جميع الفصائل في قطاع غزة تعاني من أزمة مالية حادة، حماس والجهاد التي تتلقى تمويلًا مباشرًا من إيران وإن كان مخصصًا بشكل واضح للجهاز العسكري، كذلك الجبهة الشعبية والديمقراطية ولجان المقاومة الشعبية التي باتت تعمتد في تمويلها على حركة حماس بعد قطع الرئيس الفلسطيني محمود عباس مستحقات الجبهتين من منظمة التحرير، إلا أن الأزمة وصلت بشكل أعمق لداخل الفصيل الواحد مثل حركة فتح التي تعاني انقسامًا بينها وبين التيار الإصلاحي التابع للقيادي محمد دحلان من ناحية، وداخليًا بين حركة فتح في غزة وحركة فتح في الضفة.
مؤخرًا رفضت الهيئة القيادية لحركة فتح في قطاع غزة الاستجابة للأوامر القادمة من حركة فتح في الخارج بعمل مسيرة كبيرة في قطاع غزة في ذكرى انطلاقة الحركة بعدما منعت حماس فتح من إقامة مهرجان رسمي للانطلاقة تحت ذريعة عدم الحصول على ترخيص للمهرجان بشكل قانوني من شرطة حماس، ما دفع عضو اللجنة المركزية لحركة فتح توفيق الطيراوي للمطالبة بإقالة الهيئة القيادية العليا للحركة في قطاع غزة، كما أشاد صلاح البردويل عضو المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة بموقف الهيئة القيادية العليا لحركة فتح في غزة الذي منع عنفًا داخليًا في القطاع.
المال.. كلمة السر
لا يعني بالضرورة عدم انصياع قيادة فتح في غزة لأوامر قيادة الحركة في رام الله انشقاقًا، فالمال هو مربط الفرس الأخير، فحقيقة الأمر أن حركة فتح في غزة مرهونة لما يقدمه عباس لها من دعم مالي ورواتب بعيدًا عن الانقسام بين عباس وغزة، ورغم أن الاختلاف في المواقف بين فتح غزة والضفة ليس وليد الحدث السابق، فإن مجرد وجوده بهذه الطريقة لم يكن بالسابق، وفي نفس السياق منحت حركة حماس حرية أكبر لأنصار التيار الإصلاحي لحركة فتح الذي يتزعمه ويموله محمد دحلان بشكل مباشر، وهو ما أثر على وحدة حركة فتح بالكامل، فصراع عباس ودحلان ليس في غزة فقط بل في المخيمات اللبنانية للفلسطينين وساحة أوروبا أيضًا، فالأخير يغدق المال لإبقاء موطئ قدم له في الساحة الفلسطينية الداخلية والخارجية.
https://www.facebook.com/palsawacom/videos/670811176649309/
الجبهتان الشعبية والديمقراطية تمران بأزمة مالية خانقة أيضًا بعد قطع الرئيس الفلسطيني محمود عباس مستحقاتهما المالية من منظمة التحرير بناء على مواقفهم المعارضة لسياسته، وبقيت خطوط المال الأخيرة للجبهتين من سوريا بشكل مخفف جدًا نتيجة الأزمة المالية الكبيرة للنظام بعد الثورة، كذلك تتلقى الجبهتان تمويلًا من حماس في قطاع غزة لإبقائها داخل النسق الفصائلي أو الإجماع الذي تريده حماس.
أما الجهاد الإسلامي رغم اختلاف وجهات النظر بين الأمين العام للحركة زياد النخالة في الخارج، ومحمد الهندي القيادي الثاني في الحركة، فالنخالة يسعى للمحافظة على علاقته المالية والسياسية بإيران وسوريا، فيما يسعى الهندي لتوسيع نفوذ الحركة وعلاقاتها مع قطر وتركيا، وممارسة برغماتية سياسية أكثر من النخالة، هناك خطان بوجهتي نظر داخل التنظيم، لكن النخالة يسعى لتوحيد الحركة تحت قيادته فقط.
الهندي حليف حماس، تلقى سابقًا دعمًا ماليًا من حماس التي سعت لتقوية حلفائه داخل التنظيم وهو ما أفرزته الانتخابات المتفردة التي حصلت قبل أشهر، وقد تعرضنا لهذا في مقالة سابقة عبر نون بوست ترصد نتائج الانتخابات بعنوان: “قراءة في الانتخابات الداخلية النادرة لحركة الجهاد الإسلامي”، توضح طبيعة العلاقة بين الداخل والخارج، وتكشف مسار المال في الحركة.
حماس ليست في أحسن ظروفها من وحدة قراراها الداخلي
تعاني حماس الفصيل الأكثر انضباطًا من الناحية التنظيمية والشورية على الساحة الفلسطينية أيضًا من ظروف مالية خانقة، هي الأصعب في تاريخ الحركة، بعد انعدام التمويل في ظل الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، مما أحدث تباينًا أكبر بين قيادتي الداخل والخارج، الداخل المتوجه بثقل أكبر نحو إيران ويحاول تكملة التزاماته من الضرائب المتحصلة من الناس في قطاع غزة ومنحها لموظفي ما يعرف بـ”حكومة حماس” والخارج الذي يحاول جاهدًا الحفاظ على علاقته بالداخل.
الخلاف الداخلي في حماس ليس على الصعيد السياسي فقط بما يمثله موقفان مختلفان بين قيادة غزة والخارج بعلاقتهم مع إيران وسوريا والخليج العربي بأكمله، مع حاجة الحركة اليوم لعلاقات جيدة مع الجميع
لكن لا يخفي سخطه للتعامل مع أبناء الحركة حتى في الخارج كونهم من غزة وعليهم العودة لقيادتهم هناك، خصوصًا فيما يتعلق بالجانب المالي، فمن هم على كادر الحركة في قطاع غزة يبقون كذلك ويرفض التنظيم في الخارج رفضًا قاطعًا دمجهم في كادر الحركة الخارجي، حيث لكل منهما كادر مالي خاص، ولا يوجد لأبناء الحركة في الداخل كادر مالي في الخارج، فهم مفروزون على الموازنة التشغيلية لمكتب الخارج سابقًا، وهو ما أفصح عنه المئات من أبناء الحركة الذين خرجوا من غزة على أمنية الالتحاق بالتنظيم وكادره المالي في الخارج، لكن التنظيم رفض ذلك، مما عرضهم لموجة من الانتقادات الحادة داخل التنظيم نفسه.
الخلاف الداخلي في حماس ليس على الصعيد السياسي فقط بما يمثله موقفان مختلفان بين قيادة غزة والخارج بعلاقتهم مع إيران وسوريا والخليج العربي بأكمله، مع حاجة الحركة اليوم لعلاقات جيدة مع الجميع، لكنها إلى الآن لم تفلح في السير على المتناقضات، فلكل طرف تنازلات ومواقف يجب أن تدفعها الحركة ككل (علاقتها بالنظام السوري أو الإيراني أو القطري أو السعودي والإماراتي)، ما يجعل الحركة تراهن على الوقت مثلها مثل رهان أي مواطن فلسطيني بسيط.
الأزمة المالية أحدثت شرخًا في علاقة القيادة مع أبناء الحركة في ظل هجرة كبيرة لأبنائها نحو الخارج (ممرات الوصول تركيا وأوروبا)، وعدم مقدرة الحركة على تلبية احتياجاتهم في الداخل وحتى في الخارج، جعلهم يعيدون التفكير في سردية الانتماء للتنظيم من عدمه، في ظل حاجتهم للعمل والمال والاستقرار، ومقارنة بما تعيشيه القيادة من ظروف معيشية تتنافي وكونها الوجودي وطبيعة نشأتها كحركة تحرر إسلامية تمر بظروف مالية قاهرة، هذا السياق أحدث أزمة استقطاب حادة في الحركة، وأزمة بقاء لعناصرها، لا يعني بالضرورة انفكاك أفرادها بشكل كبير، لكن بصيغة عامة ارتباط أفرادها بارتباط مصالحهم في التنظيم، يعني المال أصبح الضابط الأساسي لتماسك الأفراد خصوصًا في الخارج.
السلطة.. ما زالت سردية المال السياسي هي الغالبة
التزامات السلطة المالية كبيرة، والعجز في الموازنة وكذلك النفقات التشغيلية التي تشمل رواتب الموظفين كلها تعتمد بشكل أساسي على المساعدات المالية الدولية، لذا تقف قرارات السلطة السياسية بما لا يتعارض مع مواقفها السياسية المخالفة لمسار المال المقدم دوليًا في ظل ضعف المال العربي غير المسيس، وتحاول السلطة جاهدة الحصول على المال العربي كبديل عن المساعدات الأمريكية التي أعلن عن توقفها إلا المساعدات المتعلقة بمسار الأمن في الضفة الغربية، كذلك الاحتلال الإسرائيلي يحافظ على علاقة المال بالأمن.
جميع الفصائل الآن تقف تحت مقصلة المال ومصادر الدعم حالها حال السلطة، جعلها تعاني من أزمة وحدة صفوفها وقراراتها، فتذبذب القرار داخلها كمغناطيس يبحث عن المال مسار طبيعي للحفاظ على وجودها
لكن أيضًا على المدى البعيد لا يمكن أن تستمر هذه المعادلة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وسوء المؤشرات الاقتصادية، مع محاولات التضيق ماليًا من الولايات المتحدة الأمريكية على السلطة، قد لا يعني تفكك السلطة ولكن في ظل انحسار المال العربي غير المسيس خصوصًا السعودي قد تنفجر الأوضاع السياسية وتتدحرج نحو الاشتباك الشعبي المباشر مع الاحتلال، أو قد تتفكك السلطة.
جميع الفصائل الآن تقف تحت مقصلة المال ومصادر الدعم حالها حال السلطة، جعلها تعاني من أزمة وحدة صفوفها وقراراتها، فتذبذب القرار داخلها كمغناطيس يبحث عن المال مسار طبيعي للحفاظ على وجودها، وتصاعد الأصوات الجديدة داخل الفصائل، قد يكون مؤشرًا لانشقاقات أو أزمة استقطابات تعاني منها مستقبلًا من الممكن أن تصل إلى أزمة تفكك وجودية أو انحسار لدورها الفاعل وهو ما تريده أمريكا تحت سياسة “الذوبان المالي”.