خلال تشييع جنازة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في الدوحة، ظهر عدد من رجال الدين اليهود بزيهم التقليدي يمشون بين المشيعين، ويحملون لافتات معادية لـ”إسرائيل”، واتضح أنهم من حركة ناطوري كارتا.
ناطوري كارتا تكاد تكون أنشط الحركات اليهودية المعادية للصهيونية حاليًّا، ولها موقف داعم للفلسطينيين، ويبدو ذلك من أنشطتها وتصريحات قادتها، وعلى رأسهم الحاخام يسرائيل مئير هيرش، الذي يصلي لله كي يفكك دولة “إسرائيل”، مشيرًا إلى القمع الذي يتعرض له أعضاء جماعته في القدس من السلطات الإسرائيلية بسبب موقفهم.
هذه الجماعة اليهودية ربما لم تكن لتوجد لولا وجود قائد تاريخي مؤسس لها، هو الحاخام عمرام بلاو (Amram Blau)، الذي أسسها داخل فلسطين، ووقف كتفًا بكتف مع العرب ضد قيام “إسرائيل”.
كان عمرام صوتًا بارزًا مناهضًا للصهيونية قبل تأسيس “إسرائيل” وفي أثناء وبعد تأسيسها، ولعل من أبرز مواقفه بعد صدور قرار تقسيم فلسطين في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، مطالبته الأمم المتحدة بعدم السماح لـ”إسرائيل” بالسيطرة على الأحياء التي يقيم بها في القدس هو وجماعته اليهودية الحريدية المتدينة، بل وحاول بعد ذلك الإقامة هو وجماعته في القدس الشرقية بين العرب، معتبرًا أن ذلك أكرم له من العيش بين الصهاينة.
قاد بلاو تظاهرات جماعته في القدس ضد “إسرائيل”، ووصل الأمر إلى الاشتباك الجسدي وإطلاق النار، بسبب النشاطات التي قادها عداءً لـ”إسرائيل”، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله وسجنه أكثر من مرة، بحسب ما يوضح أستاذ الدراسات اليهودية بجامعة نورث كارولينا، موتي عنباري (Motti Inbari)، في دراسته المطولة “Rabbi Amram Blau Founder of the Neturei Karta Movement An Abridged Biography – الحاخام عمرام بلاو مؤسس حركة ناطوري كارتا سيرة مختصرة”.
كان عمرام وحركته ناطوري كارتا الصوت اليهودي الديني النشط، المعارض بشراسة لوجود دولة “إسرائيل” من داخلها، بالتوازي مع الصوت الخارجي الذي كان يقوده في نفس التوقيت حاخام ساتمار جويل تيتلباوم.
نحاول في السطور التالية تسليط الضوء على كيفية ونشأة عمرام بلاو؟ وكيف رأى الصهيونية كحاخام؟ وما الأنشطة التي قام بها ضد “إسرائيل”؟
ابن القدس الذي اعتبر الصهاينة مرتدين
عمرام بلاو من مواليد القدس عام 1886، فهو ممن يطلق عليهم مجتمع الييشوف القديم، أي مجتمع اليهود الذين عاشوا في القدس خلال الفترة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى، قبل الهجرات الصهيونية الاستعمارية المنظمة التي جرت فيما بعد.
كان والد عمرام في الأصل من بريسبورغ في سلوفاكيا، وهاجر إلى فلسطين عام 1869، بينما كانت والدته من مواليد القدس، وأنجبا 4 أبناء، لعل أهمهم بجانب عمرام شقيقه الأكبر موشيه، المولود عام 1880، أحد أهم قادة اليهود الحريديم في القدس.
وفي شبابهما المبكر انضم موشيه وعمرام إلى جماعة أغودات يسرائيل، أو أجودات إسرائيل، التي كانت تهيمن على اليهود الأرثوذوكس الحريديم وقتها، وتتبع نهجًا دينيًا أصوليًا صارمًا.
بعد وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، بدأت تزداد الحساسية ضد اليهود في فلسطين، ووصلت إلى مواجهة قوية بين العرب واليهود فيما عرف بـ”أحداث النبي موسى” عام 1920، وراح ضحيتها قتلى وجرحى من الجانبين.
بدأ تيار من اليهود الحريديم يميل إلى الصهيونية، أو إلى التنسيق مع قادتها، رغم أنهم لم يكونوا كذلك بالأساس، حتى إن جماعة أغودات يسرائيل نفسها بدأت تميل إلى ذلك في ثلاثينيات القرن العشرين، ووقتها كان موشيه شقيق عمرام هو من يرأس الجماعة، حيث يوصف موشيه بلاو بأنه من قاد تحول أغوداث إسرائيل من الموقف الصارم ضد الصهيونية إلى التعاون معها، بحسب موتي عنباري.
وقع خلاف بين الأخوين موشيه وعمرام، وانسحب الأخير من أغودات يسرائيل، معتبرًا أنها بدأت تنحرف عن مبادئ التوراة، وأسس عمرام ومعه مجموعة من المؤمنين به جمعية “هاحاييم – HaChayim” أو جمعية الحياة، وذلك عام 1938، وفي وقت لاحق استبدل اسم هاحاييم بـ”ناطوري كارتا”، وهو اسم آرامي مأخوذ عن التلمود، ويعني حراس المدينة.
ولعل الموقف الحاسم الذي أدى إلى غضب عمرام والمجموعة التي رافقته وانفصالهم عن أغودات يسرائيل، هو تنظيم حملة لجمع ضريبة لتمويل تسليح وتدريب اليهود في مواجهة الثورة العربية، بحسب ما يوضح المؤرخ الإسرائيلي مناحيم فريدمان (Menachem Friedman) في كتابه “The Haredi Ultra-Orthodox Society: Sources Trends and Processes – المجتمع الحريدي الأرثوذوكسي: المصادر والاتجاهات والعمليات”.
وجاءت التسمية نكاية في الصهاينة الذين كانوا يروجون إلى أن الضريبة التي يجمعوها من يهود فلسطين هدفها حراسة القدس، فقرر عمرام ومعه رفيقه الحاخام أهارون كاتزينلبوجين (Aharon Katzenelbogen) أن يكون اسم جماعته “حراس المدينة – ناطوري كارتا”، لأنه رأى أن الصهاينة لا يحرسون المدينة بل يفسدوها، وأنه وجماعته هم الحراس الحقيقيون لها، باعتبار أنهم من يحملون التوراة التي تنهى عن إقامة دولة لليهود في فلسطين، بحسب فريدمان.
في بيانها التأسيسي نسفت جمعية الحياة “ناطوري كارتا” فكرة القومية اليهودية، وجعلت من الصهاينة جماعة مرتدة عن الدين اليهودي لأنها خالفت التوراة كتاب اليهود المقدس، حيث جاء في البيان: “ومن ليس من جنس إسرائيل ولكنه يقبل التوراة، فهو جزء من الشعب اليهودي، وعلى العكس من ذلك، فإن اليهودي من نسل إسرائيل الذي يتخلص عمدًا من نور التوراة، أو ينكر سلطة التوراة، ولا يؤمن بصحة ولو كلمة واحدة منه، يعتبر مرتدًا عن اليهودية، حتى لو لم يتحول إلى دين آخر”.
وفي جزء آخر يوضح البيان أن ناطوري كارتا تعتبر قوة اليهودية في تعاليمها لا في أرض أو دولة يمتلكها اليهود: “إن جوهر الشعب اليهودي هو التوراة بكاملها، وعليه فإن أمة إسرائيل لا يمكن أن تكون مثل الأمم الأخرى التي تمتلك أصولًا وطنية مثل الأرض واللغة والعرق، ولكنها تستطيع أن تمتلك التوراة وحدها”.
ثم يدعو البيان إلى التبرؤ من أي شخص يرتد عن التوراة، والانفصال عنه: “الشعب اليهودي ملزم بالانفصال عن مثل هؤلاء الأشخاص وإبعادهم عن البلاد”.
لماذا رفض الصهيونية؟
باعتباره أرثوذوكسيًا حريديًا، أي يهودي سلفي محافظ، يتمسك بلاو بما تمسك به التيار الفكري الذي قاده حاخام ساتمار جويل تيتلباوم، حيث احتج عمرام بما عرف بالأيمان الثلاثة.
والأيمان الثلاثة مقصود بها أن الله أقسم 3 أيمان، اثنان منهما أقسمهما على اليهود وواحد يخص أمم العالم، حيث حلف على اليهود بعدم الصعود مجتمعين (كما لو كانوا محاطين بسور) إلى مدينة القدس، وبعدم التمرد على أمم العالم، وفي المقابل أقسم الرب على أمم العالم ألا تظلم بني إسرائيل كثيرًا، أو تفرط في القسوة عليهم.
وتأسيس “إسرائيل” هو مخالفة لهذه الأيمان، لأنه يعني صعود اليهود مجتمعين إلى القدس، وتمرد اليهود على الأمة الفلسطينية، وأمم العالم، وبما أنه مخالفة لقسم الله فهو تمرد على الله ذاته، حسبما ينقل موتي عنباري.
ومثل تتيلباوم اعتبر عمرام أن المحرقة النازية لليهود كانت انتقام الرب من اليهود لأنهم تمردوا عليه وسعوا إلى تأسيس دولة لهم في فلسطين.
وكتب بلاو رسالة إلى القيادة الصهيونية يهاجم فيها فكرتهم ويؤكد أنه والحريديم لا يريدون العيش في ظل الدولة الصهيونية الناشئة، نقلها عنباري في دراسته، وجاء فيها: “يجب علينا معارضة الصهاينة لأننا لا نرغب في مشاركتكم مصيركم، وليس لدينا أي مصلحة في دولتكم، فقد حذرنا أنبياؤنا من التمرد على أمم العالم وعدم الصعود للقدس مجتمعين، ومنذ بدأت الصهيونية، والدم اليهودي يسيل كالماء على يد البلاشفة وهتلر، وهذه الدماء اليهودية تعني تحقق نبوءة أنبيائنا، وبالتالي فإننا نحن اليهود الذين نؤمن بالله وبأقوال أنبيائنا يجب أن نغتنم كل فرصة لنعلن أننا لا ننتمي إلى الصهيونية، ولا نرغب أن نكون جزءًا من الدولة الناشئة”.
المطالبة بتدويل القدس
في عام 1947، اقترحت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين تقسيم منطقة الانتداب البريطاني إلى دولتين، يهودية وعربية. وكان من المقرر أن تظل القدس منطقة دولية، واعتمد الاقتراح بموافقة الأغلبية بالجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947. وخلال الفترة الانتقالية بين الموافقة على الاقتراح وانتهاء الانتداب البريطاني في 14 مايو/أيار 1948، اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية، ونتج عن الحرب تقسيم مدينة القدس إلى قسم عربي تديره المملكة الأردنية وقسم إسرائيلي، ولم يُنفذ قرار تدويل المدينة على أرض الواقع.
ويحكي مناحيم فريدمان أنه في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، قبل 10 أيام فقط من التصويت على خطة التقسيم، بعث بلاو رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة باعتباره ممثلًا لناطوري كارتا، ووقع عليها أيضًا أهارون كاتزينلبوجين شريكه في قيادة ناطوري كارتا، يطالبان فيها بتطبيق تدويل القدس، وعدم خضوعها لـ”إسرائيل”، وجاء فيها:
“إننا لن نتنازل عن حقنا في المطالبة برعايتكم وحمايتكم باسم الإنسانية، ولن نسلم أنفسنا لنظام (إسرائيل) ينتهك بمبادئه وأساليبه كل ما هو مقدس لدينا، ويصمم على تقويض حياتنا الدينية، وعليه فإننا نطلب إنقاذنا من النظام الصهيوني بكل الوسائل التي ترونها مناسبة”.
وصاحب ذلك إرساله رسالتين أخريين إلى اللجنة التنفيذية الصهيونية وأشرنا إليها سابقًا، وإلى يهود الشتات، يطالب خلالهما بالاعتراف باليهود الحريديم كهيئة مستقلة عن “إسرائيل”، لأن الجمهور الذي تمثله لا يرغب في مشاركة الصهيونية مصيرها.
وفي رسالته إلى اليهود الحريديم في الشتات، ركز عمرام على أن الحكومة البريطانية الانتدابية كانت قد اعترفت باليهود الحريديم كمجتمع ديني مستقل يدير أموره بنفسه في القدس، وهو ما يطالب باستمراره، مطالبًا القيادة الحريدية العالمية بالضغط على المجتمع الدولي لضمان استقلال الحريديم في القدس.
خلال ذلك نظم بلاو تظاهرة في القدس مع أنصاره وهم يحملون الأعلام البيضاء أمام المركز الحكومي البريطاني، الذي كانت تدار فلسطين الانتدابية من خلاله، وحمل المتظاهرون لافتات مكتوب عليها “نحن نؤيد السلام، ونطالب بوقف إطلاق النار”.
وخلال التظاهرة أطلقت عصابات الهاغاناه الصهيونية النار على المتظاهرين، خاصة أن ناطوري كارتا كانت توزع بيانات تحذر فيها اليهود من محاربة العرب، وأن الحرب التي يتوقع اندلاعها معهم سيخسرها الصهاينة، ولا داعي للتورط فيها، الأمر الذي قوبل من الصهاينة بتخوين بلاو وأتباعه.
العيش بين العرب
بعد قيام “إسرائيل”، واصلت ناطوري كارتا بقيادة بلاو احتجاجاتها ضد السلطة الصهيونية ونظمت تظاهرات عنيفة ضدها، سميت بـ”تظاهرات السبت”، حيث استغلت الحركة أن الصهاينة يقيمون أنشطة يوم السبت وهو اليوم الذي حرم الرب فيه إقامة أي نشاط أو عمل، واستغلوا ذلك لتحريض اليهود ضد الدولة الصهيونية.
ووجهت هذه التظاهرات بالقمع الشديد من الشرطة، الذي وصل إلى إطلاق النار عليها، وفي المقابل كان عمرام يحث أتباعه على المضي في التظاهر واعتبار أن من سيقتل على يد الصهاينة سيكون شهيدًا، وهو الأمر الذي وسع دائرة الاحتجاج بين اليهود مع تزايد قمع الشرطة، بحسب مناحيم فريدمان.
ويحكي فريدمان عن أنشطة احتجاجية أخرى لبلاو وجماعته، منها مثلًا الاعتداء على ضابط إسرائيلي يعمل كمراقب عند نقطة تفتيش تابعة للأمم المتحدة عام 1949، خلال احتفالات عيد الفصح اليهودي، وبعد أيام اعتدوا على مركبة عسكرية كانت قد تعطلت فنزل قائدها لإصلاحها، وردًا على مهاجمته أطلق السائق النار على المحتجين.
وكان مشهدًا معتادًا أن تمر مركبة عسكرية من شارع ميا شعريم بالقدس، حيث يسكن الحريديم وكثير منهم منضمون لناطوري كارتا، فيخرج عليها سكان الشارع ليقذفوها بالحجارة أو يهتفوا ضد من يستقلها.
وردًا على ذلك، كان شباب الكيبوتسات الصهاينة يأتون في يوم السبت للدفاع عن الطرق، بالقرب من شارع ميا شعريم وتندلع اشتباكات عنيفة بينها وبين أنصار بلاو، قبل أن تتدخل الشرطة.
في إحدى المرات تعلق عمرام بلاو بمؤخرة شاحنة كانت تمر على الطريق، وواصل السائق القيادة لمسافة وعمرام متعلق بالشاحنة، حتى توقف السائق واشتبك معه، ثم تدخلت الشرطة وألقت القبض على بلاو ثم أفرجت عنه، ولكنه بعدها استدعي للمحاكمة فرفض، فاعتقلته الشرطة.
وجهت المحكمة إليه تهمة إثارة الشغب والتظاهر غير القانوني وإلحاق الضرر بالممتلكات العامة للدولة، فرفض عمرام بلاو الإجابة عن أسئلة القاضي، لأن المحاكمة غير شرعية.
وقال بلاو إن القدس منطقة دولية، وفقًا لقرار الأمم المتحدة، وبما أنه مقيم في القدس فليس لـ”إسرائيل” سلطة عليه، مؤكدًا أنه ليس مواطنًا إسرائيليًا.
المحكمة لم تعتد بكلامه ولكنها تركته يغادر بسبب زواج ابنه، فأفرجت عنه لحضور العرس في ظل حراسة مشددة، وبعدها جرى إحضاره، وقضت المحكمة بحبسه 3 أشهر.
لم تتوقف المظاهرات ونتج عنها وفاة أحد المتظاهرين عام 1956، واتهم عمرام بلاو الشرطة بقتله، وألقى خطابًا حماسيًا في حفل تأبينه ضد “إسرائيل”.
وفي نفس الوقت أصدر بلاو بيانًا جرى طباعته وتوزيعه في الشوارع، يطالب خلاله أنصاره ودولة “إسرائيل” بالسماح لأعضاء ناطوري كارتا بالعبور إلى الجانب العربي من مدينة القدس، الذي كان يديره الأردن وقتها، والعيش بين العرب لا بين الصهاينة.
وقدم ليفي أفراهامي، قائد شرطة القدس، البيان إلى لجنة تحقيق كانت قد شكلت لدراسة الشغب الناتج عن تظاهرات ناطوري كارتا، الذي أدى إلى مقتل شخص كما ذكرنا.
وقال أفراهامي إنه تحدث إلى عمرام بلاو، الذي ادعى أنه حصل على موافقة مبدئية من المملكة الأردنية الهاشمية – التي تدير القدس الشرقية – على أن يعيش هو وأنصاره في القدس الشرقية بين العرب.
وأيد أفراهامي الطلب وأوصى اللجنة بالنظر فيه بجدية، للتخلص من الإزعاج الذي تسببه ناطوري كارتا إلى الشرطة الإسرائيلية، لكنها لم توافق، واحتوت الحكومة الإسرائيلية الموقف بأن خففت من مرور المركبات في شارع ميا شعريم يوم السبت بل وفي كل الأماكن التي تسكنها أغلبية حريدية، لتقليل الاحتكاك مع عمرام بلاو وأنصاره.
لم يترك بلاو أي وسيلة للاعتراض والاحتجاج ضد “إسرائيل” إلا وفعلها، وتعرض للضرب أكثر من مرة، حتى قيل إنه فقد القدرة الجنسية في إحدى المرات بسبب ضربه في منطقة حساسة، حسبما يشاع بين المصادر.
واستغل عمرام كل الظروف التي تمكنه من مضايقة “إسرائيل” حيث طالب في إحدى حملاته إلى الاحتشام، وطالبت النساء اليهوديات بارتداء ملابس محتشمة، إضافة إلى استقلال مدارس الحريديم عن التعليم الصهيوني العلماني وعدم خضوعه لقوانين التعليم الإسرائيلية.
وسعى بلاو حتى إلى الانفصال عن التعليم الديني الحريدي الذي تقدمه جماعة أغودات يسرائيل، باعتبار أنها تعترف بالدولة الصهيونية وتتعاون معها، داعيًا إلى التبرع لبناء مدارس خاصة بحركته، ومنع أبناء ناطوري كارتا من الذهاب لمدارس أغودات يسرائيل.
كذلك نظم حملات لمقاطعة الانتخابات العامة الإسرائيلية، وكان يكتب البيانات ويطبعها ويوزعها أنصاره على اليهود المتدينين، واستعان في ذلك بدعم حاخام ساتمار جويل تيتلباوم الذي زار القدس وطالب اليهود الحريديم بعدم المشاركة في الانتخابات، باعتبار أن هذه المشاركة تعني الاعتراف بشرعية وجود دولة “إسرائيل”.
حملة تشويه
واصل عمرام نضاله ضد “إسرائيل” التي استغلت فرصة زواجه من متحولة عن الديانة المسيحية إلى اليهودية، وقادت حملة تشويه ضده.
في عام 1963 توفيت هند زوجة عمرام وأم أولاده، وكان وقتها في الـ77 من عمره، وفي العام التالي 1964 أراد الزواج من Ruth Ben David روث بن ديفيد، التي تبلغ من العمر 45 عامًا، والأهم أنها كانت مسيحية كاثوليكية واعتنقت اليهودية.
خطبها عمرام بعد توقيعها على اتفاق معه يقتضي التزامها بالملابس الشرعية اليهودية، والالتزام بالشريعة اليهودية عمومًا.
حينها هاجمته الصحافة بضراوة، ورفضت المحكمة الحريدية إتمام الزواج، وكانت أهم حيثيات الرفض أن بلاو كحاخام لا يصح له الزواج من متحولة من دين آخر لأن ذلك يعد تدنيسًا لاسم الرب، وإن تزوج فيجب أن يكون من يهودية نقية من نسل إسرائيل.
حينها قرر بلاو عصيان قرار المحكمة والزواج منها، وقال لأنصاره إن كل من يؤمن بالتوراة يصبح من بني إسرائيل، وتصح يهوديته، وهو ما فعلته روث بن ديفيد، لافتًا إلى أن النبي داوود تزوج من متحولة إلى اليهودية، إضافة إلى حاخامات كبار فعلوا نفس الأمر قبل منه.
رغم كل ذلك كانت حملة تشويه الرجل قوية، ولكنه ظل يقاوم ذلك حتى وفاته عام 1974، وكان وقتها في عمر 88 عامًا، ليخلد اسمه في التاريخ كواحد من أبطال المجتمع الحريدي القليلين، بفضل امتلاكه القدرة على دفع أثمان باهظة، كتحمله الاعتقال والتعذيب، كما يرى موتي عنباري، الذي يصف بلاو قائلًا:
“كان قائدًا متفردًا يسعى باستمرار إلى وضع نفسه في طليعة مجتمعه، وتوسيع دائرة أتباعه، وله القدرة على الحشد الكبير تجاه أي قضية يتبناها، لا يقبل المساومة ويتصرف وفقًا لضميره الشخصي، ويسعى لتجسيد الكمال الإنساني بأفعاله، الأمر الذي جعل منه زعيمًا لا يُنسى”.