راهن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، كثيرًا على الإضراب العام الذي نفذته المركزية النقابية في البلاد الخميس، لتسجيل أهداف في مرمى خصمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وترجيح الكفة لصالحه باعتباره “صمام أمان” الديمقراطية التونسية الهشة، إلا أنه فشل في ذلك، فالإضراب مر مرور الكرام كيوم عادي في حياة التونسيين، ولم يحدث ما كان ينتظره السبسي.
“الخميس الأسود”
قبل 3 أيام من الإضراب العام، أطل السبسي على التونسيين من متحف باردو الذي شهد أعنف الهجمات الإرهابية في البلاد في مارس/آذار 2015، محذرًا من عودة “الخميس الأسود”، وما أسماها “مصائب الإضراب العام”، قائلاً: “الإضراب العام الذي أقره اتحاد الشغل قد تنتج عنه مصائب لا يعرف قيمتها إلا من عاش إضراب 78”.
ودعا السبسي الجميع إلى تحمل مسؤوليته في إيجاد حل لمنع نتائج صعبة قد تنتج عن الإضراب العام مثل تلك التي شهدتها تونس سابقًا في 26 من يناير/كانون الثاني عام 1978، وأدت إلى تفكك الوحدة الوطنية التي تلافتها تونس بعد عشرات السنين.
لم يكن السبسي هنا محذرًا، بل كان مذكرًا بما حصل حتى يحصل ثانية، فقد كان يتمنى أن يتحول الخميس الـ17 من يناير/كانون الثاني 2019، إلى الخميس 26 من يناير/كانون الثاني 1978، ويشهد هذا اليوم ما شهدته البلاد في ذلك اليوم من 41 سنة.
يخشى السبسي من أن يزول نجمه ويخفت صوته ويفقد جاهه، مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في خريف السنة المقبلة
يتذكر التونسيون جيدًا ما حصل في يناير 1978، حيث شهد أحداثًا عرفت فيما بعد باسم أحداث “الخميس الأسود” المفصلية في تاريخ تونس، يومها عرفت البلاد صدامات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة، بعد أن أعلنت قيادة “المنظمة الشغيلة” رفضها للسياسة التي تتبعها الحكومة، مما أدى إلى اندلاع مواجهات واعتقالات ووفاة العديد تحت التعذيب.
حينها، قرر الاتحاد العام التونسي الشغل الإضراب العام في البلاد، نتيجة عدم استجابة النظام لمطالبه، حيث عمت تونس مظاهرات تحمل مطالب سياسية ونقابية عديدة، واجهها نظام بورقيبة بالخيار الأمني، فكانت بداية الصدام بين الطبقة الشغيلة التي يقودها اتحاد الشغل ونظام الحبيب بورقيبة، وشهدت تونس يومها نزول الجيش لأول مرة إلى الشوارع وانتشاره في العاصمة.
وتشير مصادر نقابية إلى سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى في العاصمة وبقية المدن التونسية خلال هذه الأحداث، فيما أقرت السلطة آنذاك بسقوط 52 قتيلاً و365 جريحًا فقط، كما تمت إحالة 30 من القيادات النقابية إلى محكمة أمن الدولة وهم أعضاء المكتب التنفيذي والكتاب العامين للاتحادات الجهوية والكتاب العامين للجامعات والنقابات العامة والأساسية، في حين تمت مقاضاة المئات من النقابيين الآخرين أمام المحاكم العادية، حسب مؤرخين.
النفخ في النار
خرج الرئيس السبسي من امتحان الإضراب العام بهزيمة قاسية، فقد كان طوال الأيام التي سبقته ينفخ النار، ويتمنى انزلاق إضراب الموظفين إلى العنف والفوضى، ليخرج بعدها في ثوب منقذ البلاد من حمام دم، كما يحلو له أن يروج لنفسه دائمًا.
أراد السبسي، أن يتم تحويل وجهة الإضراب الذي شمل القطاع العمومي والوظيفة العمومية، إلى أزمة سياسية ووقيعة نهائية بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة التي يرأسها خصمه السياسي الشاب يوسف الشاهد.
آلاف الموظفين في إضراب نتيجة الاختلاف مع الحكومة في الزيادة في الأجور
جاء هذا الإضراب العام، في سياق اقتصادي واجتماعي صعب، تميز بارتفاع حالة الاحتقان في البلاد، حيث تعرف العديد من المناطق احتجاجات للمطالبة بالتنمية، وبانهيار القدرة الشرائية للتونسيين، وغلاء أسعار العديد من السلع والمنتجات، وتنامي ظاهرة الاحتكار في البلاد وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية وانزلاق قيمة الدينار.
كل هذه المعطيات السلبية، أراد السبسي أن يستغلها في معركته ضد يوسف الشاهد لمصلحته ومصلحة الحزب الذي أنشأه ويقوده ابنه حافظ قائد السبسي، فكلاهما يسعى إلى استبعاد الشاهد، حتى يعبدا الطريق أمامهما خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية المرتقبة.
ويخشى السبسي من أن يزول نجمه ويخفت صوته ويفقد جاهه، مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في خريف السنة المقبلة، وهو الشخص الذي تعود على الأمر وما على السامع إلا السمع والطاعة، دون استفسار أو طلب توضيح.
من الانسجام إلى العداء
على امتداد أكثر من عامين منذ تولي الشاهد رئاسة الحكومة في أغسطس/آب 2016، تميزت العلاقة بين القصبة وقرطاج بتطورات كبرى، فقد كانت العلاقات بينهما في البداية مستقرة ويسودها الانسجام في المواقف، غير أن تصاعد الأزمة السياسية وخروج نداء تونس من الحكم أزم العلاقة بينهما، إلى أن وصلت إلى طريق مسدود.
وتعرف تونس، مؤخرًا، أزمة سياسية عميقة نتيجة الحرب الدائرة بين يوسف الشاهد والسبسي الذي يصر وإن كان همسًا على رحيل الشاهد بدعوى إخفاقه في إنعاش الاقتصاد المنهك ووصول المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات كارثية، وهو ما ينفيه الشاهد.
استطاع رئيس الوزراء التونسي الشاب يوسف الشاهد، منذ توليه منصبه في قصر القصبة أن يقوي مكانه بعد أن كان سياسيًا مغمورًا
كثيرًا ما يستعمل الطرفان صلاحيتهما للانتقام من بعضهما البعض وتسجيل نقاط لصالحهما دون النظر إلى المصلحة العامة للبلاد، وهو ما يعتبر خطرًا على الانتقال الديمقراطي الذي تشهده تونس منذ يناير/كانون الثاني 2011، وفي كل مرة، يسعى السبسي إلى التأكيد أنه اللاعب الأبرز الأساسي في المشهد العام في البلاد، ولا يمكن لأحد إقصاؤه أو تحييده على الرغم من محدودية صلاحياته.
ويسعى السبسي الأب إلى تسجيل نقاط في مرمى الشاهد، خاصة بعد الضربات الأخيرة التي تلقاها من رئيس الحكومة الشاب، وتعتبر هذه الأعمال التي دأب الرئيس التونسي الباجي قائد سبسي على القيام بها في الفترة الأخيرة، دليلاً على حجم التخبط الذي أصبح عليه الرجل البالغ من العمر 92 سنة، فخروج يوسف الشاهد عن طوعه أفقده الكثير من قوته التي كان يتمتع بها إلى وقت قريب.
الأنظار موجهة إلى الانتخابات
هذا الصراع بين الطرفين، الهدف منه تعبيد الطريق إلى الانتخابات، فالأنظار موجهة هناك، ومن المنتظر أن تشهد تونس في الشهر الأخير لهذه السنة انتخابات رئاسية مصيرية، انتخابات كلما اقترب موعدها ارتفع منسوب الأزمة السياسية في البلاد أكثر، فكل طرف يسعى إلى تعبيد الطريق أمامه للوصول إلى قصر قرطاج والجلوس فوق كرسي الرئاسة خلال الخمس سنوات القادمة.
ولئن لم يعلن السبسي رسميًا إلى الآن ترشحه من عدمه إلى هذا الاستحقاق الانتخابي، فإن العديد من المؤشرات تبين أنه سيترشح لمنصب الرئاسة مرة أخرى أم لا، ويحق له دستوريًا الترشح لولاية ثانية، وكان قد وصل إلى منصب الرئاسة عقب فوزه في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2014 على حساب منافسه الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي.
ويعمل الرئيس السبسي، منذ أشهر على تجميع فرقاء الماضي، تحت الشعار نفسه، وهو محاصرة حزب النهضة وقطع الطريق عليه، غير أن الجديد هذه المرة، هو ظهور الشاهد أمامه، والذي يخشى أن يفتك منه أنصاره الذين كانوا سببًا في وصوله إلى قرطاج.
يسعى السبسي إلى البقاء في الحكم لفترة أطول
يتوقع أن يترشح الشاهد أيضًا إلى هذا الاستحقاق الانتخابي، ويسعى هذا الأخير إلى الاستفادة من التحسن الاقتصادي الذي تعرفه البلاد مؤخرًا، وإلى الاستفادة من مؤسسات الدولة للترويج لشخصه وتلميع صورته خاصة بعد إعلانه الحرب على الفساد التي اتخذها مطية للقضاء على بعض الوجوه التي تدعم الشق الذي يواليه العداء ويسعى إلى إبعاده عن الساحة السياسية في البلاد.
واستطاع رئيس الوزراء التونسي الشاب يوسف الشاهد، منذ توليه منصبه في قصر القصبة أن يقوي مكانه بعد أن كان سياسيًا مغمورًا، حتى إنه استطاع استمالة الكتلة الأساسية لنواب حزب نداء تونس، ووراثة الحلف القائم مع “النهضة”، ما أفقد الرئيس السبسي كل أوراقه السلطوية.
ويعتزم رئيس الحكومة الحاليّ يوسف الشاهد الإعلان عن حزب سياسي، يوم 27 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، يدخل به غمار الانتخابات المقبلة في مسعى إلى افتكاك أنصار حزب نداء تونس بقيادة نجل الرئيس الحاليّ، وهو ما زاد في درجة الاحتقان بينه وبين السبسي الأب والابن.
لئن تراجع منسوب الاحتقان السياسي بتونس في الفترة الأخيرة، مقارنة بما كان عليه سنة 2013 التي عرفت فيها تونس موجة عنف واغتيالات سياسية واحتجاجات كبيرة في الشوارع، كادت أن تجهض الانتقال الديمقراطي، فإن ما تشهده البلاد اليوم من أزمة على مستوى أعلى هرم السلطة من شأنه أن يرجع البلاد إلى نقطة الصفر في حال أصر طرفا الأزمة على المكابرة وتغليب مصالحهما الشخصية على مصلحة البلاد العليا.