بظهور الدول القومية ذات الحدود الإقليمية المحددة، ظهر للسطح ما يعرف باسم “المصلحة القومية” التي تطورت مع الوقت لتصبح “مصالح مشتركة” تجمع بين دولتين أو أكثر من دولة تتشارك المصلحة وفقًا لترابط المصالح السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، أو وفقًا لمنطلقات هوياتية مشتركة كالاتحاد الأوروبي.
قامت مدرسة “كوبنهاجن” الأمنية الفاعلة بنظرياتها في مساق العلاقات الدولية، بتأطير خطوات تفعيل إستراتيجية “الآمننة الهيكلية” التي تهدف، بصورةٍ أساسية، إلى تهيئة الساحتين الداخلية والدولية، للتحرك ضد طرف ما
وتنسج التحالفات الأمنية بين الدول وفقًا لإستراتيجية “الآمننة الهيكلية” التي تعني تحديد عنصر ما على الساحتين الداخلية والدولية على أنه يشكل تهديدًا أو خطرًا على المصالح المشتركة، والاتجاه، على إثر ذلك، نحو تأسيس تحرك إقليمي أو دولي أمني سياسي مشترك ضد هذا الخطر، ولعل أبرز الأمثلة على التحالفات الأمنية في وقتنا الحاليّ هو: حلف الشمال الأطلسي “الناتو” الذي تم تأسيسه بين قوى القطب الغربي “البحرية” ضد الاتحاد السوفييتي الذي كان قائمًا على قوى برية.
لقد قامت مدرسة “كوبنهاجن” الأمنية الفاعلة بنظرياتها في مساق العلاقات الدولية، بتأطير خطوات تفعيل إستراتيجية “الآمننة الهيكلية” التي تهدف، بصورةٍ أساسية، إلى تهيئة الساحتين الداخلية والدولية، للتحرك ضد طرف ما، وتتجلى خطوات هذه الإستراتيجية بالنقاط التالية:
ـ إعلان طرف ما على أنه تهديد خطير إما حدودي أو وجودي.
ـ إقناع الكيان المرجعي، أي الشعب، بضرورة الوقوف وراء حكوماته في الإجراءات التي تريد اتخاذها ضد هذا الطرف، ليلقى التحالف حاضنته الاجتماعية على الأصعد كافة.
ـ إجراء تحركات استباقية كسبق الخصم في الاتجاه نحو مجلس الأمن، أو إجراء تحركات حقوقية كالمقاطعة أو الاستنكار، أو تطويقه عبر تأسيس التحالف الأمني الذي يوازن قوته ويتفوق عليها.
ـ شرعنة التحركات والانتهاكات باسم المصالح القومية العليا للحفاظ على بقاء الدولة.
وفي العادة، تستغرق هذه الخطوات وقتًا معينًا لإقناع الجمهور، إعلاميًا، والدول المحتمل مشاركتها في التحالف بنجاعته وأهميته المؤسسية الاتحادية، ومن ثم يتم تحويله لتحالف فعلي يكسب شرعية حكومية وجماهيرية، حيث تصل الجماهير إلى قناعة ضرورة الإبقاء على التحالف ودعمه.
التحالفات العربية الأمنية
بالاستناد إلى هذه الإستراتيجية وأهدافها، طفت إلى السطح عدة تحالفات عربية أمنية منذ حصول الدول العربية على استقلالها حتى يومنا هذا، منها المؤقتة كتحالف العرب في حرب فلسطين عام 1948، والتحالف المؤقت بين مصر وسوريا عام 1973، والتحالف العربي لعام 1991 الذي جمع جميع الدول العربية، باستثناء الأردن والعراق، لمواجهة الغزو العراقي للكويت، ومنها طويلة العمر نسبيًا مثل:
ـ معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي
وقعت معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي عام 1950 تحت مظلة الجامعة العربية، وجاء توقيعها في إطار محاكاة الغرب في توقيع معاهدة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لكن لم تؤدِ المعاهدة الدور المنشود، حيث تم تفعيلها عام 1961 بإرسال بعثة أمنية واحدة إلى الكويت لحمايتها من غزو عراقي محتمل، وإرسال قوة عسكرية قوامها 30 ألف جندي عام 1976، إلى لبنان، بقيادة سورية، لإيقاف الحرب الأهلية، إلا أنها خضعت لهيمنة النفوذ السوري، ما أفشل دورها في احتواء الحرب.
وبذلك، خلقت المعاهدة نوعًا من المحورية القطبية، حيث شعر العراق بالإقصاء، كما وصمت هذه القوة بالفشل والوهن، حيث سيطرت عليها سوريا، وبدلًا من إخضاع القوات السورية لها، خضعت هي للقوات السورية التي رفضت الانسحاب عام 1982، بعد طلب الجامعة العربية منها ذلك، ليصبح لبنان فاقدًا لسيادته حتى عام 2005، حين اضطرت القوات السورية للانسحاب بفعل ضغط دولي وليس عربيًا، أما مكان المعاهدة اليوم فهو الرف، حيث تعيش حالة غيبوبة منذ السبعينيات وحتى يومنا هذا.
جاء حلف بغداد كمحاولة غربية لخلق امتداد شرق أوسطي لحلف “الناتو”، حيث حاول الأخير، عام 1950، تأسيس ما يسمى بـ”قيادة الشرق الأوسط” التي تضم مصر وسوريا والعراق والسعودية
– حلف بغداد
إن العضو العربي الوحيد في حلف بغداد، هو العراق الذي أطلق الحلف مع تركيا عام 1955، لتنضم إليه لاحقًا كلٍ من بريطانيا وإيران وباكستان، وقد جاء حلف بغداد كمحاولة غربية لخلق امتداد شرق أوسطي لحلف “الناتو”، حيث حاول الأخير، عام 1950، تأسيس ما يسمى بـ”قيادة الشرق الأوسط” التي تضم مصر وسوريا والعراق والسعودية، غير أن عددًا من الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، كانت ترى في هذا الكيان محاولة غربية لتوظيف الأمن العربي لصالح معركة القطب الغربي ضد السوفييت، فضلًا عن إصرار دول كبرى على ضم “إسرائيل” لهذا الكيان، مما أدى إلى إحباط محاولة تأسيسه.
لقد كان حلف بغداد فاعلًا في تقريب وجهات نظر الدول الأعضاء، غير أنه توفي بعد ثلاثة أعوام من تأسيسه، نتيجة الانقلاب الذي أطاح بالنظام الملكي عام 1958.
ـ مجلس التعاون الخليجي
تم تأسيس مجلس التعاون عام 1981، بعد تنامي المخاطر التي حلت على المنطقة بقيام الثورة الإسلامية في إيران وتوقيع معاهدة السلام بين مصر “وإسرائيل” والمقاطعة العربية للقاهرة، التي غيبت الدور الفاعل لمصر في المنطقة.
ظهر مجلس التعاون في البداية كنواة لتقوية أواصر العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين دول الخليج، وبعد مرور 5 أعوام على تأسيسه، تم إنشاء قوة ردع دفاعية مكونة من 5000 جندي، أصبحت لاحقًا 30 ألف جندي، تحت مسمى “درع الجزيرة”، وأضيف إليها الغطاء الشرعي عام 2000، حينما تم توقيع معاهدة دفاع مشترك بين الدول الأعضاء.
لقد شهدت الاتفاقية المذكورة الفاعلية الأكبر إبان عملية “عاصفة الحزم” في اليمن، حيث شاركت جميع الدول الخليجية باستثناء سلطنة عمان، في العملية، إلا أن الاتفاقية دخلت حالة الغيبوبة الفعلية بعد إعلان بعض الدول الخليجية، الإمارات والسعودية والبحرين، فرض “المقاطعة” أو “الحصار” على قطر، وتم طرد القوات القطرية من اليمن، لتتجه قطر نحو تفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك مع تركيا، وتحذو الكويت حذوها، وتوقع اتفاقية دفاع مشترك مع تركيا.
ـ مجلس التعاون العربي
جاء تأسيس مجلس التعاون العربي كرد فعل على تأسيس مجلس التعاون الخليجي، حيث أسسه العراق ومصر والأردن وشمال اليمن عام 1989، وقد ركز المجلس على التعاون الاقتصادي والأمني المحدود، غير أن المجلس سرعان ما انهار ودخل الغيبوبة الأبدية بعد أقل من عامين، إثر الغزو العراقي للكويت.
حاولت الدول العربية الركون إلى هويتها المشتركة في تأسيس تحالفات أمنية تحفظ مصالحها المشتركة، غير أن تنافر مصالحها كان أقوى من تشاركها
وفي ظل سرد المعطيات أعلاه، يصبح التساؤل الأكثر طرحًا هو: لماذا دخلت جميع التحالفات العربية الأمنية حالة الغيبوبة؟
ربما تتعدد العوامل المتعلقة بإخفاق التحالفات الأمنية، غير أن أهم هذه العوامل:
ـ الاختلاف على الدور القيادي، وكانت السعودية ومصر سيدتا هذا الخلاف.
ـ التوجه الأنثروبولوجي للإنسان العربي الذي ينحدر من ثقافة التناحر القبلي والعشائري دائم التنافس.
ـ التباين والتضارب في مصالح الدول العربية البينية على صعيدٍ أيديولوجي ونفعي.
ـ الارتباط العربي المتشتت بالأقطاب العالمية المتنافسة، الذي يصل أحيانًا درجة التبعية شبه الكاملة، ولعل أبرز مثال على ذلك حلف بغداد الذي ارتبط به العراق الملكية بالقطب الغربي ضد الدول العربية المتحالفة مع الاتحاد السوفييتي.
ـ إقصاء التحالفات العربية لدولةٍ شقيقةٍ أو أكثر، ما يخلق حالة من المحورية التنافسية التي أدت، في نهاية المطاف، إلى تاسيس تحالفات عربية متنافسة.
في الختام، حاولت الدول العربية الركون إلى هويتها المشتركة في تأسيس تحالفات أمنية تحفظ مصالحها المشتركة، غير أن تنافر مصالحها كان أقوى من تشاركها، وتوجهها التآمري كان أقوى من الإخلاص، والاختلاف على الدور القيادي كان أقوى من التوافق، فكانت النتيجة دخول جميع التحالفات العربية حالة الغيبوبة الدائمة.