في غضون 24 ساعة فقط لا أكثر، زار العراق ثلاث شخصيات سياسية دولية من العيار الثقيل، وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وملك الأردن عبد الله الثاني، ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
وخلال الفترة الزمنية القصيرة السابقة لمجيء كل من ظريف وعبد الله ولودريان، في يومي الـ13 والـ14 من شهر يناير/كانون الثاني الحاليّ، كان قد زار بغداد رئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير النفط الإيراني بيجن زنكنة، وساسة ومسؤولون دوليون وإقليميون كبار آخرين، وبعد ذلك زار العراق وزير الدفاع الأسترالي كريستوفر باين.
ومن المؤمل أن تستقبل بغداد خلال الشهور الثلاث المقبلة زعماء كبار من بينهم الرئيس الإيراني حسن روحاني والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، مثلما أكدت مصادر خاصة في رئاستي الوزراء والجمهورية.
فضلاً عن ذلك، فإن مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى، لعل في مقدمتهم رئيس الجمهورية برهم صالح، جالوا، خلال الشهرين الماضيين على عواصم عربية وإقليمية عديدة، وأجروا مباحثات معمقة وتفصيلية مع نظرائهم، بشأن قضايا وملفات مختلفة تشغل اهتمام الجميع.
ولا شك أنه من غير الصحيح التعاطي مع ذلك الحراك السياسي -الدبلوماسي اللافت، بصورة عابرة، والمرور عليه مرورًا سريعًا، لأنه من حيث الكم والنوع والمستوى والتوقيت والامتداد وطبيعة الموضوعات المطروحة على طاولات البحث والنقاش، يؤشر ابتداءً إلى أن هناك نظرة خاصة من المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي إلى العراق في هذه المرحلة بالذات، وما ينتج عنها من ترتيبات تساهم بدورها في رسم وبلورة وصياغة معالم وملامح المرحلة أو المراحل المقبلة الأخرى.
ولعل القراءة الواقعية والدقيقة لذلك الحراك الدبلوماسي المتميز بين بغداد والعواصم الأخرى في الشرق والغرب، ترتبط في جانب كبير منها بحقيقة أن العراق بات يمثل محورًا وطرفًا أساسيًا في أي مسارات يراد رسمها، أو أي خيارات يراد وضعها لمشاكل المنطقة، سلبية كانت أم إيجابية، نظرًا للتشابك والتداخل الكبيرين في مساحات مصالح الأطراف والقوى المختلفة.
يفترض بصناع القرار العراقي، السعي إلى استثمار حالة الانفتاح الإقليمي والدولي للنهوض بالاقتصاد، وتحريك عجلة إعادة البناء والإعمار، لا سيما في المدن والمناطق المتضررة جراء الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي
العراق غادر وتجاوز مرحلة الوقوع والغرق في مستنقع الحرب الداخلية، رغم أن ساحته السياسية لم تبلغ مستوى الاستقرار والهدوء المطلوب، ونجح في التغلب على تحدي الإرهابي الداعشي، رغم أنه لم يعد محصنًا بالكامل من مخاطره، وهذان الأمران يحتمان مراجعة السياسات والإستراتيجيات الدولية والإقليمية المتخذة حياله، وبالتالي تصحيح مساراتها واتجاهاتها، ارتباطًا بما تشهده المنطقة من أوضاع قلقة ومضطربة، نتيجة التقاطعات الحادة والاستقطابات الخطيرة، وانحسار فرص التوصل إلى تفاهمات بناءة وحقيقية بين الفرقاء والأعداء والخصوم.
وطبيعي أن من جاءوا إلى العراق وزاروا بغداد والنجف وأربيل، لديهم أجندات مختلفة، ومصالح متباينة – إن لم تكن متقاطعة – ومن غير المعقول ولا المنطقي أن ينجح كبار صناع القرار في العراق بتوحيد تلك الأجندات وتقريب تلك المصالح، ناهيك عن أن ذلك لا يعد من بين أولوياتهم إلا ما يتعلق منها بمصالح بلدهم واستقرار المنطقة، من قبيل تعزيز حضور العراق في المحافل السياسية الدولية بشتى أسمائها ومسمياتها، وتكريس وترسيخ سيادته الوطنية، والنأي به عن الاصطفافات والمحاور والاستقطابات التي يمكن أن تعيده إلى المربع الأول، وإخراجه من دوامة الصراع الإقليمي – الإقليمي، والصراع الإقليمي – الدولي، والعمل على احتواء وتطويق أزمات وحروب المنطقة، كالأزمة السورية والأزمة اليمنية.
وكذلك يفترض بصناع القرار العراقي، السعي إلى استثمار حالة الانفتاح الإقليمي والدولي للنهوض بالاقتصاد، وتحريك عجلة إعادة البناء والإعمار، لا سيما في المدن والمناطق المتضررة جراء الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي منذ صيف عام 2014 وحتى أواخر عام 2017.
بيد أن ما ينبغي التأكيد عليه أن الانفتاح والتواصل مع الفضاء الدولي والمحيط الإقليمي، يتطلب وجود بيئة سياسية داخلية مناسبة، ومنهجيات وسياقات واحدة محورها الحكومة العراقية الاتحادية، لا منهجيات وسياقات حزبية متعددة، يسودها التقاطع والافتراق والارتباك، ابتداءً من أدق وأصغر الأمور إلى أكبرها وأوسعها، من قبيل تعدد بعض مراسيم الاستقبال البرتوكولية، وكأن في العراق دول! واختلاف المواقف والأطروحات وتناقض التصريحات وضياع الأولويات.
إن العراق – كدولة وشعب – لن يجني المكاسب والمنافع المرجوة، جراء ارتباك واقعه السياسي، فالداخل المتماسك البعيد عن الانقسام والتشظي والتناحر، يمكن أن يجعل الحراك الدبلوماسي مع الخارج ومن الخارج أكثر جدوى
من يأتي إلى العراق، إما يبحث عن سياسة واحدة ورؤية واضحة، تتيح له أن يتحرك ويتحدث ويتحاور ويناقش على ضوئها، لا أن يسمع في بغداد شيئًا، وفي أربيل شيئًا آخر، أو أنه يأتي إلى العراق عارفًا بكل تعقيدات المشهد وإشكالياته ومتناقضاته، وبالتالي، فإنه يحاول استغلال تلك التعقيدات والإشكاليات والمتناقضات بما يخدم مصالحه.
وفي كلتا الحالتين، فإن العراق – كدولة وشعب – لن يجني المكاسب والمنافع المرجوة، جراء ارتباك واقعه السياسي، فالداخل المتماسك البعيد عن الانقسام والتشظي والتناحر، يمكن أن يجعل الحراك الدبلوماسي مع الخارج ومن الخارج أكثر جدوى.
وحتى الآن فإن مستوى انسجام وتماسك الداخل ما زال بعيدًا ومتخلفًا عن حراك الخارج، وإذا لم تعالج هذه الإشكالية، فإن الجانب – أو الشق – السلبي لحراك الخارج سيفرض نفسه ويطغى على الجانب الإيجابي، وهذا أمر طبيعي ومتوقع، لأن النتائج لا بد أن تكون محكومة ومرتبطة بالمقدمات، وهذا منطق الأشياء.