآن؟
ترى وزارة الدفاع الروسية أن القانون المعمول به في البلاد ليس كافيًا، إذ يتضمن بنودًا متعارضة، تمكن الجيش من إطلاق النار على الطائرات المدنية المختطفة، ولكنها في نفس الوقت تحظر عليه إسقاط أي طائرة تنتهك الحدود الروسية إذا كانت تقل ركابًا، وبالموافقة على مشروع القانون الجديد، يصبح من حق الجيش الروسي إسقاط جميع الطائرات التي ترفض إطاعة الأوامر بالهبوط، ولا استثناء في ذلك، سواء كانت مدنية أم حربية أم طائرات دون طيار.
يعطي القانون الجديد، المتوقع تفعيله خلال الشهر المقبل، للجيش الروسي وتقديراته الأمنية، حق اتخاذ قرار بإلاسقاط فورًا أو ممارسة نوع من ضبط النفس بحق طائرات الركاب المختطفة، إذا كان هناك خطر يتوجب الانتظار للحفاظ على حياة أشخاص، أو التعامل الفوري كيفما يرى، لو ترتب على عملية الخطف التسبب في حادث بيئي، وتهديد للبنى التحتية والتجمعات البشرية.
ويدعم القانون الجديد، الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الذي قام بتسويقه للشارع الروسي والعالم، عبر فيلم وثائقي يحمل اسمه، من خلال الكشف عن حادث من نفس النوع عام 2014، وأمر بوتين بشكل شخصي بإسقاط طائرة ركاب كان يشتبه في حملها قنبلة، لتخريب حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي الروسية، وتحدث الرئيس الروسي عن تفاصيل دقيقة، موضحًا أنه تلقى اتصالاً هاتفيًا من رجال الأمن المسؤولين عن الأولمبياد في الـ7 من فبراير 2014، قبيل حفل افتتاح الدورة، وأبُلغ أن الطائرة خرجت من أوكرانيا إلى إسطنبول، وهناك تعرضت للخطف، والمسؤولون عن ذلك يطالبون بالهبوط في سوتشي.
الطائرة التي يتحدث عنها بوتين، كانت من طراز بوينغ 737-800، وتتبع شركة بيغاسوس أيرلاينز التركية، وكانت تقل 110 ركاب، وخرجت من كييف إلى إسطنبول، وخلال مغامرة الخطف، جمّع قائد الطائرة بعض المعلومات، أشارت إلى إفلات أحد الركاب بقنبلة، وحدد القائد خط سيره الاضطراري بالهبوط في سوتشي، المدينة التي تقع في إقليم كراسنودار كراي بروسيا، وسريعًا توقعت التقاريرت الأمنية تعرض نحو 40 ألف شخص الموجودين بالملعب لمشاهدة حفل الافتتاح، لكارثة غير مسبوقة في البلاد.
حاول بوتين في البداية، اتخاذ قرار يحافظ على حياة الجميع، وتفنيد خطة الطوارئ الموضوعة مسبقًا للتصرف في مثل هذا الموقف، ولم يجد أمامه إلا إصدار القرار بإسقاط الطائرة، لتحدث معجزة إلهية قبل تدمير الطائرة، حيث سيطر الطاقم المسؤول على الخاطف، وتبين أنه راكب مخمور، وواصت الطائرة رحلتها إلى تركيا، إلا أن الحادث واللحظات العصبية التي عاشتها القيادة الروسية، ومفصلية الموقف وأهميته بالنسبة للبلاد، وكل الخيالات التي طاردت بوتين في هذا التوقيت، عن تداعيات حادث مثل هذا، لو نجح في إسقاط الطائرة بالفعل بالاستاد، لم ينته من ذاكرة القيادة الروسية.
استهداف الطائرات المدنية.. كيف ومتى؟
تستند روسيا إلى تجارب دول عديدة في اتباع قوانين صارمة خلال التعامل مع إرهاب الجو، لتسويق قانون إسقاط الطائرات الجديد، ولكن منذ متى كان البشر بهذه المثالية، ولا يتعارض ما هو متراص على الورق مع الممارسات بأرض الواقع، لا سيما أن روسيا لا تعيش حربًا تهدد أمنها لهذه الدرجة، بل صراعات مخابراتية من الدرجة الأولى مع منافسيها في العالم، بكل ما في هذه المعارك من أساليب معروفة، بما قد يسهل من استهداف الطائرات المدنية بمثل هذا القانون لأسباب سياسية وليست أمنية بالضرورة.
وما يطرح الكثير من التساؤلات فيما وراء القرار الروسي، أن القانون الجديد لم يتعرض لكيفية الاستعانة بالقوانين المتبعة في التصدي للعمليات الجوية العدائية بديباجة القانون المقترح، الذي يجب أن يخضع أولاً للمبادئ الأربع: القانون الإنساني، التقييد، الضرورة العسكرية، الإنسانية والتناسبية، بجانب القوانين التي توضح آليات الحرب الجوية، في لوائح لاهاي، والبروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف، التي تنص على قيود ومحرمات ذات صلة، والمبادئ التوجيهية لكيفية الاشتباك مع الطائرات في الجو، خاصة أن صناعة الطيران واحدة من الصناعات الأكثر تنظيمًا في العالم، والملاحة الجوية من بين أول من استخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتوظف قوة الشبكات العصبية لاتخاذ قرارات ذكية، ولا يتوقف التطوير على ذلك، بل تستطيع الطائرات اتخاذ قرارات استباقية لتعزيز السلامة، كما يتم تأهيل الطيار على استخدام الذكاء الاصطناعي بما يمكنه من التنبؤ بكل شيء بدلاً من انتظار رد الفعل.
قانونيًا، تنص المادة الأولى من اتفاقية شيكاغو لعام 1944، التي تنظم شؤون الطيران المدني على حق كل دولة في السيادة الكاملة والمطلقة على الفضاء الجوي الذي يعلو إقليمها، وتنص المادة الثالثة من نفس الاتفاقية على عدم جواز لأي طائرة سواء عسكرية أم جمركية أم شرطية، أن تطير فوق إقليم دولة أخرى، قبل الحصول على ترخيص بذلك من خلال اتفاق خاص أو غيره احترامًا لمبدأ السيادة المطلقة للدولة على إقليمها الجوي، وهي وحدها صاحبة الحق في تحديد الوضع القانوني لاستخدام إقليمها الجوي مع مراعاة المبادئ والقواعد المنصوص عليها في المعاهدات الدولية والقانون الدولي.
وبحسب القوانين الدولية، لا يحق لأي طائرة عمومًا التحليق في المجال الجوي لأي دولة، لتنفيذ أي ممارسات تصنف على أنها عدائية، مثل إجراء استطلاعات بالتصوير الفوتوغرافي أو الإلكتروني أو شن هجوم مباشر، ولكن بمجرد بدء اختراق القانون، يكون الإجراء المعتاد هو إعلان منطقة حظر جوي، بجانب استخدام الطائرات الطبية والبحث والإنقاذ، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم إسقاط الطائرات المدنية، حفاظًا على الأرواح البشرية، أما الطائرات الحربية فيجوز استخدام القوة لإسقاطها إذا خرقت الأجواء الوطنية، ويكون ذلك بعد إثبات اختراق الطائرة بشكل لا لبس فيه لمجالها الجوي.
السفر بالطائرات لم يعد آمنًا
حتى الآن لا وجود لهذه الفكرة، رغم تصاعد نسب الأفكار المتطرفة في الفضاء العالمي، للتعامل مع التهديدات الأمنية، ووفقًا لدراسات أمريكية فإن المسافرين على متن القطار أو الحافلة أكثر عرضة للموت بنحو 5 مرات من المسافرين على متن طائرة، أما المسافرون في السيارة هم عرضة للموت أكثر من 72 ضعف المسافرين جوًا، بينما تزيد احتمالات الوفاة بسبب قيادة الدراجة النارية، أكثر من الطائرة نحو 3000 مرة، وأيضًا السفر بالقطار، تزيد احتمالات الموت فيه مقارنة بالسفر جوًا، نحو 100 درجة، وذلك وفقًا لدراسات وأبحاث علمية أمريكية.
أسوأ الأوقات التي كانت ترتبط بمخيلة المسافرين عن الطائرات، كانت في أعقاب أحداث سبتمبر عام 2011، ورصدت تقارير تجنب أعداد كبيرة من الأمريكيين السفر عبر الجو، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أن السفر بالسيارة لمسافات طويلة، يعرضهم لأخطار مضاعفة، عن تلك التي يمكن أن يتعرضوا لها في الجو، مما دفعهم لاستقلال الطائرات من جديد.
وعلى الرغم من شيوع الكثير من حوداث الطائرات بأنواعها المختلفة خلال السنوات الماضية، فإن الطيران ما زال يحتفظ بسجل أمان جيد للغاية، ويتحسن ويطور نفسه دائمًا، ورغم التغطية الإعلامية السيئة غالبًا عن مثل هذه الحوادث، بما يساهم في إحساس البعض بالخطر، فإن الطيران بالمقارنة مع وسائل النقل الأخرى، هو الأكثر شفافية ووضوح في كل التفاصيل التي تتعلق بالحوادث، كما أن الطيار المدني يخضع لتدريبات صارمة، وهي الأكثر صرامة حتى من ضباط الشرطة ورجال الإطفاء وغيرها من المهن الأمنية التي لا تقل أهمية، بما يجعل الركاب في أيدي أمينة، بالمقارنة مع قائدي السيارات والقطارات وغيرها من وسائل النقل.