ترجمة وتحرير: نون بوست
أسست تونس، منذ أربع سنوات، أول هيئة مستقلة لتقصي الحقائق في العالم العربي ترأستها سهام بن سدرين. لكن خلال الشهر الماضي، أعلنت بن سدرين عن إنهاء أعمال هذه الهيئة. وبالنسبة للكثيرين، تتمثل رمزية هذه الهيئة في أنها الدعامة الأهم في طريق تحقيق أهداف ثورة 2011، التي نجحت في وضع حد لعقود من الحكم الديكتاتوري وحكم الحزب الواحد. واليوم، يشعر قلة قليلة أن هذه الهيئة ارتقت إلى مستوى الوعد الذي قطعته منذ نشأتها. فما الذي حصل؟
ماذا حققت هيئة الحقيقة والكرامة؟
تم تفويض هيئة الحقيقة والكرامة لكشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات التي ارتكبتها الدولة منذ سنة 1955، أي قبل سنة واحدة من حصول تونس على استقلالها من المستعمر الفرنسي، إلى غاية سنة 2013، أي بعد سنتين من اندلاع الثورة.
خلال فترة عملها، أي منذ أربع سنوات، تلقت هذه الهيئة 63 ألف ملف من ضحايا الانتهاكات، وعقدت 12 جلسة استماع علنية على شاشة التلفزيون تم بثها في وقت الذروة، وبدأت بإحالة القضايا إلى دوائر قضائية متخصصة في العدالة الانتقالية. كما عملت على جبر الضرر للضحايا وقدمت لهم تعويضات مادية وأخرى غير مادية، وأعدت تقريرا يتضمن النتائج والتوصيات التي توصلت إليها الهيئة على الرغم من أن رئيس الوزراء التونسي لم يعترف رسمياً بها التقرير.
وضعت الحكومة، التي تم تشكيلها مباشرة بعد ثورة 2011، أسُس عملية العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي في تونس
على الرغم من أن عمل الهيئة يتوافق مع التوقعات التي حددها قانون العدالة الانتقالية في تونس منذ البداية، إلا أنها تعرضت للنقد والتشهير من قبل الأطراف الفاعلة في الطيف السياسي. ولم تسلم الهيئة من النقد حتى من طرف ضحايا الانتهاكات، ناهيك عن الأفراد الذين شاركوا في تأسيسها منذ البداية، حيث أعربوا جميعهم عن عدم رضاهم عن الجهود التي تبذلها هذه الهيئة. لماذا؟
ما الذي سار بشكل خاطئ في عمل الهيئة؟
وضعت الحكومة، التي تم تشكيلها مباشرة بعد ثورة 2011، أسُس عملية العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي في تونس. ولطالما كان يُنظر إلى تأسيس هذه الهيئة على أنه مشروع ثوري. ولكن هذه الهيئة لم تحظ باهتمام كاف من قبل الحكومة، ولم تكن ضمن قائمة أولوياتها نظرا للمرحلة الحرجة التي كانت تمر بها البلاد. وقد أولت الحكومة اهتماما أكبر للمشاكل الاقتصادية والأمنية التي كانت أكثر إلحاحا.
من جهته، لم يول حزب نداء تونس الحاكم، الذي يضم النخب السياسية السابقة من عهديْ بن علي وبورقيبة، والرئيس الباجي قائد السبسي، اهتماما خاصا لعمل الهيئة. ورأى كلاهما أن القضايا الاقتصادية والأمنية في تونس يجب أن تكون لها الأولوية القصوى، لاسيما أن المجتمع بحاجة في هذه المرحلة الانتقالية إلى “طي صفحة” الماضي بدلا من ترسيخ ثقافة الانتقام في المجتمع.
لم يكن الائتلاف الحاكم، الذي ضم نداء تونس والنهضة، مهتما بإعادة النظر في الماضي برمته، لذلك حظيت الهيئة بقدر قليل من الاهتمام من قبل الائتلاف
كان لهذا النقد السامي وقع خاص بالنسبة للأعضاء والحلفاء المقربين من النظام السابق الاستبدادي، الذين انضموا إلى حزب نداء تونس بعد الثورة، علما بأن ما يقارب ثلث الجرائم الموثقة كانت جرائم متعلقة بالفساد الاقتصادي. في المقابل، لم تتمكن هيئة الحقيقة والكرامة من الانسجام بشكل مباشر مع البيئة السياسية لما بعد سنة 2014، التي طغت عليها النزعة نحو بناء توافق الآراء بين الأعداء-الحلفاء، نداء تونس وحزب حركة النهضة الإسلامي.
في الواقع، لم يكن الائتلاف الحاكم، الذي ضم نداء تونس والنهضة، مهتما بإعادة النظر في الماضي برمته، لذلك حظيت الهيئة بقدر قليل من الاهتمام من قبل الائتلاف أيضا. وفي البداية، أيدت النهضة التي عانى جلّ أعضائها من انتهاكات حقوق الإنسان في ظل الدولة، مهمة هيئة الحقيقة والكرامة، لكن مكانة هذا الحزب داخل الائتلاف الحكومي خففت من حدة موقفها فيما يتعلق بمسار العدالة الانتقالية أكثر مما كان متوقعا.
في الأثناء، أدى الصراع الداخلي حول رئاسة الهيئة إلى استقالة وتسريح شخصيات بارزة منها. وقد غطت وسائل الإعلام في تونس هذه الخلافات بشكل مثير ودقيق. وكانت رئيسة هذه الهيئة هدفاً لحملة تشهير إعلامية ضارية لم تهاجم إدارة الهيئة فحسب، وإنما شملت أيضا شخصها بشكل مباشر. وتجدر الإشارة إلى أن الهيئة واجهت منذ بداية تأسيسها عدة عراقيل بسبب بيروقراطية الحكومة المترسخة، حيث منعت الحكومة الهيئة من تسلم الملفات المناسبة، مما أعاق التحقيقات بشكل كامل.
دروس للمستقبل
عانت هيئة الحقيقة والكرامة من مشاكل أعمق شملت مهمتها والنهج الذي اعتمدته لتحقيق أهدافها، ولكن قد يكون هذا الأمر مفيدا في مسار العدالة الانتقالية حتى يتسنى لهيئات أخرى مستقبلية التعلم من هذه الأخطاء. كان للهيئة مجموعة طموحة من الأهداف؛ أولاً، تحديد أنظمة القمع التي أنشأتها الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال. ثانياً، تحديد وحماية ضحايا الانتهاكات التي ارتكبتها الدولة في حقهم. وأخيرًا، تقديم ضمانات للشعب التونسي بعدم عودة مثل هذه الأنظمة للحكم.
كُلفت الهيئة بالقيام بمهمتين للكشف عن جرائم القمع والاضطهاد
إن العدالة الانتقالية هي تجربة مؤلمة للغاية، حيث يُجبر الضحايا على استرجاع الانتهاكات التي تعرضوا لها، ويُفرض على المعتدين الاعتراف بجرائمهم. ومن الضروري، كما لاحظت بن سدرين مراراً وتكراراً، أن تكون هذه العملية سياسية ومثيرة للجدل.
كُلفت الهيئة بالقيام بمهمتين للكشف عن جرائم القمع والاضطهاد. أولاً، جمع شهادات حول الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان ضد المعارضين السياسيين والأيديولوجيين والمواطنين غير الممتثلين للنظام آنذاك. ثانياً، الكشف عن هياكل عدم المساواة، حيث عملت الأنظمة السابقة على تشكيل سياسة العقاب الجماعي ضد مناطق بأكملها. ويشير غياب المواءمة بين هذه الأهداف وموارد الهيئة المحدودة وإطارها الزمني إلى أن هذه الهيئة كان محكوما عليها بالفشل منذ البداية.
الكشف عن العنف الهيكلي
ركزت هيئة الحقيقة والكرامة على الضحايا بصفة عامة، حيث صنفت الضحايا وفقا لثلاث فئات: الفردية (انتهاكات حقوق الإنسان ضد أفراد)، الجماعية (اضطهاد مجموعات بأكملها على أساس المعتقدات السياسية والأيديولوجية والدينية)، والجهوية (تهميش ومعاقبة مناطق بأكملها بسبب مقاومتها للوضع السياسي الراهن). لكن أدى هذا الخلط بين مفاهيم كثيرة لمصطلح “الضحية” إلى تمييع، إن لم يكن إبطال، جوهر العديد من المطالب التي كانت مشروعة للغاية. وأصبح فصل الضحية عن منطق الدكتاتورية الشامل محاولة صعبة.
في حين يرى البعض أن هيئة الحقيقة والكرامة هي تجربة فاشلة، فإنه لا يمكن إنكار حقيقة أنها كانت حجر الأساس لسلسلة من المحادثات المهمة في تونس حول عنف الدولة وما يعنيه للمجتمع ككل
أدى الاندماج الشجاع للعنف الهيكلي إلى فتح الباب أمام إمكانية دراسة كيفية عمل النظام القمعي. إن هذه المهمة الطموحة بالتحديد، التي تتمثل في تحديد الانتهاكات التي ترتكبها الدولة على مستويات متعددة، هي التي أصبحت تميز عملية العدالة الانتقالية التونسية عن الجهود المبذولة في أماكن أخرى. وقد أدى إدماج العنف الهيكلي ودراسته إلى الكشف عن الآليات القمعية للدولة، بالإضافة إلى تحديد موقع عمل هذه الآليات التي استخدمتها الدولة بشكل مكثف من خلال الشهادات الحية لحالات فردية.
لقد برز ذلك بشكل خاص خلال جلسات الاستماع العلنية التي تم بثها مباشرة على شاشة التلفزيون، التي روى خلالها الضحايا تجارب التعذيب المروعة وأشاروا أيضا إلى العار والتهميش الذي تعرضوا إليه خلال سنوات من المراقبة الإدارية بعد إطلاق سراحهم. كما ساهم فضح آليات عنف الدولة، الذي كان محور أبحاث الأكاديميين والمفكرين خاصة في دول الشرق الأوسط وأفريقيا، في كشف النقاب عن الانتهاكات الفردية والعنف الهيكلي، التي اتخذت شكل التهميش والإقصاء وشكلت العناصر الأساسية لممارسات الدولة القمعية التي يعتمد عليها النظام. ربما كانت هذه المهمة معقدة ومثيرة للجدل وتتجاوز إمكانيات هيئة الحقيقة والكرامة.
في حين يرى البعض أن هيئة الحقيقة والكرامة هي تجربة فاشلة، فإنه لا يمكن إنكار حقيقة أنها كانت حجر الأساس لسلسلة من المحادثات المهمة في تونس حول عنف الدولة وما يعنيه للمجتمع ككل. وفي الوقت الذي أغلقت فيه هيئة الحقيقة أبوابها، تواصل العديد من المبادرات خارج نطاق مهمة العدالة الانتقالية الرسمية عملها، بما في ذلك الأفلام الوثائقية، وجهود تخليد الذكرى، ومعارض الفن والصور، ومحاكمات حقوق الإنسان، والتوثيق، والمناهج التعليمية. وبالتأكيد، ستساعد هذه التمديدات والمبادرات الناس على فهم الماضي وفهم أشكال العنف التي شهدها تاريخ تونس الحديث.
المصدر: واشنطن بوست