منذ أيام تسود حالة من الهدوء الحذر في شمال شرق سوريا، عقب هجمات تركية عنيفة استهدفت مواقع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، أعقبت هجومًا على شركة “توساش” للصناعات الدفاعية في العاصمة أنقرة، راح ضحيته خمسة أشخاص وتبنّاه حزب العمال الكردستاني.
وعلى إثر هذا الهجوم، شنت تركيا سلسلة من عمليات القصف استهدفت مواقع لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وبنى تحتية ومنشآت نفطية في شرق سوريا، في استراتيجية جديدة بدأتها أنقرة منذ أشهر هدفها تجفيف مصادر تمويل حزب العمال.
وبينما أعلنت وزارة الدفاع التركي استهداف استهداف أهداف تابعة لتنظيم “PKK” شمالي سوريا والعراق، ذكرت “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” أن القصف استهدف مصافٍ نفطية ومنشآت الكهرباء والطاقة.
في خطاب ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب هجوم أنقرة، قال إن اختيار الهدف وتوقيت الهجوم الإرهابي الذي تزامن مع وصوله إلى العاصمة التترية قازان للمشاركة في قمة مجموعة بريكس، “لم يكن صدفة”.
وأضاف عقب ترؤّسه اجتماعاً للحكومة التركية في المجمع الرئاسي التركي بالعاصمة أنقرة، أن هذا “العمل الإرهابي الدموي الغادر” يتوافق مع فترة بدأ فيها مناخ مختلف بالظهور في السياسة الداخلية التركية.
وأشار أردوغان، إلى أن الردّ على الهجوم الإرهابي كان بتدمير أوكار التنظيم الانفصالي في سوريا والعراق و”هدمها فوق رؤوسهم”، وكشف أن القوات التركية استهدفت أكثر من 470 نقطة لتنظيم “PKK” عقب هجوم توساش، وحيّدت 213 شخصًا.
توقيت استثنائي
تشير تصريحات أردوغان حول توقيت الهجوم، إلى المبادرة التي أطلقها حليفه الرئيسي “دولت بهشتلي” قبل ساعات من هجوم أنقرة، حول دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني “عبد الله أوجلان” إلى الحضور أمام البرلمان، وإعلان إلقاء السلاح وتحقيق السلام في تركيا، مقابل إمكانية منحه “حق الأمل”، وهي الدعوة التي قوبلت بالرفض، على لسان “جميل بايك”، القيادي في التنظيم المصنّف إرهابياً في تركيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي.
وقال “بايك” رداً على دعوة “بهشتلي”: “نحن من يدير الأمور. أوجلان ليس مسؤولًا.. ولا يمكنه اتخاذ قرار في هذه الأمور. نحن فقط من يمكننا اتخاذ قرار بسحب القوات المسلحة إلى الخارج. لا يمكن لحزب الشعوب الديمقراطي ولا أوجلان اتخاذ ذلك القرار. إذا كانت هناك دعوة من هذا القبيل، فنحن من نقرر ذلك”، وهو ما يؤكد تصريحات أردوغان بأن “الهجوم الإرهابي على شركة توساش كشف مجدداً من يتحكم بهذا التنظيم الانفصالي”.
عقب الهجوم توعّد الرئيس التركي بأن بلاده “ستجتث الإرهاب من جذوره”، مشدداً بالقول: “إن كان ذلك بسوريا فسنفعل ما تقتضيه الضرورة”.
وفي إحاطة قدّمتها وزارة الدفاع التركية على حسابها الرسمي بمنصة “أكس”، قال متحدث باسمها، إن القوات المسلحة التركية “ستواصل حربها ضد الإرهاب بكل عزيمة حتى يتم تدمير جميع أوكار الإرهابيين، ولا يبقى إرهابي واحد، ويختفي الإرهابيون الدمويون من هذه الجغرافيا”.
Millî Savunma Bakanlığının faaliyetleri başta olmak üzere gündemdeki konulara ilişkin olarak Haftalık Basın Bilgilendirme Toplantısı gerçekleştirildi.
Basın ve Halkla İlişkiler Müşaviri Tuğamiral Zeki Aktürk tarafından icra edilen toplantıda şu bilgiler paylaşıldı:
TERÖRİSTLER… pic.twitter.com/BkRtyAhTZs
— T.C. Millî Savunma Bakanlığı (@tcsavunma) October 24, 2024
استهداف البنية الاقتصادية
رغم قوة التصريحات التركية بخصوص الانتقام من حزب العمال وذراعه السورية “قسد”، إلا أن الردّ التركي في سوريا لم يكن بمستوى عملية عسكرية تشمل هجوماً برياً أو تغييراً في خرائط السيطرة، وإنما اكتفت بتوجيه ضربات جوية ضد مواقع تابعة لـ”قسد” تشمل البنية التحتية للطاقة ونقاطاً لوجستية ومستودعات ذخيرة، في سعي تركي إلى تحقيق “هدف عسكري محدود”، وهو إضعاف البنية الاقتصادية لـ”قسد”.
إضافة إلى تحييد منظومة القيادة والسيطرة لدى تلك الميليشيات، وتدمير مرابض الصواريخ والمنشآت الحيوية، بحسب ما يرى المحلل العسكري عبد الله الأسعد، رئيس مركز رصد للدراسات الاستراتيجية.
ورغم أهمّية هذه الهجمات كردّ عسكري مباشر على هجوم “توساش”، يضيف “الأسعد” لموقع “نون بوست” أن “شنّ الهجمات وإرسال تعزيزات تركية ليس بالضرورة أن يكون مؤشراً لبدء عملية عسكرية موسّعة في الشمال السوري”.
وكانت القوات التركية دفعت بتعزيزات عسكرية إلى قواعدها في منطقة عملية “نبع السلام” شمال محافظتي الرقة والحسكة، عقب هجوم أنقرة، شملت أكثر من 57 شاحنة محمّلة بالأسلحة والمواد اللوجستية، وناقلات جنود وسيارات إسعاف.
ويؤكد الأسعد أن “جميع العمليات العسكرية في المنطقة عموماً، وفي الساحة السورية خصوصاً، محكومة بتفاهمات سياسية، بين اللاعبين الأساسيين على الأرض، وفي حال تم التوافق تركياً وأمريكياً، فستكون التعزيزات التركية الجديدة تمهيداً لعملية عسكرية ضد مواقع قسد”.
وتمنع التفاهمات السياسية المعقدة بين القوى الدولية أي تغيير كبير في خارطة شمال شرق سوريا، حيث تجد تركيا نفسها مقيدة في تنفيذ عملية برية واسعة النطاق دون الحصول على ضوء أخضر من اللاعبين الدوليين في المنطقة وخاصة الولايات المتحدة وروسيا.
ورغم التصريحات التركية المتكررة التي تؤكد أنها لا تنتظر موافقة أحد وأنها تتخذ قراراتها بناءً على مصالحها الوطنية، إلا أن الواقع يشير إلى أن توازنات القوى الدولية، خصوصاً الضغط الأمريكي والروسي، يفرض قيودًا على التحركات التركية في المنطقة.
وبناء على هذه التفاهمات بدأت تركيا باتباع نهج عسكري مغاير لما كانت تتبعه تجاه هذه المنطقة، وبرز ذلك قبل عام من الآن وعقب هجوم أنقرة 2023 والذي استهدف مبنى مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية التركية.
وفقاً لـ “معهد الشرق الأوسط” فإن التغيرات في الاستراتيجية العسكرية التركية شرق سوريا تبرز في طبيعة الأهداف التي كانت هدفاً للطائرات التركية، فبعد أن كان القصف التركي يقتصر على استهداف قادة مرتبطين بـ”قسد”، بدأت أنقرة باستهداف البنية التحتية النفطية، “بما في ذلك حقول النفط ومصافي التكرير، بالإضافة إلى محطات الطاقة ومستودعات الأسلحة والمعسكرات العسكرية والمقرات الإدارية والمالية”.
وحسب المعهد فإن “الغرض من هذه الاستراتيجية هو تجفيف مصادر تمويل حزب العمال الكردستاني في سورية، والتي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية”.
ما النقطة الفارقة في هجوم “توساش”؟
شكّل هجوم “سوتاش” رمزية كبيرة في الأوساط التركية لعدة اعتبارات، بعضها يتعلّق بأهمية الشركة التي توصف بأنها “قلب الصناعات العسكرية التركية”، والآخر يتعلق كذلك بتوقيت الهجوم.
وعرض مركزSETA التركي للدراسات، عدة آراء لباحثين ومختصين، أكدوا أن الهجوم يُعد مختلفاً من ناحية الأهمية عن هجمات سابقة استهدفت مراكز أمنية وشرطية في تركيا، واعتبر أحد الآراء أن الهجوم يُعد “تحدّياً شخصياً للرئيس التركي”.
بينما ربط الباحث Can Acun الهجوم بالظروف السياسية الراهنة والتطورات الإقليمية، موضحاً أن تنظيم حزب العمال وذراعه السورية “قسد”، يجد أن الصراعات في المنطقة تشكّل “فرصة عظيمة لزيادة نفوذه”.
وأضاف: “قد يرغب التنظيم الإرهابي (حزب العمال وذراعه السورية) في ضم إسرائيل إلى العلاقة التي أقامها مع الولايات المتحدة في سوريا”، وأن التنظيم فيما يبدو أظهر قلقاً من إمكانية حل المشكلة الكردية عن طريق أوجلان، ولذلك يسعى إلى إفشال أي خطوة باتجاه السلام، متوقعاً -بحسب التطورات الحالية- أن “التنظيم الإرهابي سوف يرغب في تنفيذ هجمات استفزازية مماثلة”.
بالإضافة إلى ذلك، تجد الحكومة التركية نفسها بعد الهجوم، تحت ضغط انتقادات المعارضة، التي تحدثت عن “ضعف استخباراتي وأمني”، بحسب المتحدث البرلماني باسم حزب الشعب الجمهوري “مراد أمير”، الذي قال: “هناك إرهابيون يأتون من سوريا بحرّية ويمكنهم بسهولة إجراء عمليات استطلاع قبل أيام”.
Grup Başkanvekilimiz Murat Emir:
“Meclis Başkanı’nın bir aferin demediği kalmış. Burada iyi hazırlanmış bir terör saldırısı yok.
Burada istihbarat zafiyeti, güvenlik zafiyeti var. Suriye’den elini kolunu sallayarak gelen, günler öncesinden rahatça keşif yapabilen teröristler… pic.twitter.com/8pxFegqMr4
— CHP 🇹🇷 (@herkesicinCHP) October 25, 2024
وتوقّع تقرير سابق لموقع “نون بوست” أن ترفع تركيا مستوى التصدّي لميليشيات “قسد” في سوريا،
“إسرائيل تخطط لغزو الأناضول”.. ماذا وراء تصريحات الرئيس التركي؟
بعد سلسلة تصريحات للرئيس التركي حذّر فيها من سيناريو خطير يتم التحضير له عقب العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان، يتعلق بغزو دمشق ثم الوصول إلى الشمال السوري وتهديد الأراضي التركية و”غزو الأناضول”. فيما يمكن تفسير مخاوف أردوغان من قوله إن خطر إسرائيل يكمن من خلال “إنشاء هياكل صغيرة تابعة لها في شمال العراق وسوريا، باستخدام المنظّمة الانفصالية كأداة”، قاصداً حزب العمال الكردستاني، وذراعه السورية “قوات سوريا الديمقراطية” قسد.
وتكررت تصريحات الرئيس التركي على لسان وزير الدفاع “يشار غولر”، الذي أعاد الحديث عن “جرّ المنطقة إلى اضطرابات كبيرة بسبب جهود إسرائيل لنشر إرهاب الدولة في لبنان”.
وأضاف: “في ظل هذه الأجواء الحرجة، يمكننا ضمان الردع بشكل أفضل من خلال الاستعداد لجميع السيناريوهات المحتملة وانتهاج سياسات استباقية.. الصراعات الخارجية، ولا سيما في المنطقة القريبة (من تركيا)، وتهديد الإرهاب والصراعات الجيوسياسية تحتّم على الجيش التركي زيادة جاهزيته القتالية”.
في الواقع، إن جميع الظروف الميدانية في المنطقة عموماً وفي الشمال الشرقي السوري خصوصاً، والتصريحات التركية عقب الحرب في لبنان، وهجوم سوتاش، يؤشر كل منها إلى أن تركيا تستشعر خطراً قادماً من حدودها الجنوبية، يتمثل بتوسيع نفوذ “قسد” أو دعمها عسكرياً، أو دعمها سياسياً من خلال إجراء انتخابات محلية تأجلت في أيار مايو الماضي تحت ضغوط تركية على واشنطن، ويُتوقّع أن يعود الحديث عنها في إطار إحراج أنقرة ودفعها لتقديم تنازلات.
قد لا تُقدِم تركيا على عمل عسكري سريع في شمال شرق سوريا في هذه الفترة، فيما لا يستبعد “الأسعد” أن يواصل الجيش التركي شن هجمات نوعية ضد البنية التحتية ومواقع القيادة لدى “قسد”، لإقصاء أي أخطار مستقبلية قد تهدد الأراضي التركية من ناحية، وتوسيع الممر الأمني ومنع تكوين كيانات انفصالية في خاصرتها الجنوبية من جهة ثانية.