رغم الجدل المثار بشأن دورها الإقليمي وابتعادها نسبيًا عن الانحياز إلى أي من أطراف النزاع في المنطقة وتفضيلها سياسة الحياد حيال الملفات الساخنة والوقوف على مسافة واحدة من القوى الفاعلة والمؤثرة، فإنها باتت الوسيط الأكثر ثقة من الجميع، والشريك النزيه القادر على تحريك المياه الراكدة في عدد من المستنقعات السياسية في الشرق الأوسط.
سلطنة عمان.. تلك الدولة التي ارتأت لنفسها طيلة عقود طويلة مضت أن تنتهج الدبلوماسية الهادئة كوسيلة آمنة لضمان استقرارها وتجنب الزج في آتون الصراع على النفوذ في المنطقة، يبدو أنها من الواضح قد تخلت عن هذه الدبلوماسية لتستعيد دورها مرة أخرى بعد أن احترفت الوساطة بشكل يؤهلها للقيام بهذا الدور.
جولة دبلوماسية مكوكية قام بها وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، الأسبوع الأخير، رفقة عبد اللطيف الزياني، أمين عام مجلس التعاون الخليجي، التقى خلالها بنظرائه في دول مجلس التعاون الستة التي زارها، في محاولة لرأب الصدع خاصة مع ترؤس مسقط لمجلس التعاون في دورته الحاليّة.
التكتم الشديد المعروف عن بن علوي والمسؤوليين العمانيين بصفة عامة، وندرة تصريحاتهم الصحفية، التي ربما كانت أبرز الأسباب لأن يكونوا موضع ثقة من الجميع، وضع ستارًا من الغموض عن دوافع هذه الجولة والنتائج الأولية التي تحققت للمباحثات مع المسؤولين في دول الخليج.
تحد جديد أمام الدبلوماسية العمانية في أول اختبار حقيقي لها بعد ترؤسها للمجلس، ورغم تداعيات التقارب مع إيران على علاقة السلطنة بدول الخليج فإن السياسة التي تتبعها مسقط كانت محل ثقة من الجميع، وهو ما يعول عليه البعض في إمكانية القيام بدور الوسيط الأكثر تأثيرًا في حلحلة الأزمة الخليجية بدلاً عن الكويت.
الوساطة العمانية حيال الأزمة ليست بالجديدة، فبعد أقل من شهرين تقريبًا على نشوبها في الـ5 من يونيو/حزيران 2017 زار بن علوي الكويت 3 مرات متتالية في إطار الجهود المبذولة لتقريب وجهات النظر، هذا بخلاف الاتصالات المستمرة مع أطراف الأزمة، فهل ينجح هذه المرة في الاختبار؟
تزامن تحركات الوزير العماني مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لدول الخليج إلى جانب زيارة بعض دول الشرق الأوسط دفعت البعض إلى التساؤل عن مدى وجود تنسيق أوروبي أمريكي بشأن جولة بن علوي
أجواء ملبدة بالغيوم
الحراك الدبلوماسي العماني يأتي وسط أجواء ملبدة بالغيوم، إذ يعيش الخليج العربي واحدة من أسوأ مراحله السياسية والأمنية، إثر أزمة كفيلة أن تهدم الكيان الإقليمي الأكثر استقرارًا طيلة العقود الماضية، ما يضع مزيدًا من الضغوط على مسقط في رئاستها للدورة الحاليّة لمجلس التعاون.
أزمة أخرى يواجهها المجلس في دورته الحاليّة تتعلق بتدافع قيادات العديد من الأنظمة الخليجية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت قناعة بأن الاقتراب من أحضان واشنطن الدافئة يأتي عبر تل أبيب، وهي القناعة التي دفعت بعض العواصم إلى تقديم قرابين الولاء والبراء للعم سام مهما كان الثمن.
هذا بخلاف بعض الملفات الساخنة التي أشعلت المنطقة كمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وتداعياته على النظام السعودي ذاته إثر تورط ولي عهده وبعض رجالاته في الجريمة، علاوة على الوضع في اليمن والتنديد الدولي والحقوقي بما يمارس هناك على أيدي طرفي الصراع، قوات التحالف بقيادة الرياض والحوثيين.
حالة من التصدع يعاني منها مجلس التعاون الخليجي
تنسيق أوروبي أمريكي
تزامن تحركات الوزير العماني مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لدول الخليج إلى جانب زيارة بعض دول الشرق الأوسط دفعت البعض إلى التساؤل عن مدى وجود تنسيق أوروبي أمريكي بشأن جولة بن علوي، وهو السؤال الذي طرحه الدكتور محمد صالح المسفر أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر.
المسفر في مقال له تطرق إلى بعض الشواهد التي تشي إلى احتمالية وجود تنسيق مع العواصم الأوروبية وواشنطن منها استقالة الجنرال أنتوني زيني المبعوث الأمريكي المكلف بملف الخلافات الخليجية الخليجية بعد الفشل في التوصل إلى حلول عملية، كذلك المبعوث الفرنسي برتران بزانسنو الذي جمد جهوده في إيجاد مخرج للأزمة لذات الأسباب.
الربط بين جولة بن علوي الخليجية وتصريحات بومبيو في القاهرة التي قال فيها: “لقد حان الوقت لإنهاء الخصومات القديمة”، وفي الدوحة حين قال إن الرئيس الأمريكي ترامب يرى أن الخلاف الخليجي ـ الخليجي طالت مدته، ربما يكون مقبولاً إلى حد، فهناك رغبة ملحة في هذا التوقيت لإنهاء هذا الخلاف بحسب أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر.
التزام مسقط سياسة الحياد كمنهجية لدبلوماسيتها الخارجية ليس بالأمر الجديد، فلها باع طويل في هذا المضمار، وهو على قدر ما أفقدها كثيرًا من حلفائها وأشقائها دفع بعضهم إلى التحرش بها جغرافيًا وسياسيًا، على قدر ما أكسبها ثقة الغالبية العظمى من المحيط الإقليمي
رغم شكوك الشارع العربي بنوايا واشنطن في إنهاء الخلاف كونها أكثر المستفيدين منها، ماديًا وسياسيًا، فإن الرغبة في تدشين تحالف خليجي عربي في مواجهة إيران ربما يكون الدافع الأكبر نحو وضع حد لامتداد الأزمة إلى أكثر من ذلك، هذا بخلاف ما يثار بشأن دور عماني مستقبلي في “صفقة القرن”.
ورغم صعوبة جرجرة مسقط نحو تحالف ضد طهران في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات بينهما مستوى كبير من التفاهم والتنسيق، ولعل هذا هو نقطة الخلاف الأبرز مع أشقائها الخليجيين، فضلاً عن موقفها الواضح من القضية الفلسطينية، فإن استمالة الدبلوماسية العمانية نحو الأجندة الأمريكية هدف واضح لواشنطن وحلفائها في المنطقة على رأسهم “إسرائيل” والسعودية.
وزير الخارجية الأمريكي ونظيره القطري في الدوحة
دبلوماسية الحياد
التزام مسقط سياسة الحياد كمنهجية لدبلوماسيتها الخارجية ليس بالأمر الجديد، فلها باع طويل في هذا المضمار، وهو على قدر ما أفقدها كثيرًا من حلفائها وأشقائها دفع بعضهم إلى التحرش بها جغرافيًا وسياسيًا، على قدر ما أكسبها ثقة الغالبية العظمى من المحيط الإقليمي وهو ما أهلها لأن تقود دفة الوساطة في المرحلة الحاليّة.
فبالعودة إلى الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 ارتأت السلطنة لنفسها أن تقف على مسافة واحدة من الطرفين، ورفضت استعمال أراضيها لقصف إيران، وبينما قطعت كل الدول العربية علاقتها بمصر عقب توقيع اتفاقية كامب – ديفيد بين “إسرائيل” وأنور السادات، كانت السلطنة الدولة العربية الوحيدة التي لم تقطع علاقتها مع القاهرة.
علاوة على ذلك فقد لعبت دورًا محوريًا في تقريب وجهات النظر بين إيران ودول الغرب وهو ما تمخض عنه الاتفاق النووي الأخير، إضافة إلى تدخلاتها الإيجابية في عدد من ملفات المنطقة على رأسها اليمن وليبيا، واليوم تدخل على خط الأزمة الخليجية بعدما فشلت الكويت على مدار 18 شهرًا منذ بدايتها.
حجم فرص نجاح بن علوي في مهمته الخليجية غير معروف على المستويات كافة، خاصة في ظل حالة التكتم الواضحة على ما أسفرت عنه الجولة من نتائج حتى الآن، هذا بخلاف مستوى التعقيد الذي وصلت إليه الأزمة في الآونة الأخيرة في ظل عناد دول الحصار في التمسك بمطالبهم المزعومة
ففي اليمن التزمت مسقط سياسة ضبط النفس حيال الهجوم عليها من بعض أشقائها الخليجيين المشاركين في قوات التحالف التي تحارب الحوثيين في اليمن، ورغم ذلك واصلت سعيها لتحرير رهائن سعوديين من قبضة الحوثيين، وساهمت كذلك سنة 2015 بتحرير عدد من الرهائن الغربيين.
ومع بداية 2016 نجحت في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين، حيث استقبلت فوق أراضيها الأطراف الليبية المتناحرة وتم التوصل إلى مسودة دستور ليبي، وقالت الخارجية العمانية وقتها إن مجرد اجتماع الأطراف المتنازعة هو أمر إيجابي من الممكن أن يبنى عليه لاحقًا.
ففي مقابلة مع برنامج “بلا قيود” المذاع على شبكة” BBC” البريطانية 2017، لخّص بن علوي سياسية بلاده الخارجية في قوله: “نبعد أنفسنا عن الدخول في صراعات لكن نساهم بقدر الإمكان في حلها، نحن لا ننحاز لهذا الجانب أو ذاك، بل نحاول أن ننقل لكلا الطرفين ما نعتقد أنه جيد لكليهما”.
هل تنجح في الاختبار؟
لا شك أن حجم فرص نجاح بن علوي في مهمته الخليجية غير معروف على المستويات كافة، خاصة في ظل حالة التكتم الواضحة على ما أسفرت عنه الجولة من نتائج حتى الآن، هذا بخلاف مستوى التعقيد الذي وصلت إليه الأزمة في الآونة الأخيرة في ظل عناد دول الحصار في التمسك بمطالبهم المزعومة.
هذا العناد الذي دفع كما قيل سابقًا مبعوثي أمريكا وفرنسا إلى تقديم استقالتهما جراء يأسهما من إحراز أي تقدم في طريق الحلحلة، لكن التغيرات التي طرأت على الساحة الإقليمية خلال الأشهر القليلة الأخيرة ربما يكون لها دور في إحداث تحريك لمياه الأزمة الراكدة منذ يونيو 2017.
مستقبل المصالحة بات مرهونًا بعدة تنازلات على طرفي الصراع تقديمها لا سيما دول الحصار التي تواصل العناد في التمسك بمطالب تراها الدوحة تنتهك سيادتها
إعلان بومبيو توقيع تفاهمات عسكرية وأمنية مع قطر على هامش زيارته للدوحة في الوقت الذي تؤكد فيه الإدارة الأمريكية علاقتها مع الرياض رغم أزمة خاشقجي واستعداد الأخيرة لتقديم أي شيء في مقابل تقليص النفوذ الإيراني الذي يقلق تل أبيب كذلك، كل هذا ربما يقود واشنطن إلى مزيد من الضغط للوصول إلى حل للأزمة وقد تكون الفرصة لعمان لاستعادة دبلوماسيتها ودورها الإقليمي مرة أخرى.
إضافة لما سبق فإن مستقبل المصالحة بات مرهونًا بعدة تنازلات على طرفي الصراع تقديمها لا سيما دول الحصار التي تواصل العناد في التمسك بمطالب تراها الدوحة تنتهك سيادتها بينما تبدي قطر استعدادتها المستمرة للجلوس على مائدة الحوار على أساس احترام سيادة واستقلالية الدول.
نجاح الوسيط العماني في مهمته بعد فشل الكويت، مهمة تبدو صعبة لكنها ليست بالمستحيلة في ظل مواءمة المستجدات الأخيرة للتوجه الإقليمي العام بتخفيف حدة التوتر بين جميع الأطراف، وتتوقف نسبة النجاح المحقق على فاعلية الحراك العماني المدعوم – بتنسيق أو دون تنسيق – أمريكيًا وأوروبيًا.. فهل تفعلها السلطنة؟