تعيش تونس اليوم على وقع إضراب عام في الوظيفة العمومية والقطاع العام، دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق بينه وبين الحكومة التي يقودها يوسف الشاهد بشأن الزيادة في رواتب موظفي القطاع الحكومي، في خطوة قد تفاقم التوتر والاحتقان الاجتماعي بالبلاد في ظل اتهام الطرف النقابي للحكومة بتلقي إملاءات من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.
شلل تام
حسب ترتيبات الإضراب التي كشفها اتحاد الشغل، ستعيش تونس اليوم حالة من الشلل التام، حيث ستتوقف حركة النقل العام بتفريعاته كافة، كما ستتوقف الخدمات في كل المرافق الحكومية، ولن يكون القطاع الخاص بمنأى عن تداعيات الإضراب، نظرًا لارتباط الحركة الاقتصادية بالنقل والخدمات الإدارية، فضلاً عن تأجيل كل عمليات التصدير والتزويد عبر موانئ الملاحة البحرية والجوية.
وقالت المركزية النقابية إن الإضراب سيشمل مختلف الإدارات المركزية والجهوية والمحلية التابعة للوظيفة العمومية، كما سيشمل مختلف المؤسسات والمنشآت والشركات العمومية التابعة للقطاع العام، على غرار التربوية والصحية وقطاع النقل العمومي البري والبحري الجوي، إلى جانب 5 مصارف حكومية ومؤسسات الإعلام الحكومي، على أن يتم تأمين الحد الأدنى من الخدمات الحياتية وفق بلاغ أصدره الاتحاد.
وجاء هذا الإضراب بعد فشل المفاوضات بين الحكومة والاتحاد بشأن الزيادة في أجور العاملين في القطاع الحكومي، حيث اعتبرت قيادات الاتحاد العرض الحكومي بأنه لا يرتقي إلى مطالب الاتحاد، ووصفته بالهزيل.
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقعت الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل اتفاقًا على الزيادة في رواتب العاملين في نحو 124 شركة حكومية
الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل حفيظ حفيظ، أكد أمس، في ندوة صحافية عقدها اتحاد الشغل، أن “النقابة حاولت قدر الإمكان تجنيب البلاد الإضراب العام، غير أن مسار المفاوضات عاد إلى نقطة الصفر بعد رفض الحكومة مطالب الاتحاد”، وقال حفيظ إن النقابة قدمت تنازلات كبيرة من أجل تحقيق السلم الاجتماعي، لافتًا إلى أن الاتحاد لا يستطيع النزول دون حد المطالب التي طلبها.
وأفاد بأن النقابة قبلت بزيادة في حدود 180 دينارًا على الأقصى (للكوادر وكبار الموظفين) و135 لفائدة صغار الموظفين والعمالة، على أن تصرف على شريحتين: الأولى بمفعول رجعي من أكتوبر/تشرين الأول 2018 والثانية من أكتوبر 2020، غير أن الحكومة تمسكت بصرف الشريحة الأولى من ديسمبر/كانون الأول 2018 والثانية في يناير/كانون الثاني 2020، ما يمنع الموظفين من الحصول على مستحقات الزيادة لسنة 2018 بكاملها.
وكان وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، قد قال إن الحكومة تقدمت خلال جلسة التفاوض مع الوفد النقابي بشأن الزيادة في أجور الوظيفة العمومية، الثلاثاء الماضي، بمقترح زيادة جديدة تتراوح بين 180 دينارًا كحد أقصى لكبار الموظفين و136 دينارًا لصغار الموظفين، يتم صرفها على دفعتين، تحتسب الأولى بداية من ديسمبر/كانون الأول 2019 والثانية بداية من يناير/كانون الثاني 2020، التي ستكون في شكل اعتماد جبائي (خصم جبائي) ينسحب على الناشطين والمتقاعدين، على حد سواء”.
وقال الطرابلسي في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء: “الاعتماد الجبائي سيكون لمدة سنة فقط، على غرار ما تم العمل به سنتي 2017 و2018، ولن يستثني أحدًا”، مؤكدًا أن الحكومة ليست لها أي مقترحات جديدة، وكل مقترح تتم دراسة تبعاته المالية ومدى قدرة الحكومة على الإيفاء به.
الخيار الأصعب
في رده على هذا الإضراب، قال رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد أمس الأربعاء إن حكومته فضلت الخيار الصعب برفض صرف زيادات تفوق القدرات المالية للبلاد، مشيرًا إلى أن الحكومة لا تريد أن تتحمل الأجيال القادمة ضريبة خيارات “فاشلة”.
وأضاف الشاهد في خطاب توجه به إلى التونسيين، أنه كان يمكن للحكومة أن تسلك ذات النهج الذي سلكته الحكومات السابقة بتوقيع اتفاقات زيادات الأجور وتمويلها بقروض خارجية، غير أنها اختارت مواجهة النقابات وتغليب المصلحة العليا للبلاد بحسب قوله.
واعتبر أن قدر الحكومة واتحاد الشغل أن يلتقيا مجددًا للتفاوض من أجل إرساء سلم اجتماعي، مؤكدًا حرص السلطة على تمكين الموظفين في القطاع العام والمتقاعدين من زيادة ترمم قدراتهم على الإنفاق، مؤكدًا في الوقت ذاته أن الزيادات في الأجور التي حصل عليها التونسيون منذ الثورة لم تحسن وضعهم المعيشي وانعكست سلبًا على الاقتصاد وزادت في نسب التضخم وتسببت بانهيار العملة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقعت الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل اتفاقًا على الزيادة في رواتب العاملين في نحو 124 شركة حكومية، وهو ما مكن عشرات الآلاف من الموظفين من الحصول على زيادات تراوحت بين 205 و270 دينارًا ستصرف على ثلاث شرائح، ومنع إضراب كان يفترض أن ينفذ في هذه المؤسسات يوم 24 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
في غضون ذلك، صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية أمس، أمر حكومي، يتعلق بتسخير بعض الأعوان التابعين لبعض الوزارات والمؤسسات والمنشآت العمومية، تزامنًا مع تنفيذ الإضراب العام، ويأتي صدور الأمر الحكومي، بعد مداولة مجلس الوزراء، على اعتبار أن إضراب الأعوان التابعين لبعض الوزارات والمؤسسات والمنشآت العمومية من شأنه أن يُخل بالسير العادي للمصالح الأساسية للبلاد.
ونص الأمر الحكومي على أن “يضع الأعوان المسخرون أنفسهم فورًا على ذمة المصالح التابعين لها وأن يلتحقوا بمراكز عملهم العادية للقيام بالأعمال التي تطلب منهم”، وأكد أن “كل من لا يمتثل لإجراءات التسخير يتعرض للعقوبات المنصوص عليها بالتشريع الجاري به العمل”.
إلى جانب ذلك، أعلنت وزارات التربية والتعليم العالي والبحث العلمي والتكوين المهني والتشغيل أن الدروس والامتحانات ستتعطل بكل المؤسسات التربوية والجامعية والتكوينية وذلك كامل اليوم الخميس على أن تستأنف بصفة عادية وطبقًا لجداول الأوقات المعتمدة يوم الغد.
فتش عن صندوق النقد
عدم التوصل إلى اتفاق، أرجعته قيادات الاتحاد إلى عدم امتلاك الحكومة التونسية سلطة القرار وارتهانها إلى الخارج، وتتهم بعض قيادات اتحاد الشغل، الحكومة بالارتهان إلى صندوق النقد الدولي وتطبيق توصياته وأجنداته في البلاد دون مراعاة الشعب.
ويعتبر الاتحاد أن التجاء الحكومة للزيادة في الأجور بعنوان الاعتماد الضريبي التزام بشروط صندوق النقد الدولي وأولها عدم المساس من كتلة الأجور وهو ما يعني وفق تقدير المنظمة أن قرار الزيادة من عدمه ليس “سياديًا” ولكنه مرتهن لدى المانحين الدوليين وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي.
وتواجه الحكومة التونسية التي يقودها يوسف الشاهد، ضغطًا قويًا من المقرضين الدوليين، لا سيما صندوق النقد الدولي الذي يحثها على تجميد الأجور في إطار إصلاحات للقطاع العام، حتى لا تضطر إلى زيادة دينها الخارجي نتيجة ارتفاع عجز الموازنة، الذي قالت إنها تعتزم خفضه إلى 3.9%، خلال العام الجاري 2019، مقابل 4.9% العام الماضي.
يعتبر هذا الإضراب الخامس في تاريخ تونس منذ تأسيس اتحاد الشغل وهو الإضراب العام الثالث بعد الثورة
يتزامن التوتر بين الحكومة والنقابات، مع زيارة مرتقبة لوفد صندوق النقد الدولي إلى تونس لمعاينة الإصلاحات الاقتصادية في البلاد، التي يتقرر على أساسها تمكين تونس من الحصول على القسط الخامس، البالغ قيمته 255 مليون دولار، من القرض المتفق عليه في 2016، البالغ 2.9 مليار دولار.
وتسعى الحكومة إلى خفض فاتورة أجور القطاع العام والعمومي إلى 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 من نحو 15.5% الآن، لضمان الحصول على القروض الخارجية، وهو أمر متعلق بتسوية أزمتها مع النقابات، وتقدر كتلة الأجور في القطاع الحكومي، وفق ميزانية الدولة لعام 2019، بنحو 16.48 مليار دينار (5.88 مليار دولار).
ويعتبر صندوق النقد، تجميد كتلة الأجور بندًا مهمًا في وصفة الإصلاحات التي طرحها على الحكومة، لكن الوزير المكلف بالإصلاحات الكبرى، توفيق الراجحي، قال في تصريح نهاية ديسمبر الماضي: “الحكومة سيدة قرارها ولا تخضع لإملاءات صندوق النقد، لكنها مطالبة بالمحافظة على التوازنات المالية للدولة، والإبقاء على نسبة عجز الموازنة في مستويات محدودة العام الحاليّ”.
أزمة شاملة
يأتي هذا الإضراب العام، في وقت تشهد فيه تونس أزمة شاملة تمس جميع المجالات، بداية من الجانب السياسي، حيث تشهد العلاقة بين رئاسة الحكومة والجمهورية أزمة حادة نتيجة الاختلاف في وجهات النظر وتشبث رئيس الجمهورية باستقالة رئيس الحكومة.
أما في المجال الاجتماعي، فالبلاد تشهد حالة احتقان كبرى، وشهدت العديد من المناطق في البلاد احتجاجات متفرقة خلال الأيام الأخيرة، للمطالبة بالتنمية، كما عرفت قطاعات عديدة توقفًا عن الإنتاج بصفة جزئية أو كلية في بعض الأحيان.
تدهور العلاقة بين الشاهد والسبسي أثر على الوضع العام في البلاد
كما تشهد القدرة الشرائية للتونسيين تدهورًا متواصلاً، فضلاً عن غلاء أسعار العديد من السلع والمنتجات، من ذلك ارتفاع أسعار اللحوم التي زادت بنسبة 11.7%، وأسعار مشتقات الحليب والبيض التي زادت بنحو 10.8%، كما شهدت أسعار الأسماك زيادة بنسبة 7.2%، وعرفت أسعار الغلال زيادة بنحو 6.4%، وتنامي ظاهرة الاحتكار في البلاد، وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، حيث وصلت النسبة إلى 7.4% خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ورغم التحسن الذي عرفه الاقتصاد التونسي في الأشهر الأخيرة، فإنه لم يصل بعد إلى الدرجات المطلوبة، نتيجة أسباب عدة، وتشير تقديرات خبراء إلى أن الاقتصاد المحلي سيتكبد خلال الإضراب خسائر لن تقل عن 150 مليون دينار، أي نحو 51 مليون دولار (قيمة يوم عمل من الناتج المحلي الإجمالي السنوي).
يعتبر هذا الإضراب الخامس في تاريخ تونس منذ تأسيس اتحاد الشغل وهو الإضراب العام الثالث بعد الثورة، وكان أول إضراب في البلاد أيام 21 و22 و 23 من شهر ديسمبر/كانون الأول 1951، بغاية الدفاع عن القضية التونسية وإعلان رفض الموقف الفرنسي الرسمي المتمثل في محاولة تكريس السيادة المزدوجة في تونس، فيما كان الثاني يوم 26 من يناير/كانون الثاني 1978، الذي عرف بـ”الخميس الأسود” في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة للمطالبة بحل مشكل البطالة المتفشية آنذاك خاصة بالمناطق الداخلية ورفع في الأجور وضمان ظروف مناسبة للعمل.