وُلدتُ في 1902
لم أعد أبدًا إلى مسقط رأسي
أنا لا أحب الرجوع إلى الوراء
كتاباتي منشورة في ثلاثين أو أربعين لغة
لكنها ممنوعة في بلدي تركيا، بلغتي التركية
السرطان لم يقترب مني بعد
وليس شرطًا أن يقترب
لن أكون رئيس وزراء أو شيئًا من هذا القبيل، أبدًا، ولا أهتم أصلاً بهذه الأشياء
لم أدخل حربًا
ولم أنزل إلى المخابئ في منتصف الليل
ولم أمش في طريق تحت طائرات منقضّة
لكنني وقعت في الحب في الستين تقريبًا
باختصار يا رفاق
حتى إذا كنتُ اليوم أئنّ في برلين من الحزن
يمكنني أن أقول إنني عشتُ كإنسان
ومَنْ يدري
كم سأعيش أكثر
وماذا سيحدث لي أيضًا!
بهذه الكلمات، يُعرِّفنا بنفسه الشاعر التركي ناظم حكمت التي مرت أمس ذكرى ميلاده الـ117، تعد حياة حكمت رحلة شعرية نضالية طويلة بدأت مبكرًا، فرغم أنه ابن العائلة الأرستقراطية ذات النفوذ (حيث كان أبوه قنصلاً في وزارة الخارجية، وجده كان أحد الولاة الأتراك)، فإنه عارض الاستغلال والاضطهاد الذي كان يمارسه النظام الإقطاعي في تركيا آنذاك، ودعم بأشعاره الفلاحين المضهدين، وما لبث أن التحق بالمدرسة البحرية العسكرية، حتى فُصِل منها بسبب نشاطه السياسي.
منذ عام 1920 بدأ ناظم حكمت في نشر قصائده، وكان يكتب آنذاك على وزن “الهجا” التركي التقليدي مستخدمًا القوافي، وتعرض للسجن بعد إصداره الديوان الأول، لكنه استطاع أن يهرب بعد ذلك من السجن، ومن هنا أخذت حياة ناظم حكمت منحى جديدًا، فأصبحت ما بين الشعر والسجن والمنفى، كتب خلالها العديد من الأشعار من أجل الفقراء والمقهورين، حتى أصبح من أبرز الشعراء الثوريين في العالم.
بعد عودته إلى تركيا في أواخر 1928 كان متحمسًا في أول الأمر للتغيير الذي أحدثه مصطفى كمال في تركيا، إلا أن سياسات أتاتورك لم تعجبه بعد ذلك، وبدأ في معارضته، وقد دفعته معارضته السياسية إلى السجن مرة أخرى، وتمت محاكمته عسكريًا
“إذا لم أحترق أنا، وإذا لم تحترق أنت، وإذا نحن لم نحترق، فمن الذي سيبدد الظلمات؟”، هكذا يقول ناظم حكمت، الذي لم يتوقف عن نشر أشعاره ومقالاته المعارضة خلال سنوات حرب الاستقلال، ولكن بأسماء مستعارة، إلا أنه اضطر أن يسافر إلى روسيا عام 1921، فتأثر هناك بالشاعر الروسي الشهير فلاديمير ماياكوفسكي، وبدأ بكتابة الشعر الحر الذي تحرر من وزن الهجا ومن القوافي بدرجة من الدرجات، وأصبح بلا منازع رائد الشعر التركي الحر، حيث نجح في توسيع آفاق القصيدة التركية.
بعد عودته إلى تركيا في أواخر 1928 كان متحمسًا في أول الأمر للتغيير الذي أحدثه مصطفى كمال في تركيا، إلا أن سياسات أتاتورك لم تعجبه بعد ذلك، وبدأ في معارضته، وقد دفعته معارضته السياسية إلى السجن مرة أخرى، وتمت محاكمته عسكريًا، وحكم عليه بـ28 عامًا.
مُنعت قصائد ومقالات ناظم حكمت من النشر في تركيا، وقد عبَّر عن ألمه من ذلك، بقوله: “أنا الذي تجسَّدتْ فيه مدينة إسطنبول، فاشهد يا شعب تركيا، وآن لك أن تشهد ما أعانيه من آلام”، لكنه استمر في الكتابة خلال فترة السجن، فكتب العديد من الأعمال الشعرية، منها: “ملحمة حرب الاستقلال التركية”، وصف فيها الأبطال المجهولين الذين كان لهم دور في هذه الحرب، عندما واجهوا الجيش اليوناني وحلفائه، كما كتب عدة مسرحيات شعرية، منها “يوسف الصديق”، وظل طوال فترة السجن يكتب رسائل إلى زوجته، في أثناء انتظاره لقانون العفو الذي تأخر 14 عامًا، بالإضافة إلى كتابة العديد من القصائد، التي أصبحت أغاني نزلاء السجون آنذاك.
يعتبر النقاد الأدبيون ناظم حكمت رائدًا لمدرسة الواقعية الاجتماعية في الشعر التركي، وقد أثر على العديد من الشعراء الأتراك الذين جاؤوا من بعده كأحمد عارف وحسن حسين، كما أثر أيضًا على بعض شعراء العربية، كالشاعر السوري نزار قباني والعراقي عبد الوهاب البياتي والفلسطيني محمود درويش
استخدم ناظم حكمت في شعره لغة حية يتحدث بها رجل الشارع، وذاع صيت أشعاره السياسية داخل تركيا وخارجها، ورفعتها الأحزاب والحركات السياسية كشعارات لها، وقد دمج في قصائده همه الشخصي بالهم العام، مثلما يقول في إحدى قصائده:
إذا كان نصف قلبي هنا أيها الطبيب
فنصفه الآخر هناك في الصين
مع الجيش الزاحف نحو النهر الأصفر
وكل صباح، عند شروق الشمس
يطلقون الرصاص نحو قلبي في اليونان
عندما ينام السجناء، ويغادر الكلّ المستشفى
يطير قلبي ليحطَّ على بيت مهدّم في إسطنبول
كل ليلة أيها الطبيب
ومنذ عشر سنوات
ليس لديّ ما أقدمه لشعبي الفقير
سوى هذه التفاحة التي بيدي
تفاحة واحدة حمراء، هي قلبي
هذا هو سبب الذبحة الصدرية أيها الطبيب
ليس النيكوتين، وليس السجن
وليس تصلُّب الشرايين
في الليل، أحدّق عبر القضبان
ورغم الثقل الذي يطبق على صدري
ما زال ينبض مع النجوم البعيدة.. البعيدة!
بعد خروجه من السجن عام 1950، طالته حملات تشويه اليسار في تركيا آنذاك، واتهم بإبعاد الشباب التركي عن دينه، ففر ناظم حكمت إلى الاتحاد السوفييتي، وفي العام التالي سحبت منه الجنسية التركية بقرار من مجلس الوزراء (أعيدت له عام 2009)، وظل في روسيا حتى وفاته بسكتة قلبية عام 1963، تنقل خلال هذه الأعوام بين عواصم شتى، وكانت أغلب أشعاره في هذه المرحلة عن الغربة وحنينه إلى تركيا والموت.
لم يهتم ناظم حكمت بشكل شعره بقدر اهتمامه بمضمونه، ويتجلى ذلك بوضوح في قصائده التي من الممكن أن يبدأ السطر الشعري فيها بكلمة واحدة فقط، ويعتبره النقاد الأدبيون رائدًا لمدرسة الواقعية الاجتماعية في الشعر التركي، وقد أثر على العديد من الشعراء الأتراك الذين جاؤوا من بعده كأحمد عارف وحسن حسين، كما أثر أيضًا على بعض شعراء العربية كالشاعر السوري نزار قباني والعراقي عبد الوهاب البياتي والفلسطيني محمود درويش.
جمع ناظم حكمت بين القومية الوطنية والأممية العالمية، فكان متعلقًا بوطنه، لكنه في نفس الوقت، كان يدعم بأشعاره كل مضطهدي العالم
لم يكتب ناظم حكمت الشعر فقط، لكنه كتب أيضًا عدة روايات، مثل: “التفاح الأخضر” و”الدم لا يتكلم” و”الحياة جميلة يا رفيقي”، وله في المسرح أيضًا “عصيان المرأة”، كما كتب العديد من الرسائل مثل “رسائل إلى بيرايا” وهي حبيبته وزوجته، ورسائل إلى ابنه “رسائل من السجن إلى محمد فؤاد”.
جمع ناظم حكمت بين القومية الوطنية والأممية العالمية، فكان متعلقًا بوطنه، لكنه في نفس الوقت، كان يدعم بأشعاره كل مضطهدي العالم، أينما كانوا، وجدير بالذكر، أنه كتب في أثناء العدوان الثلاثي على مصر، قصيدة بعنوان “بورسعيد”، تحدث فيها عن الجندي المصري المقاتل المجهول.
مسيرة طويلة لشاعر عظيم، ظل وجدانه ممتلئًا بكل ما يدور في عالمنا من مآسي، وما يزخر به من ثورات، رفع راية الكفاح الدائم ضد الظلم والاستغلال والقهر، فاستحق أن يكون واحدًا من أبرز شعراء العالم في القرن العشرين، وليس شعراء تركيا فقط، ورغم ما تعرض له شعره من مصادرات، يظل الصوت الشعري الأبرز في تركيا حتى الآن.