عادةً ما تتباهى الدول بدساتيرها وما تشمله من قوانين وقواعد ديمقراطية تحافظ من خلالها على شكل العلاقة بين السلطة والفرد وما بينهما من واجبات وحقوق أساسية، في المقابل قد تغفل عن بعض الحقوق أو القضايا وقد توثقها أحيانًا بكلمات فضفاضة ذات طابع حضاري، ومع ذلك تكون الحقيقة على أرض الواقع قاسية وصادمة أو لا تُطبق على جميع شرائح المجتمع بنفس المعايير المذكورة في اللوائح الداخلية.
من أهم هذه المسائل التي تفشل العديد من الحكومات في التعامل معها، على عكس ما تدعيه في مواثيقها الرسمية، هي الأقليات وبالتحديد الدينية التي تُجبر قهرًا إما على تغيير دينها أو الهجرة أو ممارسة شعائرها بالخفاء، وفي أحيانٍ كثيرة قد تتعرض للقتل والإبادة إذا رفضت واقعها المأساوي. ولا شك أن الوضع يختلف من دولة لأخرى بدرجاتٍ متفاوتة، وبطبيعة الحال لا ينفي ذلك وجود مجتمعات وسلطات تتعامل بمبدأ العدل والمساواة مع هذه الأقليات.
في الآونة الأخيرة، خضعت ناشطة أوكرانية مسلمة، اسمها أولغا فرينداك، لمعركة قضائية دافعت فيها عن حقها وحق المسلمات الأخريات بالتصوير بالحجاب للوثائق الرسمية الداخلية وجوازات السفر، فبحسب روايتها “منحت السلطات الأوكرانية نفسها الصلاحية بطلب خلع الحجاب للتصوير، أو للتأكد من الشخصية عند المعابر الحدودية”. وبما أن القانون الأوكراني لا يسمح بذلك أساسًا لأي طائفة دينية أخرى، إذ خضع لباس راهبات المسيحية الكاثوليكية لنفس الضغوط سابقًا، فقد دفعنا الفضول إلى التعرف على تاريخ الإسلام في الأراضي الأوكرانية وطبيعة المجتمع الإسلامي الأوكراني والتحقق من موقف السلطات تجاهه بعد تضارب الأقاويل حول مدى تسامح المجتمع والحكومة معه.
كيف وصل الإسلام إلى أوكرانيا؟
كل عام من 15 آيار يحيى تتار القرم ذكرى تهجيرهم من وطنهم على يد ستالين في عام 1944
لفترةٍ طويلة، كان المؤرخون يفترضون أن الإسلام جاء إلى الأراضي الأوكرانية في بداية القرن الرابع عشر إلى أن تم نفي ذلك من بعض الحفريات الأثرية والسجلات التاريخية التي ظلت معلوماتها سطحية ومقتضبة، لكن على أية حال، يعتقد المختصون بهذا الشأن أن الخزر( كلمة مشتقة من الفعل التركي “قز” ويعني التجوال والرحيل والبداوة، وبهذا يكون الخزر هم البداة) الذين كانوا جزءًا من الإمبراطورية التركية الغربية التي تأسست في آسيا الوسطى في منتصف القرن السادس الميلادي وانفصلوا عنها لاحقًا، سيطروا على أراضٍ واسعة وكثيرة في بحر قزوين والبحر الأسود.
تصادمت أهداف السيطرة التوسعية بين الدولتين الخزرية والإسلامية ونتجت عنها حروب ونزاعات انتهت بهزيمة الخزر وزوال دولتهم من الوجود، وبالمقابل سيطر العرب على أقاليمهم ومناطقهم، الأمر الذي اضطرهم أن يعيشوا في ظل أحكام الدولة الإسلامية والإيمان بمعتقداتها
فلقد منحتهم عادة التجوال والترحال فرصة الهيمنة، ما جعلهم مصدرًا للإزعاج بالنسبة للدولة البيزنطية، ومع ذلك لم تبدأ النزاعات بينهم إلا حينما طلب القرم المساعدة من الخزر ضد الإمبراطور البيزنطي جستنيان، ومع نجاح التحالف الخزري القرمي ضد البيزنطيين، زادت نفوذ الخزر وقوتهم على الأرض ما شجعها على إقامة دولة قوية في آسيا وأوراسيا. لاحقًا، وفي بداية القرن السابع الميلادي، بدأت هذه الدولة بتشكيل علاقات ثقافية وتجارية مع الشعوب العربية الإسلامية، وتدريجيًا بدأت شريحة واسعة من الشعب الخزري بالتحول إلى الديانة الإسلامية إلى أن أصبح غالبية السكان ينتمون إلى الإسلام بعد أن استغنوا عن دينهم اليهودي ومع بقاء النخبة الحاكمة على الديانة اليهودية نتيجة لتأثير التجار اليهود الأثرياء.
تعرقلت العلاقة السلمية بين الطرفين حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي حين تصادمت أهداف السيطرة التوسعية بين الدولتين الخزرية والإسلامية ونتجت عنها حروب ونزاعات انتهت بهزيمة الخزر وزوال دولتهم من الوجود، وبالمقابل سيطر العرب على أقاليمهم ومناطقهم، الأمر الذي اضطرهم أن يعيشوا في ظل أحكام الدولة الإسلامية والإيمان بمعتقداتها. إذ كشفت الحفريات الأثرية أن العديد من المقابر الإسلامية التي يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن التاسع أن الخزرية كانت بلد مسلمًا في الغالب، وبذلك تكون الحملة الإسلامية على الخزر في عام 737 هي نقطة انطلاق التاريخ الإسلامي في أوكرانيا.
اتهم الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، تتار القرم بالتخابر والتواطؤ مع المحتل النازي ولذلك قام بتهجيرهم إلى آسيا الوسطى وسيبيريا وتركيا وبلغاريا. ولم يُسمح لهم بالعود إلى موطنهم
في أوائل القرن العاشر، أصبحت مملكة قرمية تابعة للدولة العثمانية منذ عام 1474 وحتى 1774، واستمر الحال هكذا إلى أن أبرمت الدولة العثمانية اتفاقًا مع الإمبراطورية الروسية يلزم بمنح القرم حكمًا ذاتيًا مستقلًا، لكن الإمبراطورية أبقتها تحت سيطرتها سنة 1783. علمًا أنها تعرضت بشكل متكرر لأطماع الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
إذ يعتبر احتلال الأخيرة للإقليم بين عامي 1941 و1944 من أسوأ الأحداث التي مرت على المنطقة، فبحسب ممثلو مسلمي القرم ” كانت الحرب الوطنية العظمى اختبارًا شديدًا لسكان القرم، وفي خضم سنوات الاحتلال الألماني دمرت نحو 127 قرية بسكانها الذين اتهمهم الفاشيون بإقامة علاقات مع الفدائيين السوفييت”. فلقد اتهم الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، تتار القرم بالتخابر والتواطؤ مع المحتل النازي ولذلك قام بتهجيرهم إلى آسيا الوسطى وسيبيريا وتركيا وبلغاريا. ولم يُسمح لهم بالعود إلى موطنهم إلى أن زال الاتحاد السوفيتي، ومن استطاع منهم العودة وكان عددهم التقريبي الربع مليون، كانوا قد فقدوا أراضيهم وحقوقهم الملكية التي سلبها الروس، ما خلف ملفات شائكة وأكثر تعقيدًا في حياة سكان هذه المنطقة.
تضارب الإحصاءات حول عدد المسلمين في أوكرانيا
بحسب إحصاء سكاني لعام 2001، يسكن في القرم حوالي مليوني نسمة، منهم 58% روس، 24% أوكران، 12% تتار، وفيها أكبر تجمع للمسلمين في أوكرانيا. إذ انضمت شبه الجزيرة إلى أوكرانيا في عام 1954 عندما أهداها الزعيم السوفيتي الأوكراني الأصل، نيكتا خروتشوف، إلى وطنه الأم، بهدف “تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين”، ولم يتم تنفيذ هذا القرار بشكل فعلي حتى عام 1991 حين انهار الاتحاد السوفيتي.
يشكل التتار نحو 300 ألف نسمة من عدد سكانها، لكن المجلس الديني للمسلمين الأوكرانيين زعم أن هناك مليوني مسلم في أوكرانيا لعام 2009، كما أكد مفتي الأمة، سعيد إسماجيلوف، أن هناك مليون مسلم من بين 46 مليون نسمة في أوكرانيا بأكملها، وذلك بحسب عام 2016.
وللمسلمين في القرم برلمان خاص غير رسمي ومنفصل عن البرلمان الحكومي، وعادةً ما يقوم بالمهمات التي تخص مصالحهم وحقوقهم وله نائبان في البرلمان الأوكراني، لكن بشكل عام يعتبر البرلمان الأوكراني تتار القرم هم السكان الأصليين لشبه جزيرة القرم وعلى هذا الأساس يقتضي على أوكرانيا أن تعترف بحقوقهم ودورهم في مختلف المجالات، مع التأكيد على وصفهم بـمواطنين أوكرانيين. يضاف إلى ذلك، 3 هياكل إدارية أخرى تدير شؤونهم مثل المركز الروحي للمجتمعات المسلمة والإدارة الدينية والمجلس الديني، بالجانب إلى مؤسسات إعلامية تجتهد في التعريف عن المجتمع الأوكراني المسلم ورسالته ونشاطاته، ولا شك أنها تبادر أيضًا في تكذيب الاتهامات والأقاويل التي قد تحاول بعض الجهات إلصاقها بها عن غير حق.
ما بين التسامح والتجاهل.. ماذا يعني أن تكون مسلمًا في أوكرانيا؟
تكثر التقارير التي تتحدث عن وضع المسلمين في أوكرانيا، لكنها تتفاوت بدرجة كبيرة في المعلومات التي تنقلها، فمن الواضح أن المجتمع الإسلامي هناك يمر بفترة هادئة وجيدة نسبيًا مقارنة مع مر به في فترة الاتحاد السوفيتي الذي منعه من ممارسة شعائر دينه بحرية، وهذا ما يفسر بطبيعة الحال رفض تتار القرم للوجود الروسي في الإقليم، إذ يرون أنه عودة للاضطهاد الديني الذي جردهم من هويتهم ويرغب في تشتيتهم بشكل أو بآخر.
يعاني المسلمون من انعدام المقابر المخصصة لدفن المسلمين والمنافذ التي تقدم لهم اللحوم الحلال، ومع ذلك يصف المجتمع الإسلامي هناك المواطنين الأوكرانيين بالمتسامحين
من جهة، تتداول وسائل الإعلام أخبارًا عن صعوبة بناء المساجد والمراكز الإسلامية في أوكرانيا وتحديدًا في المدن الصغيرة، ففي عام 2004 بعد مطالب متكررة، قررت بلدية سيمفروبل منح قطعة أرض تبلغ مساحتها 2.7 هكتار لبناء المسجد في المدينة بدل مسجد “بخش سراي” أو “القصر الكبير”، لكن لم إلى الآن لم يتم تصديق القرار من قبل العمدة خوفًا من إعطاء المكان طابعًا إسلاميًا ولا سيما أنه يشبه المسجد الأزرق في تركيا، ما سيكسبه رمزية عميقة، ولذلك بعد 3 أعوام قررت البلدية منحهم مساحة في مكان آخر، لكن الأقلية المسلمة رفضت هذا العرض، بسبب بعد المكان وافتقاره للمواصلات والخدمات.
بالجانب إلى ذلك، يعاني المسلمون من انعدام المقابر المخصصة لدفن المسلمين والمنافذ التي تقدم لهم اللحوم الحلال، ومع ذلك يصف المجتمع الإسلامي هناك المواطنين الأوكرانيين بالمتسامحين، لكن السياسيين غالبًا ما يوعودهم بآمال عريضة لا تتحقق فور انتهاء الانتخابات، وذلك مثل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.
كما تنتشر الإعلانات المعرفة بالدين الإسلامي ومبادئه وأنبيائه في شوارع بعض المناطق الأوكرانية وتحديدًا في إقليم القرم والدونباس( فيه أكبر تجمع لمسلمي أوكرانيا الذين يبلغ عددهم 100 ألف)، دون أن يتم إزالتها أو منعها من قبل السلطات الأوكرانية، فعادةً ما تكون محتوياتها ملائمة للمشاكل المجتمعية مثل إدمان الكحول والمخدرات والأمراض الجنسية والإجهاض والجرائم. ولا شك أن هذه المنشورات تهدف أيضًا إلى دحض الشبهات والمعلومات المغلوطة عن الدين الإسلامي.