تسود حالة من الجدل على الشارع المصري بعد التسريبات التي انتشرت بكثافة مؤخرًا على منصات التواصل الاجتماعي وتشير إلى بيع، أو نية بيع، بحيرة البردويل الواقعة في محافظة شمال سيناء (شمال شرق مصر) إلى مستثمرين إماراتيين برعاية وحماية اتحاد قبائل سيناء، المُدشن مؤخرًا وصاحب التنظيم والرعاية للحفل الذي أقيم في العاصمة الإدارية بالقاهرة في 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وتعد بحيرة البردويل أحد أهم المواقع الاستراتيجية على الساحل الشمالي لسيناء، وهي ثاني أكبر بحيرات مصر الخمسة، بعد بحيرة المنزلة وقبل بحيرة البرلس، وتبلغ مساحتها 165 ألف فدان، وهي أحد أهم مصادر الثروة السمكية في سيناء ومصر عمومًا، كما تحتضن العديد من الإمكانيات والامتيازات البيئية والسياحية التي تجعلها مثار اهتمام أصحاب رؤوس الأموال في الداخل والخارج.
وكانت بعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي قد نشرت خلال اليومين الماضيين معلومات عن منع السلطات المصرية للصيادين المصريين العاملين في بحيرة البردويل من دخولها والصيد فيها، في الوقت الذي سُمح فيه لوفد إماراتي بالتجول بأريحية داخلها، وهو ما أثار الشكوك ودفع الكثيرين للتساؤل عن حقيقة بيعها للإماراتيين أسوة بغيرها من المناطق اللوجستية التي بيعت لمستثمرين إماراتيين وسعوديين، لسد العجز الدولاري والوفاء بالالتزامات المادية على الدولة المصرية، في ظل سياسة بيع الأصول التي تنتهجها الدولة المصرية للخروج من مأزقها الاقتصادي الصعب.
ورغم نفي الحكومة المصرية لخطوة البيع والحديث عن تكليف شركة ما لتطوير البحيرة، فإن ذلك لم ينفِ حالة القلق المسيطرة على المزاج الشعبي المصري.
بحيرة البردويل.. لؤلؤة الساحل الشمالي لسيناء
تتميز بحيرة البردويل بموقع استراتيجي مهم للغاية، إذ تقع على مساحة إجمالية تصل لنحو 700 كيلومتر مربع، تمتد من المحمدية غربًا قرب بورسعيد بنحو 35 كيلومترًا حتى قبل العريش بنحو 50 كيلومترًا، ويبلغ طولها ككل نحو 130 كيلومترًا، وتتصل بالبحر الأبيض المتوسط بفتحة أو بوغاز اتساعه نحو 100 متر، وتحتل المساحة الأكبر على طول الساحل الشمالي لسيناء.
مقارنة ببحيرات مصر الأربعة الأخرى (مريوط في مدخل الإسكندرية وبحيرة إدكو في مدخل رشيد، وبحيرة البرلس في كفر الشيخ ثم بحيرة المنزلة بين دمياط وبورسعيد) تعد البردويل البحيرة الأكثر نقاءً من التلوث الزراعي والصناعي، كونها في منطقة صحراوية بعيدة عن التجمعات السكنية أو الصناعية أو الزراعية، وهو ما يجعلها بمنأى عن المخلفات المعتاد التخلص منها في الممرات المائية المختلفة.
وينعكس هذا النقاء على نوعية الأسماك بالبحيرة، إذ تعد الأعلى جودة والأكثر إقبالًا عليها، ويتراوح إنتاج البردويل من الأسماك بين 2000 إلى 3000 طن، ووصل خلال الفترة الأخيرة إلى 4500 طن سنويًا، ومن أشهر الأسماك الموجودة بها الدنيس والقاروص واللوت والطوبارة والعائلة البورية وسمك موسى والجمبرى والكابوريا، وهي النوعيات التي يتهافت عليها مستوردو الأسماك في أوروبا، حيث تتسابق السفن يوميًا للحصول على أطنان السمك المستخرجة كل صباح من البحيرة التي يعمل بها نحو 5 آلاف صياد و2000 مركب صيد على الأقل.
وتُحاط البحيرة بالعديد من المعالم الطبيعية الجذابة، على رأسها محمية الزرانيق الواقعة في الجزء الشرقي للبردويل، والبالغ مساحتها 30 كيلومترًا غرب العريش، والتي تتميز بموقعها الفريد إذ تربط بين قارات العالم القديم، آسيا وإفريقيا وأوروبا، كما تعد جسرًا رئيسيًا لعبور الطيور المهاجرة بين تلك القارات في فصل الخريف والربيع، وقد سُجل نحو 244 نوعًا من الطيور في تلك المحمية تمثل 14 فصيلة أهمها البجع والبشاروش والبط والبلشون وأبو قردان واللقلق ومرزة الدجاج والصقر والسمان والحجوالة والحدأة والكروان والطيطوي والنورس وخطاف البحر والقمري والوروار والغراب والهدهد وأبو فصادة والدقناش والحميراء والأبلق وغيرها.
ويؤهل هذا الموقع الاستراتيجي للبحيرة ومواردها السمكية والبيئية الهائلة لأن تكون واحدة من أهم مراكز الاستثمار المضمون في تلك المنطقة اللوجستية للدولة المصرية، فمن الممكن حال إدارتها بشكل جيد، أن تصبح أهم وأكبر مزرعة سمكية في العالم، كما أن قربها من الحدود مع الدولة الفلسطينية وعلى مقربة من العدو الإسرائيلي وحدود مصر الشمالية الشرقية، يجعلها منطقة أمن قومي قبل أن تكون منطقة استثمارية.. ومن هنا كان القلق.
بيع البحيرة للإمارات.. قلق وترقب
في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024 نشرت الصحفية والناشطة السيناوية، منى الزملوط، سلسلة تغريدات على حسابها على منصة “إكس” ألمحت فيها إلى بيع جزيرة البردويل للإمارات، لافتة إلى منع الصيادين العاملين في البحيرة من النزول وغلقها في وجوههم بشكل كامل، فيما فُتحت أمام الوفد الإماراتي الذي دخل للبحيرة تحت حماية اتحاد القبائل السيناوية بقيادة رجل الأعمال المقرب من السيسي، إبراهيم العرجاني.
وتساءلت الناشطة السيناوية عن أسباب ودواعي وجود الوفد الإماراتي في البحيرة منذ عدة أشهر، يتحركون بأريحية كاملة في كل مدن شمال سيناء، قائلة: “3 أشهر أعيد وأزيد وأكرر ما وظيفة الوفد الاماراتي في سيناء؟ يعني بيعملوا إيه؟ مقيمين من أجل ماذا؟ يتحركوا في كل المدن لماذا؟ ولا شيء مفهوم”، وتابعت: “بحيرة البردويل اللي هي مصدر رزق أبناء سيناء كلهم، الإماراتي عاوزها، ودخلت دماغه”، واختتمت سلسلة تغريداتها بـ”مبروك للمصريين، الإمارات هتاخد بحيرة البردويل في سيناء”.
https://x.com/MonaZamlout/status/1851530703252435126
القلق ذاته ساور الخبير الهندسي المصري، ممدوح حمزة، الذي كتب هو الآخر على حسابه على منصة “إكس”، يستنكر حرمان الصيادين المصريين من النزول لبحيرة البردويل التي تحتضن أنظف سمك في مصر من أجل شركة إماراتية، على حد قوله، مطالبًا الجهات الرسمية بتقديم تفسير للشعب عما يثار بشأن هذا الأمر، قائلًا “لأننا أصبحنا نشعر أن لقمة عيشنا بتعطي لغيرنا”.
أما أستاذ الموارد المائية واستصلاح الأراضي بجامعة القاهرة، نادر نور الدين، فيرى أن ما تتمتع به البردويل كبحيرة من إمكانيات بييئة وثرواتية يؤهلها لأن تكون أفضل مزرعة سمكية في العالم، لافتًا إلى أن دول أوروبا تطلب أسماكها بالاسم وعلى وجه الخصوص، مشيرًا: “لو وصلت للبحيرة بعد السابعة صباحًا فستكون بواخر الأسماك قد تحركت الي أوروبا ولن تجد سمكة واحدة تشتريها” في إشارة إلى جودة نوعية الأسماك بها، مؤملًا نفسه أن تكون أخبار بيعها أو نقلها للإماراتيين غير صحيحة.
https://x.com/Mamdouh_Hamza/status/1851611912968048865
ليست أخبارًا مؤكدة.. ولكن!
في ظل سياسة التعتيم وعدم المكاشفة وغياب الشفافية التي يعاني منها المشهد المصري، يبقى باب الاجتهادات والتكهنات مفتوحًا على مصراعيه، كل يدلو بدلوه ودون أي عراقيل أو محددات، وهو ما يُحدث حالة من الارتباك لدى المصريين الذين يعانون من ثنائية الصمت الحكومي وسيل المعلومات والأخبار الواردة بشكل غير رسمي، والتي رغم فقدان كثير منها للمنطق والواقعية، تبقى مطروحة على طاولة النقاش وفي قائمة الاحتمالات، ما لم تُكذب أو تُثبت.
وفيما يتعلق بالأنباء الواردة بشأن بيع بحيرة البردويل للإمارات، فقد نفت الحكومة في تصريح مقتضب اليوم الخميس ما يتردد عن بيع البحيرة، دون الحديث عن أي تفاصيل أخرى، وهذا في حد ذاته باعث على القلق والترقب، نظرًا للتجارب العدة بشأن هذا السيناريو، حيث تخرج المعلومة في صورة شائعة، تلتزم معها الدولة الصمت أو النفي المقتضب الذي لا يغير من الواقع شيئًا، ثم تُمرر تلك الشائعة لتطور نفسها مع الوقت لتصبح احتمالًا، ثم واقعًا شبه مؤكد، ثم مؤتمرًا كبيرًا يُعلن فيه رسميًا عن صحة تلك الشائعة والكشف عن كل تفاصيلها، وهو ما حدث مع صفقة رأس الحكمة التي استحوذت عليها الإمارات، وما يتم الآن مع صفقة شبه جزيرة رأس بناس ورأس جميلة المتوقع أن يستحوذ عليهما السعوديون قريبًا.
وما يثير قلق المصريين بشأن الأخبار المتداولة عن بيع الجزيرة، التحركات الإماراتية والسعودية الأخيرة للاستحواذ على الأصول المصرية الأكثر أهمية، استثماريًا ولوجستيًا، والتي وصفت بـ”المشبوهة”، لاستهدافها بقاع سحرية ذات إمكانيات ثرواتية عظيمة ومواقع استراتيجية خطيرة، قد تمثل مع الوقت تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، استغلالًا للوضع الاقتصادي المصري المتردي وهرولة الحكومة لبيع الأصول والموارد بأقل من قيمتها السوقية، للحصول على العملة الأجنبية في أسرع وقت للخروج من عنق الزجاجة.
كما أن منح اتحاد قبائل سيناء، ذلك الكيان حديث الولادة، الضوء الأخضر للتصرف والتحرك بأريحية مطلقة في سيناء والتصرف في مواردها دون محاسبة، مسألة تعزز هذا القلق، لا سيما بعد توطيد العلاقة بين العرجاني والسيسي، رغم التحذيرات المتتالية من خطورة هذا الكيان الذي شبهه البعض بـ”فاغنر” و”قوات الدعم السريع”، وتداعياته على الأمن والاستقرار المصري مستقبلًا.
التطوير.. حين يتحسس المصريون مواردهم
في عام 2019 أعلنت الحكومة المصرية عن خطة شاملة لتطوير عدد من المناطق بغرض عرضها للاستثمار، في محاولة لإنعاش خزينة الدولة بالعملات الأجنبية لمواجهة العجز الذي تعاني منه منذ سنوات، كاشفة عن خريطة إجمالية لأبرز المناطق التي من المتوقع أن تدخل ضمن هذه الخطة.
لكن مع مرور الوقت تبين أن الغرض من هذا التطوير ليس عرض تلك المناطق للاستثمار وإنما للبيع، خاصة للسعودية والإمارات، هذا بخلاف نوعية المناطق المُدرجة ضمن تلك الخطة، التي يحتل معظمها مواقع لوجستية محورية، ذات أهمية وقيمة غالية، ولا يجوز التفريط فيها بهذا الشكل مهما كان الثمن ومهما كانت المبررات.
ومن ثم بات الإعلان عن تطوير منطقة ما بمثابة تمهيد شبه رسمي لعرض تلك المنطقة للبيع، وهو ما حدث حرفيًا مع رأس الحكمة التي استحوذت عليها الإمارات مقابل 35 مليار دولار، وشبه جزيرة رأس بناس ورأس جميلة، وفي الطريق جزيرة الوراق وبعض المناطق المطلة على كورنيش النيل بالقاهرة، بجانب حديقة الأورمان بالجيزة وغيرها من عشرات الشركات والمؤسسات الناجحة التي استولى عليها الخليجيون بداعي التطوير.
وفي 2020 أعلنت الحكومة المصرية عن تدشين خطة شاملة لتنمية شبه جزيرة سيناء، كان من بينها مشروع تطوير بحيرة البردويل، بهدف تنمية الثروة السمكية بها وتعزيز إمكانياتها وقدراتها بما يؤهلها لأن تكون مركزًا رئيسيًا لتصدير الأسماك لأوروبا، حيث تم الاستعانة بخبراء أجانب للقيام بهذا الأمر، وهو ما عزز من قلق المصريين بشأن مستقبل البحيرة بعد التطوير.
وأمام هرولة الدولة المصرية للسير بخطوات متسارعة في مسار التخارج وبيع الأصول للحصول على أكبر قدر ممكن من العملات الأجنبية، بصرف النظر عن أهمية وقيمة وخطورة تلك الأصول، وفي ظل التزام الصمت إزاء ما يتردد بشأن بيع بحيرة البردويل للإمارات، تتزايد مخاوف المصريين بشأن ثروات بلادهم التي باتت أشبه بمزاد عالمي تُمنح لمن يدفع أكثر دون أي اعتبارات أخرى.