منذ مرّ العهود، عرف البحر الأبيض المتوسط الذي يتوسط القارتين الأوروبية والإفريقية، أحداثا كبرى حدّدت مصير المنطقة، فالمسيطر عليه له أن يحمي أرضه ويسيطر على أبرز المنافذ التجارية هناك، الأمر الذي دفع بالفاطميين إلى تقوية أسطولهم البحري حتى تمكّنوا من بسط نفوذهم على الجزء الأكبر من هذا البحر، فكيف تمّ لهم ذلك؟
اسطول بحري قوي
مع تأسيس الدولة في ربيع الآخر 297هـ/ (يناير/كانون الثاني) 910ميلادي، شرع عبيد الله المهدي يرسخ من وجوده السياسي والإداري بتقسيم الولايات، وإقامة الدواوين المالية، والتخلص من الأعوان الأقوياء الذين قامت الدولة الجديدة على أكتافهم، من ذلك عبيد الله المهدي من أبي عبد الله الشيعي الذي أقام له الدولة، وأسس له الشوكة.
لم يكتفي مؤسسة الدولة الحديثة بذلك فقط، بل اهتم أيضا بالأسطول البحري وانشاء الموانئ لتحقيق أهدافه في إقامة دولة عظيمة في البحر المتوسط. واستهلّ الأسـطول الفاطمي نشاطه المبكر فـي حوض المتوسط الغربي بتدعيم سـلطان الفاطمیین بشمال إفريقية وبسط سيطرتهم على الجهات الساحلية.
استغلّ الفاطميون ضعف الأسطول البحري الأوروبي في تلك الفترة، حيث كانت الملاحة الأوروبية في ذلك العصر في حالة یرثى لها من الضعف
رغبتهم في تركيز دولة قویة ذات قواعد عسكرية بریة وبحریة، جعلهم يهتمون كثيرا بالأسطول البحري، وانشاء الموانئ، وإقامة دور صناعة السفن على اختلاف أحجامها وفي الوقت نفسه، حتى یتمكنوا من أخذ زمام المبادرة وحمایة دولتهم من أي خطر مهما كان مصدره، وفتح مناطق جديد تضاف إلى مناطقهم.
كلّ ذلك جعل الأسـطول الفـاطمي متحكما بمياه البحر المتوسط، وقد بلغت قوته درجة كبیرة وتفاقم خطره على الأساطيل البيزنطية، وقد اتخذ المعـز لدین الله، المهدية وسوسة والمنصورة وغیرها من الموانئ أماكن تأوي إلیها سفنه.
ووصف الشاعر ابن هانئ الأندلسي أسطول المعز لدين الله الفاطمي رابع الخلفاء الفاطميين في “إفريقية” (تونس) وأولهم في مصر، بقوله، “لك البر والبحر العظيم عبابه، فسيان اغمار تخاض وبيد، أما والجواري المنشآت التي سرت، لقد ظاهرتها عدة وعديد، قباب كما تزجى القباب على المها، ولكن من ضمت عليه أسود، وما راع ملك الروم الا اطلاعها، تنشر اعلام لها وبنود..”.
لعبت دور صناعة السفن دور طبير في تقوية الأسطول البحري الفاطمي
وقد اعتنى الفاطميون كثيرا بالأسـطول البحري، وقد قدرت سفن الأسـطول الفـاطمي التـي بنیت فـي دور الصـناعة المصرية علـى عهـد الخليفة المعـز بـأكثر من 600 قطعة مختلفة الأشكال والأحجام وكان رجال الأسطول تشغلون مكانة سامیة بین مـوظفي ديوان الجیش وكان صاحب ديوان الجیش هو أمیر الأسطول.
مكنهم هذا الأسطول البحري القوي، من السيطرة على عدد كبير من جزر البحر الأبيض في حوضه الغربي، وقد مثلت تلك الجزر ستارة أمامية، أو خطًا دفاعيًا متقدمًا ضد خصوم الدولة على السواحل الجنوبية للمتوسط، وفي نفس الوقت تكون قواعد هجومية تهدد جنوب أوروبا كله.
عوامل التفوق الفاطمي
يرجع هذا التفوق البحري للفاطميين إلى عديد الجوانب، من ذلك كثرة القواعد البحرية في بلاد المغرب، فقد كان لامتداد السواحل التونسية والجزائرية واتصالها شرقًا بسواحل برقة وطرابلس وغربًا بسواحل المغرب الأقصى، أثر كبير في تعدد الموانئ التي تصلح لاتخاذها قواعد بحرية هامة، بالإضافة إلى كثرة الخلجان التي تتعمق في الداخل، مما يجعل القواعد البحرية في حماية من الرياح والتيارات المائية.
إلى جانب ذلك استغل الفاطميون، توافر المهارات والخبرات البحرية في منطقة شمال إفريقيا، فالنشاط البحري جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والاقتصادية لسكان تلك البلاد، فامتداد الساحل الإفريقي أثر في طبيعة السكان جعلهم خبراء ومهرة في شئون البحر وأموره.
وقد كتب المؤرخ التونسي ابن خلدون في هذا الأمر، والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحوال ما لا تعانيه أمة من أمم البحار، فقد كانت الروم والفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي، وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن، فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله.“
من الأمور التنظيمية التي اعتمدها الفاطميون في إدارة عملياتهم البحرية، إنشاء ديوان الجهاد أو العمائر كان مقره دار الصناعة بمصر
فضلا عن ذلك، استغلّ الفاطميون توفّر المواد الخام لصناعة السفن من أخشاب وحديد وألياف وقطران، ودور الصناعة في المنطقة، وساعد هذا الأمر في إقامة الفاطميين لأسطول بحري قوي. أما دور صناعة السفن فبإضافة لدار الصناعة في تونس والقائمة منذ أيام الأمويين بنى الفاطميون دار صناعة في المهدية، دار صناعة في سوسة، ودار صناعة في مدينة مرسى الخرز.
وقد تخصصت كل دار في إنتاج نوع معين من السفن، فهناك دور كانت متخصصة في بناء السكنديات والحربيات، ودور أخرى كانت تنتج المسطحات والأشرعة، وأخرى متخصصة في العلابيات والعشاريات وقوارب الخدمة.
كما استغلّ الفاطميون أيضا، ضعف الأسطول البحري الأوروبي في تلك الفترة، حيث كانت الملاحة الأوروبية في ذلك العصر في حالة یرثى لها من الضعف، حتى أن الفاطميين استطاعوا على الكثير من الجزر والمدن الأوروبية.
منافسة العباسيين والبيزنطيين والأميين
زمن تأسيس الدولة الفاطمية، كانت السيادة في الشرق للعباسيين، فيما كانت السيادة في الغرب والأندلس للأمويين، أما في شمال المتوسط أي في أوروبا فقد كانت السيادة راجعة للبيزنطيين، وهو ما صعب مهمة الفاطميين في ذلك الزمان.
خاض الأسطول البحري الفاطمي معارك كبيرة في المتوسط
من أجل تلك المنافسة بنى الفاطميون أساطيل بحرية قوية وكثيرة، حتى يتمكّن من التوسع غربا والقضاء على الأمويين، وهو ما فشل فيه، والتوسع شرقًا للقضاء على الدولة العباسية الضعيفة، وكان لفشل الأساطيل الفاطمية عدة مرات في الاستيلاء على مصر والأندلس، أثر كبير في توجيه الخلفاء الفاطميين كل عنايتهم بالبحرية.
من الأمور التنظيمية التي اعتمدها الفاطميون في إدارة عملياتهم البحرية، إنشاء ديوان الجهاد أو العمائر كان مقره دار الصناعة بمصر، ويختص ذلك الديوان بكل ما يخص الأساطيل الفاطمية من عدد للسفن وأنواعها ورؤساء الطواقم العاملة ورجالها لكل سفينة ونفقة كل واحد منهم، والولاة والمحتسبين والنواب.
بعد قرابة الستة عقود من التأسيس، تمكّن الفاطميون بفضل أسطولهم الحربي البري والبحري خاصة من السيطرة على مصر ونقل سلطانهم من المهدية في إفريقية إلى القاهرة، تمهيدا لغزو باقي الشرق والتمكّن من الخلافة الإسلامية.