ترجمة وتحرير نون بوست
قال الروائي الفرنسي، فيكتور سيغالان، في كتابه بعنوان “الشواهد”: “لا أدّعي أنني موجود، ولا أدّعي أنني أظهر بشكل غير متوقع، ولا أظهر في ملابسي وجسدي، ولا أحكم بالثقل الذي يشكله شخصي. ولا أجيب عن الرقباء بصوتي، وعن المتمردين بعين قاسية وعن الوزراء المذنبين بحركة من شأنها أن تشنق الرؤوس على أظافري. أنا أملك قوة الغياب المذهلة. إن لي 170 قصرا جصيا بينها أروقة مزينة ببصماتي التي تشكل بديلا لي، وموسيقى تعزف على شرف ظلي، وضباط يُحيّوون عرشي الفارغ…”.
تقاد بعض البلدان الأفريقية اليوم عبر رؤساء غائبين، حيث أن العديد من المواطنين الأفارقة يُجبرون على الانصياع للسلطة الرئاسية التي يجسدها رجال أشبه بالأشباح لا سيما وأن ظهورهم الإعلامي يعد “نادرا”.
الغابون تحت وطأة الإشاعات
في الغابون، ومنذ 24 تشرين الأول /أكتوبر الماضي، كان الرئيس شبه غائب عن الحياة السياسية بعد تعرضه لسكتة دماغية يأبى الاعتراف بإصابته بها. وفي الرابع من كانون الأول/ ديسمبر، تبددت الشكوك التي تحوم في أذهان الغابونيين حول إمكانية وفاة رئيسهم بعد أن تم تداول فيديو يظهر العاهل المغربي، محمد السادس، يجلس على يسار صديقه الغابوني، علي بونغو أونديمبا، لمدة “ثلاثين ثانية من الصور المتقطعة”، بحسب قناة “تي في5 موند” الفرنسية. هذا الدليل على أن الرئيس الغابوني “حي يرزق”، الذي لم يرافقه صوت، أظهر الرئيس وهو يستطيع أن يستقيم في جلسته على الأريكة ويحمل كأس حليب إلى فمه بيده اليسرى.
مؤخرا، ظهر فيديو جديد لكن هذه المرة كان يرافقه صوت، حيث ظهر علي بونغو أونديمبا وهو يقدم التهاني بمناسبة حلول السنة الجديدة في خطاب اعتبره النقاد عبر شبكات التواصل الاجتماعي مختصرا علاوة على أوجه القصور فيه على غرار الكلام غير الواضح، واليد اليمنى الخاملة، والعيون الثابتة والمشتتة. في المقابل، لا زال العديد من أبناء الشعب الغابوني يعتبرون أن رئيسهم قد مات، وأن الذي ظهر في الفيديو شخص يشبهه أو أنه تم استخدام صور مفبركة. وحتى وإن كان علي بونغو شخصيا هو الذي ظهر علنا مؤخرا، فإن حالته الصحية لا تسمح له بقيادة البلاد. مع ذلك، أعلنت المحكمة الدستورية الغابونية عن تسجيل غياب مؤقت لرئيسها دون اعتبار ذلك بمثابة شغور في السلطة، وهو قرار من شأنه أن يفضي إلى إرساء عملية انتقال لا رجعة فيها.
بوتفليقة غائب منذ شهر آذار/ مارس 2018
من جانبهم، ينتظر الجزائريون إعلان رئيسهم عبد العزيز بوتفليقة عن ترشحه لولاية خامسة على التوالي لانتخابات نيسان /أبريل المقبل. وفي المناسبات الرسمية، كما هو الحال في خطابات أعضاء الحكومة، بدأ رئيس الدولة بوتفليقة يظهر تدريجيا في المشهد الإعلامي، بغية تجاوز غيابه الجسدي. ومنذ سنة 2013، تاريخ تعرض بوتفليقة لجلطة دماغية، أضحى مقر إقامته الرئاسي في زرالدة بمثابة الحصن.
بحسب المختص في علم الاجتماع، محمد هاشماوي، بالإضافة إلى “حاشية بوتفليقة”، أضحى البوليس السياسي يدير الوضع ويقود البلاد. ولم يعد الرئيس قادرا على القيام بأي نشاط بروتوكولي ولم يتم بث أي صورة رسمية له منذ التاسع من نيسان/ أبريل 2018، تاريخ ظهوره في الجزائر العاصمة عند افتتاح جامع كتشاوة وتمديد خط المترو.
Échanges économiques, humains et sécurité : la relation franco-algérienne est forte, historique et stratégique. pic.twitter.com/7w640KQyNI
— Manuel Valls (@manuelvalls) April 10, 2016
مانويل فالس على تويتر: “تبادل اقتصادي، إنساني وأمني: العلاقة الفرنسية-الجزائرية قوية، تاريخية واستراتيجية”.
ظهر بوتفليقة على كرسي متحرك وهو خائر القوى وغير مبال. كما أن الصورة التي نشرها رئيس الوزراء الفرنسي السابق، مانويل فالس، خلال شهر نيسان/ أبريل سنة 2016، عقب لقائه بالرئيس بوتفليقة، صدمت العديد من الجزائريين لأنها قدمت رجلًا مسنًا ضعيفًا، كانت نظراته باهتة وفاتحا فاه أمام فالس المعروف بديناميكيته وأناقته.
في الجزائر العاصمة، الأجهزة السرية على رأس السلطة
تنص المادة 88 من الدستور الجزائري على وضع حدّ لمهام الرئيس نهائياً إذا لم يتمكن من أداء واجباته “بسبب مرض خطير أو مزمن”. عندها، يجب أن يقترح المجلس الدستوري بالإجماع على البرلمان “إعلان حالة المانع الشرعي”. لكن، من الناحية العملية، يصعب تطبيق هذه المادة لأن بعض أعضاء المجلس الدستوري مقربون من السلطة ويمنعون أي قرار بالإجماع.
في الواقع، تخضع السلطة السياسية لإشراف دائرة الاستعلام والأمن وعلى وجه الخصوص، الجنرال محمد الأمين مدين، المعروف باسم “الجنرال توفيق”. وتحت قيادته، تم تعيين أحمد أويحيى مدير ديوان رئاسة الجمهورية سنة 2014، ثم رئيسا للوزراء، في فترة شهدت توتر علاقته بعبد العزيز بوتفليقة. كما تم تعيين عبد المؤمن ولد قدور في منصب الرئيس المدير العام لسوناطراك منذ شهر نيسان /أبريل سنة 2018، ويوسف يوسفي في منصب وزير الطاقة والمناجم، وكلاهما مقربان من دائرة الاستعلام والأمن.
بورت جنتيل، في الغابون، في كانون الثاني / يناير 2019.
في الغابون، لطالما كان قطاع النفط على امتداد عقود من الزمن رهانا تتم مشاركته بعناية مع الشركات الفرنسية، على غرار توتال. وقد قام علي بونغو بتنويع شركائه الأجانب نسبيا، من خلال العمل مع شركة “أولام” السنغافورية المختصة في صناعة الغذاء، والشريك الصيني في مجال قطع الأشجار، “هونيست تانبر”، فضلا عن تواصله مع الهند، عبر شركة “منغنيز أور إنديا ليميتد” (مويل) في مجال التعدين. كما حافظ بونغو على المكانة البارزة التي تحظى بها الشركات الفرنسية في العديد من القطاعات.
استمرار أنظمة الإخلالات
بناء على ذلك، تتجسد السلطة الرئاسية، في الغابون كما في الجزائر، في أجساد أصبح المواطنون عاجزين عن تقييم قدراتها الفكرية، كما لو أن حضورها المادي كافٍ لضمان تسيير الشؤون السياسية للبلاد. في الواقع، يضمن هذا الحضور-الغياب، (أو “الجمود الإشكالي”) استمرارية نظام ترسخت فيه الإخلالات الوظيفية والفساد، وتجذرت سلطة الشبكات التي تدير الشؤون السياسية والاقتصادية لكل من الغابون والجزائر. ويتشابه هذان البلدان في امتلاكهما لكميات هامة من الهيدروكربونات، ذات قيمة عالية على المستوى الدولي.
تبدو التحديات التي تدفع إلى إظهار هؤلاء الزعماء، بموافقتهم الرسمية أو حتى من دونها، في حالة جسدية جيدة تنطبق على حياتهم على الصعيدين الخاص والشخصي، هامة. بالتالي، وبهدف تدارك ضعف رؤسائهم، الذي تم الترويج له كما لو كان مؤقتًا، تضمن بعض الشخصيات الحكم بالإنابة واستمرارية السلطة، في انتظار خليفة يتناسب مع مصالح الدوائر المعنية، تماما كما يعكس ذلك المثال الجزائري.
في الغابون، يتحمل جهاز مماثل مسؤولية تسيير الشؤون السياسية في البلاد، إذ يتحمل العقيد فريدريك بونغو، الأخ غير الشقيق لعلي بونغو والمدير العام للخدمات الخاصة للحرس الجمهوري، الوحدة التابعة للجيش الوطني، مسؤولية أمن البلاد ومصالح “الحاشية الرئاسية” التي تحكم الغابون منذ سنة 1968، في حال كان هذان الهدفان متوافقان.
في المقابل، تعتبر علاقات فريديريك بونغو مع مدير المكتب الرئاسي، بريس لاكروش أليانجا، ورئيس الوزراء، إيمانويل إسوزي نغوندي، اللذان يديران الشؤون السياسية والمالية الحالية في البلاد، متوترة للغاية. من ناحية أخرى، يمكن لأليانجا التعويل على دعم زوجة الرئيس، سيلفيا بونغو. وفي السياق ذاته، تتحدث شخصية ثالثة، تتمثل في رئيسة المحكمة الدستورية، ماري مادلين موبانتسو، عن إمكانية الاستناد إلى المادة 13 التي ستُقدم لبعض المسؤولين امتيازات استثنائية.
علي بونغو ليس عبد العزيز بوتفليقة
مع ذلك، يشير الانقلاب الفاشل، الذي جد في السابع من كانون الأول/ يناير إلى أن التعقيد يطغى على محاولات المحافظة على هذا الوضع في الغابون على المدى الطويل، خلافا لحال الجزائر. تجدر الإشارة إلى أنه على مواقع التواصل الاجتماعي، حلل بعض الغابونيون هذا الانقلاب على أنه عملية مدبرة تهدف إلى تعزيز سيطرة القادة الحاليين على البلاد.
في الحقيقة، لا يشبه عبد العزيز بوتفليقة علي بونغو، إذ أن الجزائري زعيم تاريخي وعضو في جبهة التحرير الوطني. وقد وصل إلى السلطة في سنة 1999 في نهاية العقد الذي شهد الحرب الأهلية بين الجيش والإسلاميين. في الواقع، يرمز بوتفليقة إلى العودة إلى الاستقرار، بما أنه أشرف على المصالحة الوطنية. خلافا لذلك، لا يزال علي بونغو الزعيم “غير المحبوب” الذي راجت شائعات عديدة حوله. وبالنسبة لشق كبير من الرأي العام الغابوني، يظل بونغو المسؤول الذي سرق من المعارضة الفوز في الانتخابات في سنتي 2009 و2016.
أُعلن عن عودة بونغو من الرباط إلى ليبرفيل في الليلة الفاصلة بين الاثنين والثلاثاء المنقضييْن، على متن طائرة مغربية، لحضور مراسم أداء الوزراء الجدد للقسم. وفي الوقت الراهن، لم تُنشر أي صورة له عند نزوله من الطائرة، أو أثناء الاحتفال في القصر الرئاسي، أين تم السماح للصحافة الرسمية فقط بالحضور. مع ذلك، وفي الوقت الذي يقوم فيه الصحفيون بنقل هذه المعلومة دون التشكيك فيها، يرى العديد من الغابونيين في هذا الأمر “مهزلة”. ويشير هذا الحدث الجديد إلى حاجة السلطات الغابونية الملحة لإعادة الرئيس الغائب إلى الساحة الإعلامية، حتى في حال ظل حضوره أمرا افتراضيا تماما، وكان على حساب تغذيته لشعور العديد من الغابونيين بأنهم رهينة وضعية محددة. عموما، إن الحكم بطريقة غيابية على المدى الطويل ليس في متناول جميع القادة.
المصدر: ذي كونفرسايشين النسخة الفرنسية