ترجمة وتحرير: نون بوست
كان وائل الدحدوح على الهواء مباشرة عندما أدرك أن هناك خطأ ما، كان ذلك في يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قرابة الساعة الخامسة مساءً، وكان مدير مكتب الجزيرة في غزة يقف على سطح مبنى مكتب القناة، ويتحدث عن الغارات الجوية التي وقعت اليوم، وقال الدحدوح وصوته يصدح عبر صور حية لأفق السماء، بينما كانت الانفجارات تتصاعد في الأفق: “ستكون ليلة دامية”.
لاحظ الدحدوح بطرف عينيه أن ابن أخيه حمدان، وهو منتج في قناة الجزيرة، يبدو مضطربًا، ثم بدأ هاتف الدحدوح المثبت في سترته الواقية من الرصاص بالرنين، مد حمدان يده وسحب الهاتف وأجاب عليه، اعتقد الدحدوح أن ما فعله كان غريبًا أثناء وجودهما على الهواء، سأل الدحدوح بصوت مسموع للمشاهدين: “من المتصل؟”.
وبعد بضع ثوانٍ على الهاتف، ركل حمدان بغضب أحد الجدران، وسأل الدحدوح: “ما الذي يجري؟”، وأجاب حمدان: “ابنتك، الفتاة في المستشفى، لقد قصفوا المكان الذي تتواجد فيه زوجتك وعائلتك” أخذ الدحدوح الهاتف، وبينما كان المشاهدون يتابعون مشاهد حية من غزة، كان بإمكانهم سماع صوت الدحدوح وهو يتصاعد، بينما كان حمدان يتدخل مرتبكًا في الخلفية، ثم قُطع البث إلى الاستوديو في الدوحة.
كانت خلود ابنة الدحدوح البالغة من العمر 21 سنة على الهاتف، وكانت حائرة وغير قادرة على إعطائه فكرة واضحة عما يحدث، أقفل الخط وهرع إلى مخيم النصيرات على بعد سبعة أميال؛ حيث كانت زوجته وسبعة من أطفاله الثمانية يحتمون في منطقة آمنة حددتها إسرائيل، وعندما وصل بعد حوالي 40 دقيقة، وجد الدحدوح مشهدًا فوضويًا، كان الناس يحفرون في الأنقاض بأيديهم، مستخدمين مصابيح هواتفهم المحمولة لرؤية ما يحدث، كان بعضهم يبكي، والبعض الآخر يبكي وينوح بأسماء القتلى، وجد الدحدوح حفيده البالغ من العمر 18 شهرًا، آدم، مغطى بالغبار وفاقدًا للوعي بين الأنقاض فحمل الطفل بين ذراعيه، وأسرع إلى مستشفى شهداء الأقصى على بعد 15 دقيقة.
في الزحام خارج المستشفى، عثر الدحدوح على ابنته خلود، وعندما رأت جثة آدم بين ذراعي والدها، بدأت تصرخ وتمسح على وجه ابن أخيها، ثم انهارت، وأخذت الدحدوح معها وهي لا تزال ممسكة بالطفل الصغير، وترنح الدحدوح واقفًا على قدميه، وسلّم آدم إلى أحد الأطباء داخل المبنى، وبدأ في البحث عن بقية أفراد عائلته بين الحشود التي كانت تبحث عن أحبائها عبر ممرات مليئة بالجرحى.
كانت تقارير الدحدوح قد جعلته مشهورًا في غزة، وبينما كان يواصل بحثه ويسأل عما إذا كان أحد قد رأى زوجته وأطفاله، بدأ يدرك أن الناس يتجنبونه، كما لو كانوا يعرفون شيئًا لا يعرفه، ثم أحضرت سيارة إسعاف ابنه الأصغر يحيى البالغ من العمر 12 سنة، كانت جمجمته مكشوفة ورأسه غارق في الدماء، لكنه كان واعيًا، أسرع به الدحدوح إلى الطبيب الذي بدأ في خياطة جروحه على الفور، لم يكن هناك مخدر، وكان يحيى يصرخ من الألم، إلى أن تم العثور على جرعة من المخدر وإعطائه إياها في النهاية.
وبينما كان ينتظر إلى جانب يحيى، أُحضرت إلى المستشفى إحدى بنات الدحدوح بالإضافة إلى حماته وعدد من بنات عمه، وعلم منهم أن والدة آدم وثلاث من بناته الأخريات قد نجين من الغارة، أما ابنه الأكبر حمزة، البالغ من العمر 27 سنة، فكان في جنوب غزة بأمان. كان ستة من أولاده الثمانية قد أصبحوا الآن في مأمن أو مثل يحيى مصابون، لكنهم على قيد الحياة. لكن زوجة الدحدوح واثنين آخرين من أبنائه ما زالوا في عداد المفقودين، وكانت المشرحة هي المكان الوحيد الذي لم يبحث فيه.
وبينما دخل الدحدوح إلى المشرحة المؤقتة في أرض المستشفى، والمعروفة باسم “خيمة الشهيد”، كانت الصحافة وأفراد الجمهور يصورون كل لحظة. غزة مكان صغير، أضيق نقطة فيه لا يتجاوز عرضها أربعة أميال، وعمل الدحدوح في مجال التغطية الصحفية هناك منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، كانت شخصية قابلها الكثير من الفلسطينيين في غزة أو كانوا على الأقل يعرفونه. كان الدحدوح يستطيع بالكاد السير بين الحشود التي تجمعت حوله، وكان البعض يحدق في وجهه، والبعض الآخر يصرخ بكلمات الدعم أو يمد يده لمواساته.
وجد الدحدوح في المشرحة جثث ابنه محمود البالغ من العمر 15 سنة، وابنته شام البالغة من العمر سبع سنوات، وزوجته أمينة، التقط الدحدوح شام وتحدث إليها ووجهه ملتوٍ من الحزن، وجثا على ركبتيه بجانب جثة زوجته وأمسك بيدها، وبينما كان يتنقل من جثة إلى أخرى، امتدت أذرع الغرباء، وبعضهم من الأطفال، لتثبيته، وبينما كان يجثو على ركبتيه بجانب جثة محمود الملطخة بالدماء أطلق أول صرخة له، ثم نطق بعبارة ستتردد أصداؤها في جميع أنحاء العالم العربي: “بينتقموا منا في الأولاد”.
في الساعات التي تلت ذلك، انتشرت مقاطع الفيديو والصور والروايات عن مأساة الدحدوح بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح الدحدوح في اليوم الذي قُتل فيه أفراد عائلته رمزًا للخسائر المدمرة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة ومحنة الصحفيين الفلسطينيين بشكل خاص.
لم يمر على بدء الحرب سوى أقل من ثلاثة أسابيع، وكانت تقديرات أعداد الضحايا تتضمن بالفعل آلاف الأطفال، وأصبح أطفال الدحدوح أنفسهم رمزًا لجميع الأطفال الآخرين الذين تم انتشالهم من تحت الأنقاض، وأصبحت المخاطر التي تواجه المراسلين في غزة واضحة أيضًا؛ فقد قُتل حوالي 20 منهم، وهو رقم وصفه أحد كبار المسؤولين في لجنة حماية الصحفيين بأنه “غير مسبوق“.
في كل الصور التي التقطت الدحدوح في المشرحة، كان لا يزال مرتديًا سترته الواقية من الرصاص، وكلمة “صحافة” مكتوبة عليها، لم يكن هو الصحفي الفلسطيني الأبرز في غزة فحسب، بل كان – بما أن إسرائيل منعت الصحافة الدولية من الدخول – المراسل الأبرز في غزة بشكل كامل، وهو يغطي حربًا كان العالم كله يشاهدها، ولم توفر له وظيفته ومكانته أي حماية من الاعتداء.
لم يكد الدحدوح يخرج من المستشفى حتى تم إجراء مقابلة معه، وكان على مدى أسابيع ينقل خبر مقتل آخرين، والآن أصبح هو القصة، وفي الغارة الجوية التي أودت بحياة زوجته واثنين من أبنائه، قُتل أيضًا أحفاد شقيق الدحدوح الخمسة، وجميعهم دون سن العاشرة، وأُعلن عن وفاة حفيده آدم، البالغ من العمر 18 شهرًا الذي وجده تحت الأنقاض في المستشفى.
وقال الدحدوح لزملائه في قناة الجزيرة في أول مقابلة معه بعد دقائق من اكتشاف جثث عائلته: “كنا نشك في أن الاحتلال الإسرائيلي سيعاقب الفلسطينيين في غزة بشكل جماعي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وللأسف، هذا ما حدث”.
ما قام به بعد ذلك جعله رمزًا ليس فقط لخسائر الحرب، بل أيضًا للمثابرة في مواجهة الخسارة التي لا يمكن فهمها، فبعد ظهر يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر، تابعته الكاميرات وهو يؤم صلاة الجنازة على عائلته، وقف يحيى ابنه بجانبه مضمد الرأس، ويداه متشابكتان على صدره، وجسد والدته ملفوف في بطانية على الأرض أمامه، صدح صوت الدحدوح بالصلاة، وتبعه صوت الرجال المصطفين خلفه، وبعد الصلاة، مسح الدحدوح رأس الطفل آدم وهو ملفوف في كفن أبيض صغير للمرة الأخيرة قبل دفنه.
وبعد ساعات قليلة، وبعد عدة محاولات من قبل المحررين لإثنائه عن ذلك، عاد الدحدوح على الهواء مباشرة، وتلقى التعازي على الشاشة من المذيع في استوديوهات الدوحة، ثم بدأ يتحدث بوضوح وهدوء عن دوره كصحفي، وقال إنه “من الواجب” في مثل هذه الظروف التاريخية والاستثنائية أن نواصل تغطيتنا بمهنية وشفافية رغم كل شيء، ثم انطلق في تقرير عن آخر التطورات في غزة.
لم يكن الدحدوح يدرك أن التأثير سيكون بهذه الضخامة، كان الصحفي ملتزمًا بمهمته لدرجة أنه عاد إلى العمل بعد ساعات من دفن عائلته التي أصبحت قصة عالمية، وبدأت صور الدحدوح بخوذته وسترته الواقية من الرصاص في الظهور ليس فقط في إدلب في شمال سوريا، بل في لندن ودبلن، وبعد ظهور هذه الإشادات، وتزايد الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في شوارع المدن الغربية في تشرين الثاني/نوفمبر، أدرك الدحدوح كم كان الكثيرون يراقبونه، فقد غطى الدحدوح أربعة حروب في غزة على مدى العقدين السابقين، لكنها لم تجتذب أي مستوى من الاهتمام والتعاطف والتعبئة العامة، لكن هذه الحرب كانت مختلفة.
- الدحدوح في لوحة جدارية في أحد شوارع لندن في وقت سابق من هذه السنة
كان الأمر مختلفًا بالنسبة للدحدوح أيضًا، ففي اللحظة التي عاد فيها إلى الشاشة، رأى فخر الجمهور به، وكان بالكاد يستطيع السير في الشارع دون أن يتلقى ليس فقط التعازي بل التشجيع، بدأ يتلقى مكالمات من الغرباء، قال له أحدهم: “أنت لا تعرفني، لقد فقدت جميع أطفالي وعائلتي بأكملها، ولكن إكرامًا لك وتضامنًا معك، سأقف صامدًا”.
لم يعد يُنظر إليه على أنه مجرد مراسل صحفي رفيع المستوى، بل أصبح حاملًا لأحزان غزة ورمزًا لشخصية شعبها، وفي الحرب التي قُتل فيها الكثير من الصحفيين بالفعل، كان دور الدحدوح الجديد والمتضخم يضعه في مرمى النيران؛ فقد كان مراسلًا حربيًا متمرسًا، لكن هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها أنه قد يكون مستهدفًا بشكل شخصي بسبب قيامه بعمله.
وعلى مدى الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك، أصبح يدرك بشكل متزايد أن عليه أن يختار بين مسؤوليتين، واحدة تجاه عمله، الذي أصبح الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى، وأخرى تجاه عائلته، وعلى مدى ثلاثة أشهر تقريبًا وازن الدحدوح بين الأمرين، حتى لم يعد من الممكن تجنب الاختيار بينهما.
قال لي الدحدوح هذا الصيف بينما كنا نجلس في غرفة معيشته في الدوحة؛ حيث يعيش الآن: “لم أستطع البكاء على أطفالي مثل أي شخص آخر”، لقد شعر أنه كان عليه أن يكون ركيزة القوة التي يحتاجها الآخرون، كانت حياته القديمة قد اختفت، ولم يستطع التوقف للحظة لتقييم أو استيعاب ما كان يحدث، كان يتحدث عن هذه الفترة بلمسة من التصوف، وبتعجب من استجابته للمصيبة التي ألمت به، والاستجابة التي لقيها من الآخرين.
يشبه الدحدوح على المستوى الشخصي شخصيته المألوفة على الشاشة إلى حد كبير: هادئ الطباع، سهل الانقياد، معتاد على التحدث باللغة العربية الفصحى. كان يتمتع بسُلطة هادئة، ويتجنب العامية لصالح اللغة العربية الفصحى الصحفية الرسمية، ولكن بين الفينة والأخرى كان يظهر جانب آخر من شخصيته، جانب مؤذٍ ومستنكر للذات، مثل الأب الذي يفرض احترامه بخوف ولكنه يخفف من ذلك بلحظات من الدفء.
ولد الدحدوح لعائلة كبيرة – وهو واحد من ثمانية أشقاء وثماني شقيقات – في شمال غزة سنة 1970، وكان آل الدحدوح يعيشون هناك ويزرعون الأرض منذ أجيال، كانت حياة قاسية، تعتمد على العمل المرهق جسديًا، ولكنها كانت حياة طبيعية أيضًا في معظم طفولة الدحدوح؛ فقد كان هناك دائمًا ما يكفي من الطعام وسقف فوق رأس الجميع، وأخبرني الدحدوح أن فترة شبابه كانت “فترة غنية”، مليئة بالأنشطة والأصدقاء. وقال إن السباحة كانت “حبه الأول”، وكان الشاطئ قريبًا من المزرعة وأنه كان “يعيش في البحر” خلال العطل المدرسية.
نشأ عادل زعنون، الذي يعمل الآن صحفيًا في وكالة الأنباء الفرنسية، مع الدحدوح في حي الزيتون، ويصف الدحدوح وهو أصغر سنًا بإعجاب وفخر وسخرية مليئة بالشجن، قال لي زعنون: “لن تصدق ذلك الآن، وأنت ترى كم هو أصلع، لكنه حينها كان لديه شعر كثيف وجميل، وفي كل مرة يفوز فيها بمباراة أو يسجل هدفًا، كان يهز رأسه بقوة ليتهكم على الخاسرين، وكان شعره يتمايل مثل الأسد”، ويتذكر زعنون أن الدحدوح “كان دائمًا لا يهدأ، وكان يحب دائمًا أن يكون محط الأنظار”.
ومع تقدم الدحدوح وإخوته في السن – ترك بعضهم المدرسة مبكرًا للالتحاق بالمزرعة والتحق آخرون بأعمال غير رسمية – أصبح والدهم حريصًا على أهمية الدراسة والسعي وراء نوع مختلف من الحياة. لكن الاحتلال العسكري الإسرائيلي، الذي بدأ سنة 1967، أربك أولئك الذين استجابوا لهذه النصيحة؛ فقد بدا التعليم وكأنه مسعى بعيد لا طائل منه في الوقت الذي كان فيه المستقبل غامضًا للغاية.
وبعد أن أصبح الدحدوح أول فرد ينهي دراسته الثانوية في عائلته، حصل على منحة لدراسة الطب في العراق سنة 1988. لكن الانتفاضة الأولى، أو الانتفاضة التي بدأت في غزة في كانون الأول/ديسمبر 1987 وامتدت إلى بقية الأراضي المحتلة، أفسدت خططه، وقبل أيام من موعد سفره إلى العراق لبدء دراسة الطب، جاء الجيش الإسرائيلي إلى منزله في منتصف الليل واعتقله، وكان عمره حينها 17 سنة.
وبعد ثلاثة أشهر من الاستجواب والاحتجاز، اتهم الدحدوح بما أسماه “الأنشطة المعتادة للانتفاضة”: إلقاء الحجارة، وحرق إطارات السيارات، والمواجهات مع القوات المسلحة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة، وتماشيًا مع السياسة التي اتبعتها السلطات الإسرائيلية خلال الانتفاضة لردع المشاركة في النشاطات المناهضة للاحتلال، هدمت السلطات الإسرائيلية منزل عائلته.
وقال لي زعنون: “كانت عمليات هدم المنازل منتظمة خلال تلك الفترة، وكانوا في بعض الأحيان يهدمون نصف المنزل كتحذير ويتركون غرفة أو غرفتين ليحتمي بها السكان، وإذا لم تتم الاستجابة للتحذير، كانت القوات تعود وتهدم المنزل بأكمله”.
قضى الدحدوح فترة سجنه في سجون غزة في المؤسسات التي تديرها الشرطة، مثل سجن غزة المركزي، ووجد أن السجناء كانوا قادرين على الضغط بشكل جماعي على السلطات لتأمين الحقوق الأساسية، أما في السجون العسكرية التي قضى فيها حوالي نصف مدة عقوبته، فقد كانت الحياة أسوأ بكثير، وقال إن الجنود كانوا يفتقرون إلى الخبرة، ولم يكونوا منشغلين بإدارة السجناء بل بتحطيم معنوياتهم، وكانت المياه مقننة ولم يكن السجناء يستحمون لأسابيع في كل مرة، كانت المجاري تطفح بانتظام، وكانت مخلفاتها تترك راكدة، وقال إنه على مدار السنوات السبع التي قضاها في السجن، لم يُسمح له إلا بزيارتين فقط من قبل عائلته.
بعد إطلاق سراحه في عام 1995 عن عمر يناهز 24 عامًا، سعى الدحدوح مرة أخرى لمتابعة دراسته في مجال الطب في العراق، إلا أن السلطات الإسرائيلية منعت مغادرته. في تلك الفترة، لم تكن هناك كليات طبية في غزة، لكن الجامعة الإسلامية في غزة كانت قد أطلقت مؤخراً برنامجاً جديداً في دراسات الصحافة والإعلام. فتقدم الدحدوح للالتحاق بالجامعة وبدأ مسيرته الأكاديمية.
في هذه الأثناء، تزوج، قائلاً ضاحكاً: “لقد فقدت سبع سنوات، لذا لم يكن هناك وقت لتضيعه”. في عام 1998، انطلق الدحدوح كصحفي في جريدة القدس، التي تُعدّ أكبر صحيفة في الأراضي الفلسطينية، وبعد عامين، خلال الانتفاضة الثانية، بدأ بتوسيع نطاق عمله ليشمل الإذاعة والتلفزيون كمراسل مستقل.
يسترجع رشدي أبو العوف، الذي أصبح لاحقاً مراسلاً بارزاً لدى هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، ذكرياته عن الفترة التي قضاها مع الدحدوح كزميل في دراسة الصحافة في غزة. ويصف تلك المرحلة بأنها كانت حاسمة، حيث كان هناك عدد قليل من الصحفيين المدربين مهنياً، من بينهم الدحدوح وزعنون، مما جعلهم يشكلون نواة جيل صحفي رائد في غزة. ويقول أبو العوف: “كنا نغطي جميع الأحداث السياسية، وكان ياسر عرفات يعرفنا جميعاً بالاسم، ويسأل عنا إذا غبنا عن أي مؤتمر صحفي”.
في تلك الفترة، أصبح التلفزيون الفضائي قوة عابرة للحدود في المنطقة؛ حيث بدأت قنوات الأخبار الكبرى، مثل “العربية” المملوكة للسعودية و”الجزيرة” الممولة من قطر، في بث برامجها، وأصبحت الأطباق الفضائية أقل تكلفة، مما أتاح لهذه القنوات الجديدة المجانية الوصول إلى جمهور أوسع بكثير. وعبر موجات الهواء، التقى العرب ببعضهم البعض للمرة الأولى. وكانت المفاجأة كبيرة لدى الكثيرين أمام جرأة اللبنانيين الذين برزوا بنجومهم الشعبيين في فيديوهات موسيقية جريئة. كما أسرتهم البرامج الحوارية السياسية، وخاصة على “الجزيرة”. فلم يكن العديد من العرب يتوقعون رؤية قادتهم غير المنتخبين ومسؤولي الاحتلال الإسرائيلي يتعرضون للاستجواب، وليس على قنواتهم الرسمية الخاضعة للرقابة، بل على التلفزيون الفضائي العربي.
برزت البرامج الحوارية، مثل “الاتجاه المعاكس” على “الجزيرة”، لتسلط الضوء على انتقادات موجهة لأطراف كانت تُعتبر في السابق فوق النقد، مثل الأسر الملكية في الخليج. وغالباً ما كانت النقاشات تتحول إلى مشاجرات، مما كان يستدعي تدخل المضيف بشكل جسدي. وقد أضفى ذلك طابعاً مثيراً على البرامج، ولا تزال مقاطع معينة من هذه المشاجرات تُتداول عبر الإنترنت، حيث أصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية.
بالنسبة للدحدوح، كانت تلك الفترة أشبه بالخيال، فقبل سنوات قليلة فقط، كان خلف القضبان، والآن، كصحفي ناشئ في مجال البث، أصبح جزءًا من ثورة إعلامية. وفي عام 2004، انضم إلى طاقم قناة الجزيرة، حيث وجد في وطنه رسالة إعلامية نذر نفسه لخدمتها. ورغم أن حياته التي حلم ببدئها خارج غزة توقفت قبل أن تنطلق، إلا أنه اكتشف في تلك التجربة فرصة للتأثير والتغيير من خلال الصحافة.
منذ انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة عام 2005، لم يتوانَ الدحدوح عن تغطية كل مواجهة وصراع يندلع في القطاع. ومع مرور الوقت، تحولت مهنة التغطية الحربية في غزة إلى “صناعة محلية”، حيث وجد العديد من السكان المحليين فرصاً للعمل كمصورين ومنتجين وسائقين ومساعدين، مما ساهم في بناء مجتمع صحفي متماسك.
في هذا السياق، يتلقى الشباب تدريباتهم المهنية على يد ذوي الخبرة مثل الدحدوح، الذي يعتبر رمزاً للإلهام والتوجيه. ويقول حمدان، ابن شقيقه ومنتجه الميداني الدائم، إن “الدحدوح كان مدرسة قائمة بذاتها للصحفيين الشباب”، مضيفًا بأن زملاءه يطلقون عليه لقب “أبو حمزة” كعلامة على الاحترام والمودة التي يكنونها له.
بعد الغارة التي أودت بحياة زوجته وأطفاله، بقي الدحدوح في مدينة غزة، بينما أرسل بناته الأربع وابنه يحيى إلى منطقة أكثر أماناً في وسط القطاع. ومع فريق عمل صغير يتألف من حمدان، وسائق، ومحرر، واصل تغطيته للأحداث من قلب الميدان. وكان مشهد الحشود المتجمعة خلف الكاميرا لافتًا، حيث توافد السكان للاستماع إلى تحديثاته حول أوضاع مناطقهم.
ويقول حمدان: “كان الناس يهرعون نحوه، متعطشين لسماع الأخبار والحصول على آخر المستجدات، خاصة مع انقطاع الإنترنت والكهرباء وتدمير المحطات الإذاعية المحلية في بداية الحرب”، وبذلك، أصبح الدحدوح، إلى جانب عمله كمراسل دولي، بمثابة محطة إخبارية متنقلة تلبي حاجة الناس للمعلومات.
في تلك الفترة، كان الدحدوح يقيم في مكتب قناة الجزيرة، يخرج منه يومياً لمتابعة تغطية التطورات الميدانية. ووصف هذه المرحلة بأنها “بالغة الصعوبة”، حيث تصاعدت الضربات الجوية بينما كانت إسرائيل تستعد لحصار مدينة غزة وتوسيع الهجوم البري الذي بدأ في 28 تشرين الأول/أكتوبر.
يقول حمدان إن المشاهد التي عايشوها كانت “مروعة؛ كنا نسير فوق بقايا أجساد”، ويضيف الدحدوح أن الليالي كانت الأكثر صعوبة: “لا كهرباء، لا أناس، وصوت الانفجارات يهز المبنى؛ ولا نوم”. وعندما دخلت القوات الإسرائيلية البرية مدينة غزة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر، كان الدحدوح يطل من نافذة المكتب، يشاهد الدبابات تتقدم نحو المدينة.
تلقى الدحدوح وفريقه رسائل ملحّة من عائلاتهم وأصدقائهم تدعوهم لمغادرة المدينة على الفور. ورغم إصراره على البقاء، أدرك الدحدوح بعد التشاور مع فريقه أن مواصلة العمل ستعرضهم لخطر الموت أو الاعتقال، مما قد يؤدي إلى إنهاء مسيرتهم الصحفية. وفي 10 تشرين الثاني/ نوفمبر، اتخذوا قراراً صعباً بخلع ستراتهم وخوذهم الصحفية ومغادرة المكتب. وبعد دقائق من رحيلهم، وصلت الدبابات إلى مدخل مبنى الجزيرة.
كانت مغادرة شمال غزة، مسقط رأس الدحدوح ومسرح أعنف المواجهات، تجربة “شديدة المرارة” بالنسبة له؛ حيث وصفها بقوله: “شعرت وكأنها هزيمة”، وانتقل مع فريقه إلى خان يونس، حيث أسسوا مقراً جديداً لمواصلة التغطية، مع التركيز على رصد الأحداث في مختلف مناطق وسط القطاع ورفح في الجنوب.
في هذه الأثناء شهد عدد الصحفيين العاملين في غزة تراجعاً ملحوظاً. ففي 14 كانون الأول/ ديسمبر، أطلقت الأمم المتحدة تحذيراً بشأن “العدد غير المسبوق من الصحفيين والعاملين في الإعلام الذين فقدوا حياتهم في غزة.” وبحسب إحصائياتها في ذلك الوقت، تأكد استشهاد 50 صحفياً في غزة.
وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر، توجه الصحفي الدحدوح ومصوره سامر أبو دقة إلى موقع غارة جوية استهدفت مدرسة في خان يونس. انطلقوا في سيارة إسعاف، برفقة ثلاثة عناصر من قوات الدفاع المدني، الجهة الحكومية المسؤولة عن خدمات الطوارئ، والتي حصلت على إذن من الجيش الإسرائيلي للتواجد في المنطقة عبر الصليب الأحمر.
وصل الفريق إلى الموقع عند الظهر، بينما كانت الطائرات الإسرائيلية المسيرة تحلق فوقهم. واستمروا في تغطية الأحداث لأكثر من ساعتين، لكن أثناء عودتهم إلى مركبتهم، تعرضوا للاستهداف من إحدى الطائرات المسيرة، ووصف الدحدوح تلك اللحظة بأنها كالعاصفة التي اجتاحت كل شيء. وفي اللحظات التي سبقت فقدانه للوعي اعتقد أن نهايته قد اقتربت، وأنه بعد سبعة أسابيع من استشهاد أفراد عائلته، سيلاقي نفس المصير. وتخيل نفسه في لعبة فيديو، حيث لم يعد هناك المزيد من الحركات أو المستويات لاستكشافها، وأخبر نفسه: “انتهت اللعبة، يا أبو حمزة”.
لكن الدحدوح استعاد وعيه، ليشعر بفقدان سمعه وذراعه المخدرة، وبينما كان يتعثر نحو ملجأ، أدرك أن الدم ينزف بغزارة من كتفه. وعندما نظر حوله وجد جثث ثلاثة من عناصر الدفاع المدني. بعد ذلك، رصد أبو دقة مستلقياً على الأرض، لكنه كان واعياً ويشير بيده. حاول الدحدوح طلب المساعدة لصديقه وزميله القديم، لكن عمال الإسعاف القريبين أخبروه أنهم لا يستطيعون الوصول إلى أبو دقة خوفاً من أن يتعرضوا للإصابة أيضًا.
نُقل الدحدوح إلى المستشفى، حيث تظهر اللقطات وهو يرقد على سرير بينما يسعى العاملون الطبيون لإيقاف تدفق الدم من ذراعه. ظل ينادي لإنقاذ أبو دقة، قائلاً: “كان سامر معي في المكان؛ كان سامر يصرخ”، وذلك بين أنين الألم أثناء تلقيه العلاج، وأكد قائلاً: “نسقوا مع الصليب الأحمر. اجعلوا أحداً يذهب لإنقاذه”.
- الدحدوح في المستشفى بعد إصابته في غارة جوية إسرائيلية
وفي خطوة استباقية، تواصل وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في رام الله، مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر للحصول على إذن من السلطات الإسرائيلية لإرسال سيارة إسعاف إلى موقع الغارة. وبينما كانت فرق الإنقاذ تنتظر الموافقة من جيش الدفاع الإسرائيلي، مرت ساعات حرجة دون أي تقدم. وخلال هذه الفترة، قامت قناة الجزيرة ببث عداد مباشر على شاشتها، يُظهر الساعات والدقائق التي تمر دون أن يتلقى الصحفي سامر أبو دقة أي مساعدة.
وبعد حوالي خمس ساعات، تم أخيراً منح الإذن للوصول إلى موقع الغارة، وعندما وصلت سيارات الإسعاف بعد نصف ساعة، كانت الصدمة كبيرة حيث عُثر على أبو دقة جثةً هامدة، ليصبح بذلك أول صحفي في قناة الجزيرة يُستشهد في غزة منذ بداية الحرب.
بعد قضائه ليلة واحدة في وحدة العناية المركزة، حضر الدحدوح جنازة صديقه، يلامس وجهه بينما تسيل الدموع من عينيه. ووقف ابنه الأكبر، حمزة، خلفه، وتشكّلت مرة أخرى حلقة من الحزن حول الدحدوح أثناء دفنه أحد أحبائه. وبعد ساعات قليلة، عاد الدحدوح للظهور على الهواء، لكن ذراعه كانت ملفوفة بالشاش وإبر طبية تبرز من معصميه، ما يُعد دليلاً على محنته.
يُعرف الدحدوح بلقب “الجبل”، حيث قال: “أنا رجل عنيد”، موضحاً أسباب اختياره البقاء وعدم المغادرة بعد إصابته، فقد تحمل العديد من الخسائر، وشهد الموت عن كثب، حتى إنه لم يعد يخاف منه. بالنسبة له، أصبحت “الحياة والموت” وجهين لعملة واحدة. كان همه الوحيد أنه عندما يأتي الموت، سيجده “واقفاً على قدميه”، مؤكداً أنه ما دام حياً، مهما كانت إصاباته، سيبقى في غزة ويواصل التغطية الصحفية.
“اتصلت به العديد من الشخصيات البارزة لإقناعه بمغادرة غزة”، كما أخبرني زعنون، صديقه من الطفولة. بالنسبة لمعظم الفلسطينيين في غزة، كانت فكرة المغادرة مستحيلة، لكن وضع الدحدوح كان مختلفاً. فقد تمكنت قناة الجزيرة أحياناً من الحصول على إذن من السلطات الإسرائيلية لإجلاء الموظفين وعائلاتهم.
زعنون وآخرون نصحوه بأن مغادرته لن تُعتبر هزيمة، فقد حقق ما يكفي، والآن حان الوقت للاعتناء بعائلته وبنفسه، ودون رعاية طبية عاجلة، قد يفقد ذراعه. بالإضافة إلى ذلك، أصبح رمزيته أكبر من أي وقت مضى، حيث ارتفعت مخاطر استهدافه من قبل إسرائيل بشكل ملحوظ. ماذا ستكون قيمته لأحد إذا اغتيل؟
بعد ثلاثة أيام من الغارة الجوية، اتخذ الدحدوح قراراً بمغادرة غزة، لكنه احتفظ بخطة سرية. إذا سُمح لعائلته بالمغادرة عبر معبر رفح، فسيرافقهم إلى الحدود، ثم سيعود أدراجه بعد عبورهم. كان يثق في حمزة، ابنه، ليتولى “قيادة آل الدحدوح نحو المستقبل”.
لم يكن حمزة مجرد الابن الأكبر، بل كان الداعم الرئيسي للدحدوح وركيزته الأساسية.. تعلم المهنة من والده، وانضم مؤخراً إلى قناة الجزيرة. خلال سنوات غياب الدحدوح عن المنزل لأداء واجباته، كان حمزة هو من يتولى مكانه. تحدث الدحدوح بفخر عن ابنه، واصفاً إياه بأنه طيب وكريم وطموح. وعندما شارك الدحدوح خطته مع حمزة في الأسبوع الأخير من كانون الأول/ ديسمبر، أخبره ابنه أنه كان لديه نفس الفكرة، لكن في نسخته، كان سيعبر والده الحدود بينما يعود هو. ومع ذلك، لم يأخذ الدحدوح بنصيحته، وانتظرا الإذن للمغادرة.
في أواخر كانون الأول/ ديسمبر، حصلت نقابة الصحفيين المصريين على الموافقة للدحدوح وأحفاده المتبقين وأطفاله وأزواجهم للمغادرة في 2 كانون الثاني/ يناير عبر معبر رفح. وأثناء استعدادهم للرحيل، أدرك الدحدوح في الليلة التي سبقت مغادرتهم أن قائمة الأسماء المعتمدة كانت تفتقر إلى اسم واحدة من بناته واسم حفيدين.
- وائل الدحدوح
في الأيام التالية، بينما كان الدحدوح ينتظر استكمال الأوراق اللازمة لمغادرة غزة، واصل تغطيته الصحفية من خان يونس. في الوقت نفسه، كان ابنه حمزة يعمل في رفح، حيث تناول آثار الغارات الجوية التي استهدفت المدينة، لا سيما تلك القريبة من المستشفى الكويتي.
لكن في 7 كانون الثاني/ يناير؛ وصل إلى الدحدوح خبر مفجع عن إصابة حمزة. سارع إلى موقع الهجوم، وعندما رأى السيارة التي كان ابنه يستقلها، أدرك في أعماق قلبه أن حمزة قد استشهد، وعند العثور عليه في ثلاجة الموتى بالمستشفى الكويتي، كان داخل كيس الجثة، فأخرجه الدحدوح من الكيس واحتضنه، ليشعر بلحظة غريبة وكأن حمزة يحتضنه من جديد.
وأثناء حديثه عن تلك اللحظة المأساوية، توقف الدحدوح لحظة، محاولاً، كما اعتاد على مدار سنوات، استحضار فكرة ختامية تعبر عن القدر والعزيمة، لكن الكلمات خانته، فاستنشق نفساً عميقاً، وقال: “كان الأمر كله خارج يدي”.
وفي يوم جنازة حمزة، وجد الدحدوح نفسه محاطاً بجمهور غفير في حالة من الذهول، فأصبح مرة أخرى رمزاً لحزن مجتمع كامل، وتجمع الأطفال حوله وهو يتلقى التعازي، بينما وضعت امرأة مسنّة يدها على رأسه ودعت له. وتحوّلت مأساة الدحدوح إلى حديث الساعة على الساحة الدولية؛ حيث وصف وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، استشهاد حمزة بأنه “خسارة لا تُصدَّق”، معبراً عن صعوبة تخيل الرعب الذي عاشه الدحدوح “ليس مرة واحدة، بل مرتين”.
خلال محادثتنا في الدوحة، عرضتُ على الدحدوح عدة مرات أخذ استراحة واقترحت عليه العودة في وقت لاحق إذا كان يفضل ذلك، لكنه رفض قائلاً إنه بحاجة إلى إخراج كل ما في جعبته دفعة واحدة. وكانت الاستراحة الوحيدة التي قبلها الدحدوح خلال ساعات حديثنا عندما وصلنا إلى موضوع حمزة، فقد كانت لحمزة مكانة خاصة بالنسبة له.
ومع امتداد الحديث إلى المساء، ظهر نمط معين، وهو الإشارة إلى حمزة، ثم الانتقال بالحديث بعيدًا عنه إلى حكاية أو ملاحظة أخرى. وفي إحدى المرات، بعد أن تحدث عن العثور على جثة ابنه في المشرحة، حاول الدحدوح أن يصف حمزة بالكلمات، فبدأ في الحديث عن كل ما كان ينوي تحقيقه كصحفي، ثم توقف “الدحدوح”، محاولًا مرة أخرى أن يتصالح مع ما حدث، فهز رأسه. “كانت تلك قصته”، كان هذا كل ما استطاع قوله.
وبعد يومين من مقتل حمزة، ذهب الدحدوح مع عائلته إلى الحدود، وكان معه قائمة كاملة بالنازحين، وتأكد من السماح لهم جميعًا بالمرور بأمان، ثم عاد أدراجه كما كان يخطط دائمًا؛ حيث كان مكانه في غزة، حتى لو بدا أنها مجرد مسألة وقت قبل أن يُقتل هو أيضًا.
لكن بعد بضعة أيام من عبور عائلته، بدأ الدحدوح يشعر بالاستسلام، فلقد غيّر موت حمزة كل شيء. ووصف رشدي أبو العوف، الذي يعرف الدحدوح منذ 30 سنة، ذلك بأنه “الضربة القاضية”. فبدون حمزة، أصبح الدحدوح أقل يقينًا بشأن مصير عائلته في الخارج. وأصبح منطق الرحيل؛ الذي كان يرفضه في السابق رفضًا قاطعًا، أصبح أكثر إقناعًا.
قال الدحدوح، موضحًا تغيير موقفه: “في الحرب، النساء والأطفال هم من يكسرون ظهرك”. وفي جنازة حمزة، قبّلت إحدى بنات الدحدوح جثة شقيقها ثم احتضنت والدها، وهي تبكي، وتوسلت إليه: “من فضلك، ابق معنا.. لم يتبق لدينا أحد سواك”.
- الدحدوح مع العائلة والأصدقاء عند قبر ابنه حمزة
لذلك في الأسبوع الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير، قام الدحدوح بالصلاة ولجأ إلى الاستخارة، التي يستخير فيها المصلي الله في الاختيار، ويضع القرار بين يديه ويطلب اليقين، وهي حالة من المعرفة والاطمئنان والاستنارة، وشعر الدحدوح بهذا الرضا بعد الصلاة بشأن قراره بمغادرة غزة والانضمام إلى عائلته.
في 16 كانون الثاني/ يناير؛ عبر الدحدوح إلى مصر، ثم غادر إلى الدوحة. وسلّم زمام الأمور لصحفي شاب، وهو إسماعيل الغول، في شمال غزة، أخطر مناطق القطاع، وأخبره أنه إذا رغب هو الآخر في التوقف عن العمل واللجوء إلى عائلته في الجنوب، فلن يلومه أحد، إلا أن الغول قد رفض ذلك، وبعد بضعة أشهر، استشهد الغول.
على مدار السنة الماضية؛ تحولت التوترات التي طال أمدها بين إسرائيل وقناة الجزيرة، التي تمولها قطر، إلى صراع مفتوح. وفي شهر أيار/ مايو، صوت الكنيست بالإجماع على حظر قناة الجزيرة في إسرائيل، والتي وصفها بأنها تهديد للأمن الإسرائيلي وأداة دعائية لحماس. وفي اليوم نفسه، داهمت السلطات الإسرائيلية مكاتب الجزيرة في القدس الشرقية المحتلة وصادرت معداتها.
وفي منتصف تموز/ يوليو؛ التقيت في مقر الجزيرة في الدوحة بتامر المسحال الذي يدير فريق التقارير في غزة؛ حيث تحدث عن الدحدوح بقلق، ولكن دون خوف أو انزعاج، فعلى الأقل، هو الآن في أمان. بينما كان تركيز المسحال على المراسلين المتبقين في غزة، الذين يحتاجون إلى بضع ساعات كل يوم فقط لتأمين الطعام والماء النظيف.
بالإضافة إلى ما أسماه “إبادة” عائلة الدحدوح، قال المسحال إن مؤمن الشرافي، وهو مراسل مقيم في جنوب غزة، فقد 22 فردًا من عائلته في قصف واحد، ولا تزال جثثهم تحت الأنقاض. وفي 31 تموز/ يوليو، فقد المسحال اثنين من أعضاء فريقه؛ خليفة الدحدوح: إسماعيل الغول، والمصور رامي الرفاعي، الذين قُتلا في غارة جوية إسرائيلية، وقبل ساعتين من الهجوم، كانا يبثان مباشرة من مدينة غزة.
وفي أيلول/ سبتمبر؛ أغلق الجنود الإسرائيليون مكتب قناة الجزيرة في مدينة رام الله بالضفة الغربية بدعوى أن القناة “تحرض على الإرهاب” و”تدعم الأنشطة الإرهابية”. وبعد ذلك، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أصيب مصور الجزيرة علي العطار خلال غارة خارج مستشفى الأقصى وسط قطاع غزة، حيث كان يحتمي مع مدنيين آخرين.
وبعد يومين، قنصت طائرة مسيرة مصور آخر من الجزيرة هو فادي الوحيدي وفريق من الصحفيين الآخرين أثناء تغطيتهم للهجوم على مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة. وكان جميعهم يرتدون سترات واقية من الرصاص؛ حيث أصيب الوحيدي برصاصة في رقبته، ولا يزال العطار والوحيدي في حالة حرجة، والأخير في غيبوبة.
وعندما تحدثتُ مع المسحال، المحرر الميداني في غزة، مرة أخرى في تشرين الأول/ أكتوبر، تغيرت لهجته. ففي الصيف، كان مشغولاً بالتحديات اللوجستية على الأرض، لكنه بدا متماسكًا بل وفخورًا. أما الآن، فقد كان يتحدث متعجلًا، في حالة من الذعر تقريبًا، وبالكاد كان يلتقط أنفاسه.
على مدى الأشهر الأخيرة، تصاعدت الهجمات ضد الصحفيين، وكان رجال فريقه يستشهدون. وعلى الرغم من الضغوط الدولية، لم تمنح إسرائيل الإذن بإجلاء العطار والوحيدي، وقال المسحال: “كل دقيقة تمر دون علاج تقربهم من الموت”.
وتؤكد الجزيرة أن هناك نمطًا واضحًا لاستهداف إسرائيل للصحفيين من أجل إسكاتهم، وهو ما نفته إسرائيل. وفي كانون الأول/ ديسمبر، بعد مقتل سامر أبو دقة، قال الجيش الإسرائيلي إنه “يتخذ جميع التدابير الممكنة لحماية المدنيين والصحفيين على حد سواء، مؤكدًا أنه لم ولن يتعمد أبدًا استهداف الصحفيين”.
وفي حزيران/يونيو 2024، ذكر الجيش الإسرائيلي أنه حتى أولئك الذين يعملون في شبكة الإعلام التابعة لحماس – الذين قُتل 23 منهم منذ بداية الحرب – لم يكونوا أهدافًا. وقال الجيش الإسرائيلي في بيان له ردًا على تحقيق أجرته صحيفة الغارديان: “لا يعتبر الجيش الإسرائيلي شبكات حماس الإعلامية أو الصحفيين التابعين لها أعضاء في الجناح العسكري لحماس. وعليه، فإن الجيش الإسرائيلي لا يستهدف الصحفيين بصفتهم هذه”.
وفي معظم الحالات التي قُتل فيها صحفيون، وصف الجيش الإسرائيلي هذه الحوادث بأنها حوادث مأساوية أو أضرار جانبية. ومع ذلك، في بعض الحالات، مثل استشهاد الغول، زعم الجيش الإسرائيلي أن المستهدفين كانوا يشكلون تهديدًا نشطًا أو كانوا عملاء سريين لحماس أو جماعات مسلحة أخرى. (وقد تم نفي هذه الادعاءات بشدة. وفي حالة الغول، وصفت منظمة “مراسلون بلا حدود” ادعاءات إسرائيل بأنها “تستند إلى أدلة غير كافية ومشكوك فيها”).
وعندما قُتل نجل الدحدوح، حمزة، في كانون الثاني/ يناير، ادعى الجيش الإسرائيلي في البداية أنه قُتل “كإرهابي يقود طائرة كانت تشكل تهديدًا لقوات الجيش الإسرائيلي”. وكانت الطائرة التي كان حمزة يقودها طائرة مسيرة صغيرة تستخدم لجمع الصور. وفي اليوم التالي، بدا أن الجيش الإسرائيلي تراجع عن هذا الادعاء، ملمحًا إلى أن عملية القتل كانت عن طريق الخطأ. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري لشبكة إن بي سي إن “كل صحفي يموت هو أمر مؤسف”، مضيفًا أن الطائرة المسيرة التي كانوا يحلقون بها جعلتهم يبدون وكأنهم “إرهابيون”، وقال إن سيجري تحقيقًا بشأن ذلك.
وبعد يومين؛ ادعى الجيش الإسرائيلي أن لديه أدلة على أن حمزة ومصطفى ثريا، الصحفي المستقل الذي قُتل معه، كانا عضوين في جماعات متشددة، وأن الطائرة المسيرة التي كانا يحلقان بها كانت تشكل “تهديدًا مباشرًا”. وفي آذار/ مارس، استرجعت صحيفة واشنطن بوست بطاقة الذاكرة الخاصة بالطائرة المسيرة التي كان ثريا يقودها، ووجدت أنه “لا يوجد جنود إسرائيليون أو طائرات أو معدات عسكرية أخرى مرئية في اللقطات التي التقطت في ذلك اليوم”. وعندما قدمت الصحيفة هذه المعلومات إلى الجيش الإسرائيلي، قال الجيش الإسرائيلي أنه “ليس لديه ما يضيفه”.
ومنذ الصيف؛ ازدادت حدة موقف إسرائيل تجاه الجزيرة. ففي تشرين الأول/ أكتوبر، ادعى الجيش الإسرائيلي أنه كشف عن أدلة على أن ستة من صحفيي الجزيرة العاملين حاليًا في غزة هم أعضاء عسكريون رفيعو المستوى في حركتي حماس والجهاد الإسلامي. (قالت جودي غينسبرغ، رئيسة لجنة حماية الصحفيين، إن هذه الادعاءات بالانتماء الإرهابي قبل مقتل أحد الصحفيين “أمر لم نشهده من قبل على الإطلاق”).
وقال الجيش الإسرائيلي أيضًا إنه عثر على أدلة تظهر “كيف تتحكم حماس في التغطية الصحفية على قناة الجزيرة بما يتناسب مع مصالحها”، حيث يُزعم أنها تملي على الجزيرة كيفية تغطية بعض الحوادث أو القصص التي تريدها أن تُحجب. ورفضت الجزيرة مزاعم إسرائيل بشأن صحفييها ووصفتها بأنها “ملفقة” و”محاولة سافرة لإسكات الصحفيين القلائل المتبقين في المنطقة”. أما فيما يتعلق بادعاءات التنسيق مع حماس، فقد وصفتها الجزيرة بأنها “محاولة يائسة” من قبل إسرائيل “لإخفاء جرائمها”.
وتقييم هذه الادعاءات والادعاءات المضادة بشكل مستقل أصبح أكثر صعوبة بسبب عدم السماح لأي صحفي أجنبي بالتغطية في غزة لأكثر من سنة. وفي الوقت نفسه، يتولى الصحفيون الفلسطينيون وحدهم مهمة تغطية الحرب على الأرض، رغم المخاطر الاستثنائية التي يواجهونها. ووفقًا للجنة حماية الصحفيين، فإن إسرائيل قتلت منذ بدء الحرب ما لا يقل عن 123 صحفيًا فلسطينيًا.
منزل الدحدوح في الدوحة يعج بالحياة، وهو بسيط لكن مجهز بشكل جيد، ويرافقه أربع بنات، وثلاثة أصهار، وثلاثة أحفاد، بالإضافة إلى ابنه يحيى، الذي شُفي الآن. وبينما كان الدحدوح يتحدث، كنت أسمع أصوات الأطفال يركضون حول المنزل، وصوت التلفاز، وفي لحظة ما، بكاء طفلة صغيرة، أماني، التي سميت على اسم جدتها، زوجة الدحدوح الراحلة. وفي الصالة المقابلة للمكان الذي جلسنا فيه عُلقت عبارة “طفلة صغيرة”، مكتوبة بأحرف كبيرة لامعة على شكل بالون. وفي غرفة المعيشة كانت هناك صورة مؤطرة لحمزة وهو يرتدي خوذة الصحافة وسترة واقية من الرصاص.
كان الدحدوح كلما تداخلت مشاعره في سرده، كان يبتلع ريقه أو يسعل، وغالبًا ما كان يسعل عندما يتحدث عن الأطفال الذين فقدهم. وبدون إلحاح، كان يستحضرهم ويتحدث عنهم كما لو كانوا لا يزالون على قيد الحياة. لقد كان حمزة الابن الأكبر المحبوب، وكان محمود صبيًا مفعمًا بالطاقة والحيوية؛ حيث كان يذهب إلى المدرسة الأمريكية، وهي مدرسة مرموقة لتعليم اللغة الإنجليزية، كما قال الدحدوح بشيء من الفخر.
وكان محمود صحفيًا ناشئًا يحب سرد القصص، وكانت شام الابنة الصغرى المدللة والمحبوبة. كان يستدعيهم واحدًا تلو الآخر مبتسمًا، ثم يتراجع عن ذلك عندما يخطر بباله من جديد أنهم ماتوا. وأحيانًا كان يهزّ رأسه كما لو كان يوقظ نفسه لواقع لم يصدّق بعد أنه قد حلّ به. فقبل يومين من بدء الحرب في السنة الماضية، كان يخطط لرحلته الأولى إلى أوروبا – عطلة في باريس بمناسبة رأس السنة الجديدة – مع صديقيه القديمين زعنون وأبو العوف. قال أبو العوف: “لم يكن هناك حديث عن الحرب، بل عن المستقبل فقط”.
وفي بعض الأحيان، أثناء حديثنا، فقد الدحدوح التركيز. ففي إحدى المرات، قال إنه فقد أربعة من ثمانية أطفال، وهو يعد أسمائهم على أصابعه، لكن زوج ابنته صحح له، موضحًا أن لديه خمسة أطفال متبقيين، وليس أربعة. وكان الدحدوح قد حسب آدم، حفيده، ضمن أطفاله. وتسبب هذا في لبس غريب، حيث ذكر زوج ابنته أن آدم هو ابنه، وليس ابن الدحدوح.
كانت أيامه مليئة بالقلق، حيث كان يستعد لتلقي أخبار سيئة من الوطن. فقد شعر فقط بـ”المرارة والعجز” في تحوله من شخص كان في “قلب الأحداث” إلى شخص يشاهد فقط. وكان ينام بشكل سيء، بينما لم تكن الأعصاب في ذراعه تلتئم. كان يستعيد الإحساس، لكن الحركة لم تعُد بعد. وكانت ذراعه محاطة بجهاز أسود يمتد من كتفه حتى أطراف أصابعه، وكان واضحًا أنه يسبب له بعض الانزعاج. لقد كان يقضي أيامه في العلاج الطبيعي، واستقبال الضيوف والمهنئين، وزاره زعنون وأبو العوف عدة مرات في الدوحة.
وبعد يومين من لقائنا، غادر الدحدوح إلى ألمانيا لتلقي المزيد من العلاج. وأخبرني عندما تحدثت معه في تشرين الأول/ أكتوبر أن الشفاء كان يسير ببطء، ولكن كان هناك تقدم. و”احترامًا لرجل عجوز“، قال إن الطقس الأوروبي كان لطيفًا معه. وذكر أنه في غضون يومين، سيكون قد مر عام بالضبط على مقتل زوجته وطفليه وحفيده.
عندما تحدث الدحدوح عن الموت، كان يتحدث بتفاصيل دقيقة وبتركيز تحقيقي، فلم يكن هو نفسه في أي مكان في الصورة، وكان يتحدث كصحفي، وليس كأب أو جد أو زوج أو صديق. لقد اعتاد على أداء عمله مع السيطرة على حزنه، لدرجة أن الصحافة أصبحت وسيلته للحماية من الانهيار، لكنها أيضًا منعته من الحداد، ومن التمعن في الحياة التي فقدها.
ويمكن العثور على لمحات من تلك الحياة في الأرشيف، فهناك مقطع معين يظل عالقًا في ذهني. في الثواني الأخيرة من وثائقي لقناة الجزيرة سنة 2016 عن الدحدوح وزملائه، كان يسبح في البحر قبالة سواحل غزة. وكان يغوص تحت الماء، ينزلق تحت السطح، ويبدو خفيفًا كأنه بدون وزن، ثم يخرج إلى السطح ليأخذ نفسًا. ويظهر وهو يرتدي قميصًا غير متناسق وسروالًا قصيرًا، ثم يجلس على الشاطئ، يبدو منتعشًا ومسترخيًا. ومعه مجموعة صغيرة من الأولاد والشباب يتحدثون ويضحكون وينادون بعضهم البعض، ومن بينهم كانا ابناه حمزة ومحمود. وتمتد المباني في غزة إلى السماء خلفهم. في تلك اللحظة من الطبيعية، هناك سجل لكل ما فقد، وكان ذلك قبل أن تجتاح الحرب الدحدوح وعائلته وغزة بأكملها. على الشاطئ في ذلك اليوم، كان هناك مستقبل. تندلع معركة رمال، ويبدأون جميعًا في التملص والقفز وقذف قبضات من الرمال على بعضهم البعض، ثم يغوصون جميعًا معًا في البحر.
المصدر: الغارديان