ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اعتمدت إسرائيل الإبادة الجماعية كاستراتيجية لمواجهة المقاومة، ويأتي ذلك امتدادًا لسياسة التطهير العرقي التي اعتمتدها إبان نكبة سنة 1948، مع تباين الأهداف.
خلال النكبة، استُخدم التطهير العرقي لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم وإفساح المجال للمستوطنين الجدد القادمين من أوروبا، وكان هذا التهجير جزءًا أساسيًا من المشروع الاحتلالي الاستيطاني، ولولاه كان من المستحيل إقامة مستعمرة جديدة.
ولكن ما حدث في غزة العام الماضي، وخاصة في الشمال، وفي جباليا مؤخرًا، هو إبادة جماعية تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين بالكامل، وإجبارهم على الاستسلام. وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحةً أن الهدف هو استئصال التطرف من غزة من خلال الحرب، ويذكّرنا هذا التكتيك الفظيع لمكافحة التمرد بأساليب الاستعمار الكلاسيكي.
خلال الاحتلال البريطاني لفلسطين، ارتكب الجيش البريطاني العديد من الفظائع.
وكان فترة اللواء أورد وينغيت من أشد الحقبات سوءا، حيث شكّل فرقة ليلية خاصة لإرهاب الفلسطينيين وإخضاعهم خلال الثورة العربية. وقد أرست هذه الفرقة، التي تكونت من جنود بريطانيين وقوات صهيونية شبه عسكرية من عصابات الهاغاناه، الأساس للعقيدة القتالية لجيش الدفاع الإسرائيلي.
انخرطت هذه الفرقة الليلية في أعمال تعذيب وقتل عشوائي واجتياح للمنازل وتدمير للممتلكات، وهدفت هذه الأنشطة إلى عزل الثوار عن مجتمعاتهم، مما سهل القضاء على المقاومة ضد الاحتلال البريطاني.
وخلال الثورة العربية، قامت القوات البريطانية بتدمير أكثر من 5,000 منزل لتخويف الفلسطينيين ومعاقبتهم على المقاومة وعدم التعاون ضد الثوار، وشكّلت هذه الأعمال الإجرامية نموذجًا استخدمه الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين منذ تأسيسه.
العصا والجزرة
يستند تطوير تكتيكات مكافحة التمرد المتمحورة حول السكان إلى حقيقة أن الجيوش الاستعمارية لم تستطع تاريخيا هزيمة المتمردين في حروب العصابات.
فكلما قُتل مقاوم، يحل آخر مكانه، وإدراكًا منها لأهمية دعم الحاضنة الشعبية في استدامة المقاومة ضد الاحتلال، طورت الجيوش الاستعمارية استراتيجيات تهدف إلى دق إسفين بين المقاومين ومجتمعاتهم، واتبعت هذه الاستراتيجيات نهج العصا والجزرة.
فقد طورت القوى الاستعمارية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، سياسات لمكافحة التمرد، مستخدمة شعار “كسب القلوب والعقول”.
فعلى سبيل المثال، أُنشئت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) لتكون بمثابة أداة قوة ناعمة للإمبريالية الأمريكية خلال حرب فيتنام.
ومنذ أن أنشأ الرئيس جون كينيدي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فرّقت الولايات المتحدة بوضوح بين المقاتلين والمدنيين لتحقيق أهدافها الإمبريالية من خلال التخفيف من غضب ضحاياها، وتمثل دور الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في توفير الرعاية الصحية وبرامج المساعدة التعليمية والمساعدات الاقتصادية وبرامج التنمية الزراعية لتقليل تأثير المتمردين على السكان.
وقد استُخدم هذا الأسلوب في فيتنام وأفغانستان والعراق وفلسطين.
وبالمثل، خلقت الولايات المتحدة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر ثنائية المسلمين “الأخيار” مقابل المسلمين “الأشرار”، استنادًا إلى موقفهم من الإمبريالية الأمريكية، وقد انتقل هذا التكتيك إلى فلسطين بعد الانتفاضة الثانية كجزء من استراتيجية مكافحة التمرد المصممة لخلق انقسام بين الضفة الغربية وغزة.
“الأخيار والأشرار”
شهدت الضفة الغربية ازدهارًا اقتصاديًا في ظل جهود الجنرال الأمريكي كيث دايتون لخلق “جيل فلسطيني جديد” لا يرى في إسرائيل عدوًا، وذلك عبر استمالة السكان وتحريضهم ضد المقاومة. نتيجةً لذلك، أصبح الفلسطينيون في الضفة الغربية بمثابة “الأخيار”، بينما خضعت غزة للحصار الخانق والقصف المستمر، لأن سكانها اختاروا أن يبقوا في صف “الأشرار”.
ورغم الحصار القاسي الذي استمر 17 عاما، لم تستسلم غزة، وتمكنت حركات المقاومة الفلسطينية من الاستمرار في بناء قوتها حربًا تلو الأخرى؛ حيث تكيفت مع إغلاق الحدود وإغراق أنفاقها مع مصر وكثفت من تصنيع الأسلحة.
ومن الواضح أن تقسيم الفلسطينيين إلى “أخيار” مقابل “أشرار” لم تكن فعالة في دفع سكان غزة إلى رفض المقاومة، حتى أن حركة فتح حاولت بعد الربيع العربي في 2011 إثارة الاحتجاجات ضد حماس لإسقاط نظامها.
اعتمدت إسرائيل على الحروب القصيرة على غزة منذ سنة 2006 كأداة لاحتواء حماس والفصائل الأخرى، دون أن تتمكن من القضاء على المقاومة أو القضاء على الدعم الشعبي لها. شعرت إسرائيل، حربا تلو الأخرى، بأنها تستطيع ردع حماس لبضع سنوات، ولا سيما عندما اقترن ذلك بعددٍ كبير من القتلى والدمار الهائل الذي تطلب تضميد الجراح وإعادة البناء.
أبقت إسرائيل الحصار محكمًا قدر الإمكان، خاصة بعد الانقلاب في مصر 2013، وقد وفرت لها استراتيجية الاحتواء دليلًا إرشاديًا حول كيفية التعامل مع أي تهديد قادم من غزة؛ حيث تشابهت جميع الحروب التي خاضتها إسرائيل بين سنتي 2006 و2022 في كيفية بدايتها ونهايتها.
ولكن، بعد هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وجدت إسرائيل نفسها – بعد الصدمة الأولية – غير قادرة على إعادة استخدام هذا الدليل في التعامل مع هذا الحدث غير المسبوق.
بدت أساليبها المعتادة في مكافحة التمرد غير مناسبة للحد من تأثير الهجوم أو تحجيمه، وفي تلك اللحظة، بدا أن إسرائيل أدركت أن استراتيجية الاحتواء التي اتبعتها قد فشلت في منع مثل هذه الهجمات.
لم يقوّض هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر إجراءات الردع الإسرائيلية وإجراءات مكافحة التمرد فحسب، بل كشف ضعف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أمام حركات المقاومة، واعتُبر ذلك تهديدًا وجوديًا لإسرائيل ودحض مزاعم تفوقها العسكري، وقوّض الهيمنة والمصالح الأمريكية في المنطقة.
لذلك، قدمت الولايات المتحدة دعمًا وغطاءً سياسيًا وماليًا وقانونيًا وعسكريًا وإعلاميًا غير مسبوق لإنقاذ إسرائيل من خسارة دورها كدولة عميلة للإمبراطورية الأمريكية، واضطرت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إعادة النظر في تكتيكاتهما في مكافحة التمرد.
وبدلًا من عزل حركات المقاومة عن حاضنتها، قررتا طمس الخط الفاصل بينهما. ومن ثم، بدأت إسرائيل بتنفيذ تكتيكات مشابهة لتلك التي استخدمتها في خطة “دالت” التي وُضعت لطرد الفلسطينيين من منازلهم قسرًا عام 1948، وفرضت على الفلسطينيين تكلفة باهظة بسبب تجرؤهم على التمرد على سيطرتها وردعهم عن التفكير في تكرار ذلك.
تحدي جباليا
لقد تطلّب الهجوم الهائل الذي أذلّ قوة إسرائيل العسكرية ردًا وحشيًا، فكانت المذبحة. منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تستخدم إسرائيل الإبادة الجماعية كأداة لمكافحة التمرد والقضاء بشكل كامل على المقاومة وحاضنتها الشعبية؛ حيث لم تعد هذه الآلية تعتمد على عزل المقاومين عن حاضنتهم، بل على القضاء عليهما معًا.
منذ بداية الاجتياح البري، حاولت إسرائيل أن تجعل شمال غزة مكانا غير صالح للعيش من خلال تدمير جميع مناحي الحياة.
بالإضافة إلى القصف الذي لا يتوقف للمنازل والبنية التحتية، قامت إسرائيل بتجويع سكان غزة، وقصفت المستشفيات والملاجئ لحرمانهم من أي شعور بالأمان أو أمل في الحياة. مع ذلك، رفض سكان الشمال، وخاصة سكان مخيم جباليا، التهجير وصمدوا في مكانهم.
لم يكن سكان مخيم جباليا، الذين يفضلون تسميته “معسكر جباليا” للتأكيد على أهمية المقاومة بدلًا من القبول بمصيرهم كمجرد لاجئين، هم من أطلق شرارة الانتفاضة الأولى فحسب، بل صمدوا طويلا أمام محاولات التهجير الإسرائيلية.
لطالما رفض سكان المخيم مغادرة منازلهم حتى عندما هددت إسرائيل بقصفه؛ وقد قصفت إسرائيل منزل القيادي في حركة حماس نزار ريان عام 2009، وقتلته مع 15 فردًا من عائلته لرفضه ترك منزله.
بسبب هذا الإرث الذي تحمله جباليا من المقاومة والصمود، حاولت إسرائيل دائمًا كسر شوكة سكانها، وليس من المستغرب أن تركز إسرائيل حاليًا على سياسة الإبادة الجماعية في المخيم كنموذج جديد لسياسة مكافحة التمرد.
يمكن اعتبار جباليا دير ياسين عصرنا الحالي؛ حيث مهدت تلك المذبحة لتهجير الفلسطينيين من ديارهم عام 1948 حتى يتمكن الصهاينة من إقامة دولة إسرائيل.
منذ أن نشر زئيف جابوتنسكي مقاله “الجدار الحديدي” عام 1923 (والذي كتب فيه: “لطالما قاوم السكان الأصليون، سواء كانوا متحضرين أو غير متحضرين، المستعمرين بعناد، بغض النظر عما إذا كانوا متحضرين أو متوحشين”)، تحاول إسرائيل إجبار الفلسطينيين على الاستسلام بأساليب مختلفة، مهما كان الثمن.
ومثلما قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، موشيه يعلون، خلال الانتفاضة الثانية، بأن إسرائيل بحاجة إلى أن ترسخ في وعي الفلسطينيين أن المقاومة لن تجلب لهم سوى البؤس، فإن إسرائيل الآن تحرق غزة بأكملها للقضاء على القضية الفلسطينية تمامًا.
المصدر: ميدل إيست آي