في مثل هذا اليوم 17 من يناير/كانون الثاني 1905 وفي حي السيدة زينب بمدينة القاهرة ولد الأديب الكبير يحيى حقي في أسرة لها جذور تركية، ويعد يحيى حقي رائدًا من رواد فن القصة القصيرة وعلامة بارزة في الأدب والسينما جبنًا إلى جنب مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس.
في كُتّاب السيدة زينب تلقى يحيى حقي تعليمه الأولي ثم أكمل دراسته بمدرسة “والدة عباس باشا الأول” الابتدائية بحي الصليبية وهي مدرسة مجانية للفقراء، وفي هذه المدرسة قضى حقي أسوأ سنوات عمره خاصة بعد رسوبه في الصف الأول الابتدائي بسبب ما كان يتلقاه من رهبة وفزع على يد مدرسيه، لكنه استطاع قهر إحساسه بالخوف واجتهد رغبة في إرضاء والدته، وفي عام 1917 حصل حقي على الشهادة الابتدائية فالتحق بالمدرسة السيوفية ثم الإلهامية الثانوية، ودرس في كلية الحقوق وعمل في السلك الدبلوماسي إذ قضى شطرًا كبيرًا من سنوات عمره خارج الأراضي المصرية.
أدب يحيى حقي: الصراع بين الشرق والغرب رغم عشقه الكبير لشرقيته وشعبيته
تكشف كتابات يحيى حقي الأدبية عن صراع محموم يدور بخلده بين الشرق والغرب خاصة عقب عودته من عمله بالسلك البلوماسي ببلاد الغرب، إذ التهمته الأسئلة الكبرى وأرقت عليه حياته ومنها: ما سبب تفوق الغرب؟وكيف بنى حضارته الحاليّة؟ ما أسس الحضارة ومقوماتها؟ ما سر تفوقها؟ أين يكمن في الغرب التفوق؟ وأين يكمن فينا العيب والتقهقر؟ هل نستطيع اللحاق بركب حضارتهم؟ هل نماشيها؟ هل نقلدها؟ وكيف؟ هل أهل أوروبا مسلمو هذا العصر ونحن كفاره كما سبق وذكر الإمام محمد عبده؟
في نفس الوقت كان حقي شديد الاعتداد بشرقيته عاشقًا لكل تفاصيل، بداية من ولعه باللغة العربية إلى حبه الشديد لحي السيدة زينب الذي نشأ وترعرع بين أزقته، فمن عناوين كتب يحيى حقي نقرأ قصته القصيرة “أم العواجز” وهو لقب يطلقه الناس في مصر على السيدة زينب، كما نرى أيضًا روايته الأشهر “قنديل أم هاشم” وأم هاشم هو لقب آخر يطلقه المصريون على السيدة زينب، وهناك قصص أخرى تحمل أسماء “عطر الأحباب” و”من فيض الكريم” و”من باب العشم” و”كناسة الدكان”، وكل هذه الأسماء وثيقة الصلة باللغة الشعبية لسكان حي السيدة زينب.
في الحديث عن عذوبة يحيى حقي فقد ذكر الناقد الفني الشهير رجاء النقاش في كتابه “يحيى حقي: الفنان والإنسان والمحنة” الصادر عن هيئة قصور الثقافة أن يحيى حقي قال عن نفسه إنه قليل الأدب لأنه حمل مشاعر عدائية تجاه الشعب المصري في روايته “قنديل أم هاشم”
كان حقي يكتب رواياته بلغة شعرية عذبة تجلت بشدة في روايته “قنديل أم هاشم” وذلك عندما قال: “كم من مرةٍ/ قطعتُ فيها هذا الطريق معك/ ذراعك في ذراعي/ فما شعرتُ أطويلٌ طريقُنا أم قصير؟/ أفي يومنا المسير/ أم في غد لم يأت بعد؟ أم هو في ماض من العمر/ قد ولى وفات/ كان الطريق/ هو الذي يقبل إليَّ/ يأخذ بيدي/ ويريني اتصاله بالأفق/ على جانبيه/ دورٌ هادئة المأوى/ كصدور الحاضنات/ ويمر بنا أناسٌ/ كل منهم شعاعٌ/ من نور الله”.
واسترسالًا في الحديث عن عذوبة يحيى حقي فقد ذكر الناقد الفني الشهير رجاء النقاش في كتابه “يحيى حقي: الفنان والإنسان والمحنة” الصادر عن هيئة قصور الثقافة أن يحيى حقي قال عن نفسه إنه قليل الأدب لأنه حمل مشاعر عدائية تجاه الشعب المصري في روايته “قنديل أم هاشم”، ويضيف النقاش أن حقي قال عن نفسه: “أنا كنتُ قليل الأدب وكنت بذيئًا لأنني شتمتُ الشعب المصري شتائم فظيعة جدًا، وأنا شديد الخجل بسبب ذلك، فعندما أقول عن الشعب إن بوله فيه دم وديدان أي أنه مصاب بالبلهارسيا والإنكلستوما، أو أقول عن الناس إنهم يسيرون كالقطيع، فليس فيهم من يسأل أو يثور، في مثل هذا الكلام بذاءة شديدة ولا بد من الاعتذار عنه”.
قنديل أم هاشم: رائعة يحيى حقي التي تمخضت عن أسئلته الكبرى بشأن صراع الحضارات
تدور أحداث الرواية عن الشاب إسماعيل الذي كان يسكن في حي السيدة زينب، وكان يحلم أبوه ككل العائلات المصرية أن يكون ابنه طبيبًا كبيرًا يحظى بالشهرة في جميع أنحاء المعمورة، ولأن إسماعيل لم يحصل على مجموع كبير يؤهله لدخول كلية الطب في مصر فقد قرر والده أن يضحي بقوت العائلة ليرسل ابنه إلى أوروبا من أجل دراسة الطب هناك.
يرحل إسماعيل إلى أوروبا ليعيش هناك سبع سنوات، وينجح في دراسة الطب لدرجة ينال بها إعجاب الأساتذة هناك، ويجري الكثير من العمليات الجراحية بنجاح، ويحقق حلم والده ثم يعود إلى بلاده ليكتشف أن مجتمعه غارق في الجهل والخرافة، يكره رضا المجتمع واستسلامه التام للعادات والتقاليد المتخلفة، ويثور بشدة لأن الجهل امتد ليصل إلى ابنة عمه، فاطمة النبوية التي تضع لها أمه زيت البترول المأخوذ من قنديل أم هاشم في عينيها، لاعتقادها أنه قادر على شفائها، وعندها يغضب إسماعيل، ويحاول تحطيم قنديل أم هاشم، ولكنه يصطدم بالجماهير التي تضربه ضربًا عنيفًا كاد يودي بحياته، بعدها يقرر إسماعيل أن يجري عملية جراحية لابنة عمه ولكنه يفشل فشلًا ذريعًا ويتسبب في إصابتها بالعمى التام وبعد تفكير طويل يتوصل إسماعيل إلى أن الحل ليس في تحطيم قيم وثوابت المجتمع ولكن في رأب الصدع بين الحضارتين الغربية والشرقية.
بأسلوب مختلف وتشبيهات قوية يواصل يحيى حقي في مجموعتة القصصية “سارق الكحل” تحليله للنفس البشرية وبيان تناقضاتها المختلفة
سارق الكحل والطبيعة الإنسانية
بأسلوب مختلف وتشبيهات قوية يواصل يحيى حقي في مجموعتة القصصية “سارق الكحل” تحليله للنفس البشرية وبيان تناقضاتها المختلفة، تحتوي المجموعة على أربع قصص وهم: “كأن” و”سارق الكحل” و”امرأة مسكينة” و”الفراش الشاغر”، تنوعت قوة وسلالة اللغة لقصص المجموعة بين الأسلوب السهل والأفكار المباشرة السلسلة والأسلوب الغني لغويًا والأفكار المستترة التي تحتاج إلى الانتباه واليقظة، ولكن جميع قصص المجموعة تحتوي على أساليب سردية ممتعة ومحتوى فكري قيم.
البوسطجي: القصة التي حولها صبري موسى إلى سيناريو سينمائي بديع
وردت قصة “البوسطجي” في المجموعة القصصية “دماء وطين” ورغم أنها قصة قصيرة، فإن عدد صفحاتها وصل إلى الخمسين ومن خلالها يتحدث يحيى حقي عن شاب يُدعى عباس يعمل بوسطجي وتجبره ظروف عمله على الانتقال من القاهرة الصاخبة إلى قرية كوم النخل بمحافظة أسيوط وذلك للعمل بوظيفة ناظر مكتب البريد.
في أسيوط يتصادم عباس مع تصرفات أهل القرية المتخلفة والعدوانية التي تختلف عن تصرفات أهل القاهرة المتحضرين، وعليه يقرر عباس فتح خطابات أهل البلدة بالماء المغلي ليتلصص أخبارهم، في النهاية يفتح عباس أحد الخطابات ولكنه يتلفه عن طريق الخطأ ويكون هذا أهم خطاب مما يسبب له الكثير من المتاعب.
كتاب كناسة الدكان: جميع وجوه الحياة
يتألف كتاب “كناسة الدكان” من مجموعة من المقالات التي قُسمت إلى ثلاثة أقسام وهي “من عالم الطفولة” و”من ذكريات الحجاز” و”في درب الحياة” ومن خلال هذا الكتاب يقترب حقي كثيرًا من تفاصيل الحياة الصغيرة وتفاصيل حياته، وعلى عكس جميع الكتاب الذين كتبوا سيرتهم الذاتية فقدموا صورًا من تفاصيل حياتهم الاجتماعية والعملية كتب حقي عن كل تفاصيل الحياة بداية من حوش المدرسة ولعب الشارع ونهاية بزيارة شوارع فرنسا.
ولكن مهلاً، لماذا أطلق حقي على كتابه هذا الاسم؟ وما علاقة تفاصيل الحياة بكناسة الدكان؟ الحقيقة أن العلاقة قوية، فكناسة الدكان تعني خلاصة التجربة، وهي التي تبقى بعد يوم طويل وشاق من العمل، وهي ما يتخلف في الدكان إذ لا بد أن تحمل هذه البقايا سمات بضاعة هذا الدكان، فعلى سبيل المثال إذا كان هذا الدكان لصانع أقمشة لا بد أن تظل بعض الخيوط وقصاصات الأقمشة العالقة في مكان ما، أما دكان يحيى حقي فقد تجد فيه قصة عالقة في ذاكرتك عصية على النسيان، عنوان بسيط ومكثف ويحمل الكثير من الدلالات، تشبيه بليغ جعلك تبتسم فور قراءته، وأسلوب بليغ أخبرك أن حقي عليم بخبايا هذا المجتمع، ووصف لشارع قديم في حي السيدة زينب أجبرك على استنشاق عبق المكان واستدراك قيمته التاريخية والوجدانية.