بات العراقيون يستهلكون كل ما هو مستورد في السنوات الأخيرة، إذ أضحى البحث عن المنتجات العراقية في أسواق البلاد كالباحث عن الإبرة في كومة قش، فالعراق الذي اعتمد سكانه إبان سنوات الحصار الدولي في تسعينيات القرن الماضي على الصناعة والزراعة المحلية، باتت أسواقه مكتظة بالمنتجات الأجنبية إلى حد التخمة.
وعد ذنون صاحب معمل لإنتاج مواد التنظيف المنزلية، يقول في حديثه لـ”نون بوست”: “مع سقوط النظام العراقي السابق في عام 2003، تراجعت الصناعة في العراق إلى حد لم تشهده البلاد في تاريخها الحديث”، ذنون الذي كان يمتلك مصنعًا لإنتاج الجلود والأحذية، اضطر إلى إغلاق مصنعه، بعد أن باتت كلفة الاستيراد أقل بكثير من كلفة الإنتاج.
ما زال الميزان التجاري في العراق يشهد ارتفاعًا مستمرًا في قيمة الاستيراد منذ عام 2003
ويصف ذنون الوضع الصناعي في البلاد بأنه دمّر عن سابق إصرار، مع عدم حماية الدولة للمنتج المحلي وفتح باب الاستيراد على مصراعيه دون أي رقابة أو سيطرة نوعية أو جمارك.
إفراط في الاستيراد وإغراق السوق
ما زال الميزان التجاري في العراق يشهد ارتفاعًا مستمرًا في قيمة الاستيراد منذ عام 2003، فالعراق الذي يعتمد في موازنته المالية العامة على بيع النفط بما يزيد على 90% من مجمل الموازنة، تجاوز حجم التبادل التجاري بينه وبين الصين 21 مليار دولار عام 2018 وفق بيانات عراقية رسمية، إذ إن العراق يصدر للصين ما قيمته 15 مليار دولار من النفط، مقابل استيراد سلع تفوق قيمتها 7 مليارات دولار، ومرشحة للزيادة في العام الحاليّ.
أما إيران، فإنه وبحسب أمين لجنة تنمية العلاقات الاقتصادية الإيرانية مع العراق حسن دانائي، فإن العراق عام 2018 تبوأ المرتبة الأولى في استيراد السلع الإيرانية بتكلفة تقارب الـ11 مليار دولار، ويشمل هذا الرقم تكلفة السلع الإيرانية والطاقة المستوردة من الجمهورية الإيرانية، وبحسب دانائي، فإن إيران تطمح إلى زيادة قيمة صادراتها للعراق لرقم قياسي جديد.
الجهاز المركزي للإحصاء في العراق التابع لوزارة التخطيط، أعلن عبر موقعه الرسمي أن إجمالي الاستيرادات السلعية غير النفطية لعام 2016 بلغت 50 مليار دولار
أما تركيا التي تعد أكثر الدول المجاورة تصديرًا إلى العراق، فإنه وبحسب السفير التركي لدى العراق فاتح يلدز، فإن بلاده تهدف إلى رفع حجم التجارة مع العراق إلى 20 مليار دولار عام 2019 بزيادة 3 مليارات دولار تطمح تركيا إلى إضافتها إلى مجمل صادراتها للعراق في عام 2018.
وكان الجهاز المركزي للإحصاء في العراق التابع لوزارة التخطيط، قد أعلن عبر موقعه الرسمي أن إجمالي الاستيرادات السلعية غير النفطية لعام 2016 بلغت 50 مليار دولار.
تدني قيمة الجمارك وتسببها في تراجع الصناعة
ميناء أم قصر في جنوبي العراق
يعتقد المحلل الاقتصادي العراقي باسم جميل أنطوان أن قرار الحاكم المدني في العراق بول بريمر الذي خفض من قيمة الرسوم الجمركية على جميع السلع المستوردة إلى 5% فقط عام 2004، ساهم بشكل كبير وأساسي في تدهور الصناعة العراقية، ويرى أنطوان في حديثه لـ”نون بوست” أن غالبية من تسلموا زمام السلطة في البلاد بعد عام 2003، يعمل جلهم في التجارة، ومن مصلحتهم عدم نمو القطاع الصناعي في البلاد.
يعتقد أمين سر اتحاد رجال الأعمال في الموصل موفق الدركزلي في حديثه لـ”نون بوست” أن الفساد الإداري والمالي ساهم في تدمير القطاع الصناعي في العراق
ويؤكد أنطوان أنه وعلى الرغم من أن العراق قد شرع أربعة قوانين في عام 2010 وهي قوانين التعرفة الجمركية وحماية المستهلك والتنافسية ومنع الإغراق السلعي، فإن هذه القوانين ظلت حبيسة الأوراق التي كتبت عليها ولم تفعل حتى الآن، مؤكدًا في ختام حديثه أن العراق يفتقد لمنهجية استيراد مدروسة ورصينة، وجميع ما يدخل العراق من بضائع مستوردة غير متطابقة مع معايير جهاز التقييس والسيطرة النوعية.
توجه الصناعيين نحو الاستيراد
معن سالم تحول من مصنّع إلى مستورد، إذ يقول في حديثه لـ”نون بوست” إنه كان يملك مصنعًا لإنتاج “البراغي” في العاصمة بغداد قبل عام 2003، إلا أنه ونتيجة عدم قدرة منتجاته على منافسة المنتج الأجنبي الأرخص ثمنًا، فإنه لجأ إلى استيراد البراغي من الصين لرخص ثمنها ومردودها المادي الكبير، ويرى سالم أن عدم وضع تعرفة جمركية كبيرة على البضائع الأجنبية التي يوجد ما يضاهيها محليًا، أدى إلى إغلاق مئات المصانع التي كانت ترفد السوق العراقية.
أما زيد أسامة الذي يعمل في مجال الملابس والمفروشات، فيؤكد لـ”نون بوست” أن العراق بات يخلو من أي مصانع تنتج الملابس والمفروشات، وأن غالبية مصانع الغزل والنسيج في البلاد توقفت، وأن جميع ما يلبسه العراقيون أو يلتحفون به، هي منتجات أجنبية صينية وإيرانية وتركية وغيرها.
ليست الصناعة وحدها ما تراجعت في العراق، إذ بات جل ما يأكله العراقيون من فواكه وخضراوات مستوردًا
ويعتقد أمين سر اتحاد رجال الأعمال في الموصل موفق الدركزلي في حديثه لـ”نون بوست” أن الفساد الإداري والمالي ساهم في تدمير القطاع الصناعي في العراق، ويؤكد أن مصلحة جميع الدول المجاورة تكمن في عدم انتعاش الصناعة العراقية، بعد أن بات العراق سوقًا استهلاكيًا كبيرًا ونهمًا، مشيرًا إلى أن ما حصل في العراق مؤخرًا من تسمم أحواض تربية الأسماك ونفوق الملايين منها، إضافة إلى التسمم الأخير الذي أصاب محصول الطماطم في البصرة، يضع العديد من علامات الاستفهام على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الكوارث التي تشهدها البلاد.
العراق.. من الاكتفاء الزراعي إلى الاستيراد
ليست الصناعة وحدها ما تراجعت في العراق، إذ بات جل ما يأكله العراقيون من فواكه وخضراوات مستوردًا، بعد أن كان العراق في العقود الماضية مكتفيًا ذاتيًا ويصدر منتجاته الزراعية الفائضة إلى بلدان عدة.
الناطق الرسمي باسم وزارة الزراعة حميد النايف يؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن جميع الدول المجاورة للعراق، تدعم فلاحيها المصدرين وتمنحهم إعفاءات ضريبية، إلا أنه وبحسب النايف، فإن العراق يفتقر لهذه الإستراتيجية، ويفتقر كذلك للتسويق وصناعة التعليب، الذي يؤدي إلى تصدير محاصيل زراعية خام، يعود العراق إلى استيرادها بأضعاف سعرها بعد دخولها في صناعات تحويلية.
باتت عبارة “صنع في العراق” من الماضي
ويضيف النايف أنه وعلى الرغم من أن وزارة الزراعة خاطبت المنافذ الحدودية مرارًا بمنع إدخال 12 مفردة (محصول) زراعية لحماية الزراعة المحلية – ومن ضمنها التمور والطماطم -، فإن تلك المفردات تدخل بطرق غير قانونية، ولا سلطة لوزارة الزراعة على منعها، لأنها تقع خارج نطاق مسؤولياتها.
وعن حجم الاستيراد العراقي للمحاصيل الزراعية، كشف النايف أن الأعوام الماضية شهدت استيراد محاصيل زراعية لا تقل قيمتها عن 12 مليار دولار كل عام، إلا أن هذا الرقم بدأ بالتراجع مؤخرًا.
وفي ظل السياسات الحكومية المعمول بها حاليّا، يبدو أن الصناعة والزراعة في العراق لن تشهدا نموًا في المدى المنظور، بعد أن باتت عبارة “صنع في العراق” من الماضي.