رغم نجاته من محاولة أولية لعزله بدعوى تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالحه دفع ثمنها صديقه المقرب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) جيمس كومي، من الواضح أن روسيا ستظل الكابوس الذي يؤرق منام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
قبل عدة أيام كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” النقاب عن قيام فريق من مكافحة التجسس تابع لـ(FBI) ببدء تحقيق فيما إذا كان ترامب يعمل سرًا لصالح الروس ضد مصلحة الأمن القومي الأمريكي، فضلاً عن مناقشة الكونغرس الأمريكي لتلك الاتهامات تمهيدًا لإصدار قرار سريع بشأنها.
لكن يبدو أن المصائب لا تأتي فرادى، فبعد أربعة أيام فقط من تقرير “نيويورك تايمز” بشأن عمل ترامب ضد مصلحة بلاده ها هي الصحيفة ذاتها تكشف تعمد إخفاء الرئيس الأمريكي تفاصيل اجتماعاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن مسؤولين بارزين في إدارته وهو ما أثار العديد من علامات الاستفهام عن دوافع حجب ما دار داخل تلك اللقاءات ومدى ما يمكن أن يعزز ذلك فرضية اتهامه بالتآمر مع موسكو.
ورغم نفي المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف، تلك الاتهامات، لافتًا أنها “لا صلة لها بالواقع” وأن “أمريكا قد وجدت نفسها في موقف غريب عنها، هناك انقسام في المجتمع والحكومة، والنتيجة هي الظروف الصعبة التي يعمل ترامب بها”، فإن إقدام ترامب على هذه الخطوة أثار الكثير من الجدل داخل الشارع الأمريكي.
5 لقاءات دون تفاصيل
خمس لقاءت جمعت بين بوتين وترامب منذ تنصيب الأخير رئيسًا للولايات المتحدة في 20 من يناير 2017 غير أن المشترك بينها جميعًا هو سرية الأحاديث التي دارت بين الرئيسين والتكتم الشديد الذي صاحبها قبيل عقدها وبعده، حتى بات الحصول على معلومات تفصيلية بشأن ما جرى فيها دربًا من المحال بحسب الصحيفة الأمريكية.
7 من يوليو 2017.. عقد الزعيمان أول لقاء شخصي بينهما على هامش قمة العشرين في هامبورج بألمانيا، استمر قرابة ساعتين، اتسم اللقاء بالود والارتياح وهو ما أعرب عنه كليهما، وقو لوحظ وقتها أن ترامب أخذ ملاحظات المترجم وأمره بعدم الكشف عما سمعه لأحد، فيما قال وزير الخارجية وقتها تيلرسون للصحفيين إن الزعيمين ناقشا كل شيء من سوريا إلى أوكرانيا مرورًا بمزاعم القرصنة التي قعت في أثناء الانتخابات ووصف الحديث بالقوي والشامل للغاية، وتلك كانت علامة الاستفهام الأولى.
وعلى مائدة العشاء في مساء ذات اليوم، التقى الرئيسان بينما كانت ميلانيا تجلس بجوار بوتين، هذا اللقاء العابر لم يحضره أي من المسؤولين الأمريكيين، وظل طي الكتمان ولم يؤكده البيت الأبيض إلا بعد عشرة أيام من انعقاده، وتلك كانت علامة الاستفهام الثانية التي فرضت نفسها على ألسنة الكثيرين.
11 من نوفمبر 2017.. في هذا اليوم التقى الرجلان للمرة الثالثة وذلك على هامش اجتماعات منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في فيتنام، في هذا الاجتماع الذي لم يسرب ما دار بداخله للإعلام، أعاد ترامب تأكيده على نفي التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية وهي التهمة التي وجهت حينها للرئيس الأمريكي.
ورغم حساسية موقف ترامب فإنه أعاد الاتصال مجددًا ببوتين مهنئًا إياه بإعادة انتخابه رئيسًا لروسيا، هذا في الوقت الذي أكدت فيه واشنطن مرارًا وتكرارًا أن الرئيس الأمريكي لن يلتقي نظيره الروسي في فيتنام، وهو ما حدث عكسه تمامًا.. وتلك كانت علامة الاستفهام الثالثة.
ترامب رغم ما يواجهه من اتهامات مستمرة بعلاقات تشوبها الشك والريبة مع الروس الأمر الذي يدفع لأن تكون كل لقاءاته واتصالاته علنية في محاولة لإبداء حسن نواياه، فقد اختار السرية والتكتم عنوانًا لاجتماعاته المختلفة مع نظيره الروسي
16 من يوليو 2018.. القمة التي جمعت بين الرئيسين في هلسنكي بفنلندا منتصف يوليو الماضي تعد الأشهر بين اللقاءات الخمس، حيث تحدثا لأكثر من ساعتين برفقة مترجميهما فقط ودون حضور مسؤولين من الطرفين، وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء بدا أن ترامب مقتنع تمامًا بنفي بوتين التدخل في الانتخابات وبالضد من استنتاجات وكالات الاستخبارات الأمريكية، بعد أشهر، كان ترامب يلح لعقد اجتماع آخر في البيت الأبيض أو في باريس.
2 من ديسمبر 2018.. التقى الزعيمان بصورة سريعة على هامش قمة العشرين التي عقدت في بيونس آيرس بالأرجنتين، اللقاء بحسب بوتين كان على الأقدام ولم يدم سوى دقائق معدودة لم يعرف أحد ما دار فيه إلا ما كشفه الرئيس الروسي بشأن حادثة البحر المتوسط.
يذكر أنه قبل القمة بأيام قليلة كانت القوات الروسية قد احتجزت ثلاث سفن بحرية أوكرانية في أزمة البحر الأسود، وهو ما دفع ترامب لإلغاء الاجتماع الذي كان مقررًا مع نظيره الروسي، ورغم ذلك حدث اللقاء بشكل غير رسمي، وتلك كانت علامة الاستفهام الرابعة.
ترامب وبوتين خلال قمة هلسنكي
سرية تثير القلق
عدم الإفصاح عما يدور داخل تلك الاجتماعات المغلقة أثار تساؤلات البعض وقلق آخرين، فبحسب أندرو فايس مستشار الرئيس الأسبق بيل كلينتون للشؤون الروسية فإن “ما يثير القلق هو الرغبة في إخفاء المعلومات عن فريقك الخاص وحقيقة أن ترامب لم يكن يريد من وزارة الخارجية أو أعضاء البيت الأبيض أن يعرفوا طبيعة حديثه مع بوتين”، حسبما نقلت الصحيفة.
أما الموظفون السابقون في الإدارات الأمريكية فيرون أن ما يقوم به الرئيس يعتبر سابقة لجهة الاجتماع بمفرده مع رئيس “خصم”، إذ إن العادة جرت أن يبقي الرؤساء الأمريكيون مساعدًا واحدًا على الأقل (بالإضافة إلى المترجم) في الغرفة لتجنب سوء الفهم لاحقًا.
فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أوروبا وأوراسيا، علقت على هذا الأمر بقولها: “كل الرؤساء الخمس الذين عملت معهم ، الجمهوريين والديمقراطيين، حرصوا على وجود مساعدين من أجل كلمة واحدة، فقط لحماية سلامة الجانب الأمريكي من المحادثة ضد التلاعب اللاحق من جانب السوفييت أو الروس” وهو ما لم يحرص عليه ترامب.
احتمالية عزل ترامب زادت بشكل كبير بعد انتخابات الكونغرس في نوفمبر الماضي، حين تمكن الديمقراطيون من الحصول على غالبية المقاعد في مجلس النواب
الغريب في الموضوع أن ترامب رغم ما يواجهه من اتهامات مستمرة بعلاقات تشوبها الشك والريبة مع الروس الأمر الذي يدفع لأن تكون كل لقاءاته واتصالاته علنية في محاولة لإبداء حسن نواياه، فقد اختار السرية والتكتم عنوانًا لاجتماعاته المختلفة مع نظيره الروسي، وهو ما قد يعزز الرأي القائل بأن الكشف عما دار في تلك اللقاءات ربما يعزز الاتهامات الموجهة إليه سابقًا ومن ثم تجنب الإفصاح عنها.
علاوة على ذلك يبدو أن هذا الغموض المحيط بالاجتماعات قد لفت انتباه روبرت مولر المحقق المكلف بملف العلاقات بين روسيا وترامب، هذا بخلاف الضغوط التي يمارسها الديمقراطيون لمعرفة تفاصيل ما جرى باللقاءات عبر استدعاء مترجمي الرئيس أنفسهم أو نصوص ما ترجموه.
وفي الجهة المقابلة، دافع أنصار ترامب عن سياسته في عدم الإفصاح عن فحوى لقاءاته مع رؤساء الدول الأجنبية، لافتين إلى أن نهجه يختلف عن أسلافه إذ يتعامل دومًا بطريقة غير تقليدية مع الأحداث والمواقف المختلفة، مؤكدين بحسب ما نقلته “نيويورك تايمز” أن لدى ترامب ما يكفي من الأسباب لإحاطة مبادلاته مع الزعماء الأجانب بالسرية وذلك منذ أن تم تسريب مكالماته الهاتفية مع قادة المكسيك وأستراليا ونشرتها صحيفة “واشنطن بوست”.
فيكتوريا نولاند مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أوروبا وأوراسيا
مستقبل غامض
تواصل الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية إحكامها حول كرسي ترامب، إلى الحد الذي أدرج فيه خبراء في قائمة المخاطر المحتملة لعام 2019، إمكانية عزل الرئيس الأمريكي، حسبما أفادت قناة “سي إن بي سي” نقلاً عن كبير مستشاري شركة “McLarty Associates” ستيف أوكون.
القناة أشارت إلى أن احتمالية عزل ترامب زادت بشكل كبير بعد انتخابات الكونغرس في نوفمبر الماضي، حين تمكن الديمقراطيون من الحصول على غالبية المقاعد في مجلس النواب، متوقعة أن يتخذوا العام الحاليّ إجراءات معينة مرتبطة بعزل الرئيس، فيما أشارت إلى أن أزمة الميزانية بين البيت الأبيض والكونغرس، إضافة إلى تفاقم الحرب التجارية مع الصين وسياسة الاحتياطي الفيدرالي الصارمة في الولايات المتحدة بشأن معدل الخصم الأساسي، فضلاً عن خسارة واشنطن للكثير من حلفائها بسبب سياسات ترامب قد تسرع من هذا الاحتمال.
وفي السياق ذاته فإن الاتهام الموجه لترامب بالعمل مع موسكو ضد مصالح الأمن القومي الأمريكي دفع بالبعض إلى استرجاع فضيحة التجسس الشهيرة “ووترجيت” وتسليط الضوء عليها مجددًا، في إشارة إلى احتمالية أن يواجه مصير الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذي أجبر على الاستقالة في 8 من أغسطس 1974 لتبدأ محاكمته محاكمته في سبتمبر من نفس العام قبل أن يصدر الرئيس جيرالد فورد – الذي خلفه – عفوًا عنه “لأسباب صحية”.