في انعكاس للتوتر بين البلدين، أقدم الجيش الكوري الجنوبي، على تصعيد جديد ضد اليابان، وفي تقريره الدفاعي الجديد الذي يصدر كل عامين، حذف عبارة “يشتركان في قيم الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق” من الفقرات المخصصة للحديث عن العلاقات بين كوريا الجنوبية واليابان، وبدلاً منها قال: “سيول وطوكيو جارتان من حيث الجغرافيا والثقافة، وشريكتان تحتاجان إلى التعاون من أجل السلام والازدهار في العالم”.
الصياغة الجديدة، تعبر بشكل واضح، عن الإستراتيجية المطلوبة في المستقبل من اليابان، للتعاون من أجل السلام أولاً عبر تصفير فواتير الماضي، وبعد ذلك يأتي كل شيء، فالحديث عن قيم الديمقراطية والعمل الحر ترسخ في الجارتين، ولا حاجة للإشارة إليه بالأساس، ولكن هناك حاجة لتأسيس علاقات متساوية قائمة على العدالة من وجهة نظر الكوريين، وما يفسر المنهجية الكورية الجديدة، الحكم الصادر مؤخرًا من المحكمة العليا لكوريا الجنوبية، لصالح ضحايا العمل القسري الكوريين الجنوبيين، منذ عام 1910 وحتى عام 1945، وهو نزاع مكتوم عمره 100 عام، وبسببه تندلع مناوشات بين الحين والآخر، آخرها اتهام اليابان لسفينة حربية كورية جنوبية، بتوجيه الرادار الخاص بإطلاق النيران نحو طائرة دورية يابانية، بما أضاف برودًا دبوماسيًا في العلاقات بينهما.
أزمة الـ100 عام.. ما هي؟ ولماذا تجددت الآن؟
في نوفمبر من العام المنصرم، فرضت المحكمة العليا لكوريا الجنوبية، غرامات على اثنتين من أكبر الشركات اليابانية، تعويضًا لكوريين عن عملهم بشكل قسري خلال استعمار اليابان شبه الجزيرة الكورية، خلال الفترة ما بين 1910 و1945، وأشعلت الأحكام نار التوتر القائم بالأساس بين الجارتين، وهما رغم كل شيء، تمثلان نموذجًا يحتذى به في الشكل الأمثل للعلاقة بين الشركاء التجاريين الرئيسيين، لا سيما أنهما لديهما شراكة أيضًا في المخاوف الأمنية من تهور كوريا الشمالية واندفاعها نحو التسليح النووي.
حسب الرواية الكورية، كانت اليابان قد ساقت مئات الآلاف من الكوريين، خلال الفترة الاستعمارية، للعمل في ظروف وحشية، بالعشرات من الشركات اليابانية
اليابان من ناحيتها، تعتبر أن الأحكام إعادة للضرب على جراح سبق تسويتها، وتقول إن جميع هذه المطالبات تم التعامل معها رسميًا بموجب معاهدة ثنائية عام 1965، وترفض الالتزام قانونيًا بدفع أي مبالغ أخرى، وهو ما يزيد من حنق كوريا الجنوبية التي تؤكد أن اليابان كانت الطرف الأقوى آنذاك من كوريا، ما مكنها من فرض شروطها، وتعتبر أن التفاوض بهذا الشكل سيؤدي لاندلاع نزاعات مماثلة، بشأن أزمات نابعة من الفترة الاستعمارية، وتشير إلى برود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، التي تعظمها احتجاجات في الشارع الكوري مناهضة لليابان، وتدعو لمقاطعة البضائع اليابانية.
حسب الرواية الكورية، كانت اليابان قد ساقت مئات الآلاف من الكوريين، خلال الفترة الاستعمارية، للعمل في ظروف وحشية، بالعشرات من الشركات اليابانية، ولم يعوض هؤلاء عن آلامهم ومعاناتهم وقت معاهدة 1965 التي أقامت العلاقات الدبلوماسية بين كوريا الجنوبية واليابان، حيث دفعت الأخيرة ما يعادل 300 مليون دولار (2.4 مليار دولار من أموال اليوم)، كما منحت كوريا الفقيرة آنذاك 200 مليون دولار أخرى، في شكل قروض منخفضة الفائدة، وهي النواة التي ساعدت كوريا في توطين الصناعات، بما حولها إلى قوة اقتصادية عالمية بحسب الرواية اليابانية.
وتلزم الأحكام الكورية الجديدة، شركة ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة بدفع ما يصل إلى 134 ألف دولار إلى 10 أشخاص، خضعوا للعمل القسري، وكذلك شركة نيبون ستيل أند سوميتومو ميتال كورب التي أُلزمت بدفع 88 ألف دولار لكل أربعة مدعين، ومع رفض الشركات اليابانية الالتزام بالأحكام، لجأ محامو كوريا الجنوبية عن المدعين، إلى تهديد شركة نيبون ستيل، بالاستيلاء على أصولها في كوريا الجنوبية، إذا لم تستجب لطلباتهم، أو على الأقل إجراء محادثات للتوصل لتفاهمات ودية بشأن الأزمة.
تعتبر الحكومات اليابانية، الملف الكوري ضربة سياسية قد تطيح بأي حكومة، إذا تم الاستسلام للكوريين على هذا النحو
وترفض الشركتان الدفع، بتعليمات من الحكومة اليابانية، حتى لا تجد شركات أخرى نفسها مطالبة باتخاذ نفس النهج، لتسديد فواتير الأسلاف في عهد الاستعمار واستخدامهم للعمالة الكورية المجندة، خاصة أن قوائم الشركات المتهمة باستغلال الكوريين، تصل إلى نحو 70 شركة، ولا تستند الادعاءات الكورية إلى الذاكرة الوطنية، ولكن على وثائق من الدول الاستعمارية الكبرى وأوراق بحثية من كبرى جامعات العالم المعنية بالعلاقات الدولية، وخاصة جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة، والأخيرة أكدت أن العمالة الكورية استغلت في العمل بالسخرة بالبر الرئيسى لليابان وجزر المحيط الهادئ الجنوبية، وفي صناعات اليابان للتعدين والبناء وبناء السفن، وأكدت أن معظم العمال توفوا بسبب المعاملة القاسية، وهو ما دفع بأسرهم لطلب التعويض المناسب.
من يدفع الثمن السياسي للملف الكوري؟
تعتبر الحكومات اليابانية، الملف الكوري ضربة سياسية قد تطيح بأي حكومة إذا تم الاستسلام للكوريين على هذا النحو، وفي الوقت الحاليّ، ما يزيد من تعنت اليابان، وجود رئيس وزراء من خلفية محافظة مثل شينزو آبي الذي يتمسك بموقف بلاده في غلق الملف وفقًا للتسوية السابقة خلال ستينيات القرن الماضي، وهو ما يزيد من حدة التوتر بين البلدين، لا سيما أن الاتفاقات القديمة كانت محل نزاع أيضًا، ولم يكن عليها إجماع، لذا تجددت الأزمة ويبدو أنها ستظل ملفًا مشتعلاً لأطول مدة ممكنة.
ورغم محاولة طوكيو اللجوء إلى حليفها التقليدي الولايات المتحدة للتخفيف من حدة التوتر مع جارتها، تلعب اليابان أيضًا على محاولة استمالة رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن وهو محام استمد شهرته من الدفاع عن حقوق العمال الكوريين من قبل، ولكن شواهد الأحداث، وبسبب اهتمام الرأي العام الكوري بالقضية، في الغالب ستفشل المحاولة اليابانية، ولن يرضى الرئيس بتقديم مستقبله السياسي أضحية لليابان وإثارة غضب مؤيديه إذا قرر الاقتراب من الملف أو حتى الإشارة لأي تصرف قد ينتهك استقلال القضاء، ولكنه في المقابل طرح أحد الخيارات التي يرضى عنها الرأي العام، بإنشاء صندوق من الشركات اليابانية، للنظر في الدعاوى القضائية، بالتعاون مع الشركات الكورية التي استفادت أيضًا من أموال اليابان في الستينات لدفع التعوضيات للمتضريين الكوريين.
انفجار اجتماعي ومزايدة بين البلدين
انفجار الرأي العام بالغضب والسخط، انعكس على حكومتي البلدين، وتجنب كل من آبي ومون اللقاءات المباشرة في قمتين عالميتين خلال الشهرين الماضيين، بسبب المشاحنات الدائرة في الصحف من كلا الاتجاهين، فألُغيت لقاءات ثنائية كانت مرتبة، خاصة أن الصراع لم يقف فقط على أزمة التعويضات، ولكن القوى السياسية والإعلام والقوى الاجتماعية، لم يعد لديهم عمل أفضل من التنقيب عن الأعمال المسيئة لليابان في كوريا.
لا يقف مسلسل الأزمات بين البلدين على الدعارة والسخرة، بل هناك تنازعات مشتعلة أيضًا بشأن مجموعة من الجزر الصخرية المعروفة باسم دوكدو باللغة الكورية وتاكيشيما باللغة اليابانية
وبرزت بجانب قضايا التعويضات العديد من الموبقات الأخرى ـ حسب الرواية الكورية ـ التي تطالب بمحاسبة اليابان اقتصاديًا، على أزمة نساء المتعة الكوريات اللاتي تم تهريبهن إلى بيوت الدعارة العسكرية اليابانية قبل وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، وترفض اليابان أيضًا فتح باب تسوية جديد في هذه القضية، بعدما أغلقتها عام 2015 بالتراضي بين حكومتي البلدين.
كانت حكومة اليابان قد وافقت قبل سنوات على دفع مليار ين ياباني (نحو 7.5 ملايين يورو) لبضع عشرات من نساء المتعة اللواتي ما زلن على قيد الحياة، كما قدم رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الاعتذار للضحايا، وعبر عن ندمه من أعماق قلبه، إلا أن الإعلام الكوري ما زال يرى أن ما اتفق عليه ليس كافيًا، ويعتبره اتفاقًا معيبًا من الأساس، وهو ما انعكس على الحكومة الكورية التي قررت في وقت لاحق حل صندوق كان أساسًا لاتفاقية 2015.
ولا يقف مسلسل الأزمات بين البلدين على الدعارة والسخرة، بل هناك تنازعات مشتعلة أيضًا بشأن مجموعة من الجزر الصخرية المعروفة باسم دوكدو باللغة الكورية وتاكيشيما باللغة اليابانية، وكلا الدولتين تعتبران الجزر من حقهما، رغم الولاية الإدارية على الجزر من كوريا الجنوبية، ورغم كل المعطيات السابقة، لا يمكن القول إن هناك نية لتصعيد التوتر ليصبح خطرًا كبيرًا على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بما ينتج عنه تصعيدًا عسكريًا، لن تستفيد منه إلا كوريا الشمالية التي تشكل خطرًا مشتركًا للجنوبيين واليابانيين، وإشغال غضب واشنطن، حليفة الحكومتين، التي تدفعهما لتسوية الخلافات والتركيز على العمل المشترك لمواجهة طموحات الصين المتزايدة في المنطقة.